أفلام الحركة بين الدراما الاجتماعية والأداء الحركي الخالص

يوسف منصور الذي لمع نجمه في أفلام الحركة في أفلام التسعينات يوسف منصور الذي لمع نجمه في أفلام الحركة في أفلام التسعينات

لم تتكرر أسطورة وحش الشاشة مرة أخرى، بالرغم من أن فريد شوقي لم يكن يتمتع بالقدرات الجسمانية والرياضية التي تتطلبها أدوار الأكشن في السينما، بنحو ما تحقق في نجوم الأجيال اللاحقة، مثل أحمد السقا، الذين اهتموا بتنمية هذا الجانب كجزء هام من برنامج إعداد الممثل. فقد كان شوقي نسيج وحده، لأنه كان يتمتع بروح وخفة ظل ابن البلد، بالإضافة إلى حرصه على اختيار موضوعات أفلامه، وأحياناً كتابة قصتها بنفسه، وهى موضوعات اجتماعية، في الغالب، تمس الطبقات المتوسطة والكادحة، ما جعل لشوقي مكانة خاصة فى قلوب الجماهير، وساهم فى تربعه على عرش النجومية طوال مراحل حياته الفنية، فكان اسم فريد شوقي، نجمنا القديم الجديد في آن، أحد أهم الأسباب لاتخاذ قرار دخول السينما، خاصة أنه احتضن الكثير من المواهب الجديدة مثل نور الشريف ومحمود عبد العزيز وأحمد زكى.

وفى هذا السياق، أذكر فترة طرح فيلم “الباطنية” فى دور العرض، والذى أخرجه حسام الدين مصطفى عام 1980 وكنت وقتها في المرحلة الإعدادية، وكان الفيلم محققاً لنجاح جماهيري كبير، وكانت الطوابير أمام سينما رمسيس، التي شاهدت فيها الفيلم، طويلة جداً ومرهقة من فرط الزحام. أما لماذا نجح الفيلم؟ فليس هذا هو موضوع المقال، وإنما لماذا احتشدت الجماهير لمشاهدة هذا الفيلم؟.. إذا رجعنا إلى تجربتنا الذاتية، فيمكنني أن أقول إن فيلماً يجمع بين وحش الشاشة ونجمة الجماهير (نادية الجندي) في ذلك الوقت كان كافياً لإقدام الجماهير على الفيلم، غير أن الفيلم، فى الحقيقة، كان يضم كوكبة كبيرة من نجوم هذا الزمن، وعلي رأسهم محمود ياسين وفاروق الفيشاوي وأحمد زكى وعماد حمدي. غير أن الأسباب الأكثر قوة وجذباً لمشاهدة الفيلم كانت بعض المشاهد التي تناقلها الجمهور الذى شاهد الفيلم وأذاعها للذين لم يشاهدوه. منها أن مكان أحداث الفيلم كان منطقة الباطنية، التي تقع خلف حي الأزهر، وتشتهر بتجارة المخدرات تحت سمع وبصر السلطة. وهى مسألة مثيرة جعلت من الحي والفيلم أسطورة فى الوقت نفسة، ما جعل الناس تهرع إلى السينما لمعرفة أسرار الحياة المثيرة لتجار الموت في هذا الحي.

فريد شوفي في لقطةمن فيلم “الباطنية”

ومن المشاهد التي حركت خيالي وسمعتها من جمهور الفيلم، الذين سبقوني بامتياز مشاهدته، مشهد ذلك الرجل المدمن الذى دفع بابنته الصغيرة لتجار المخدرات ثمناً مقابل الحصول على قطعة حشيش. ومشهد الرجل الذي تم دفنه حياً لأنه كان خائناً للعقاد (فريد شوقي)، ومشهد مقتل ابني برعي (محمود ياسين) في غرفة نومهما لتسيل الدماء على أقلامهما وكراساتهما وأدواتهما الدراسية. ومشهد سفروت (أحمد زكى) العبيط، الذى تحول فجأة إلى بطل خارق يجيد فنون القتال ليفتك برجالة العقاد وينقذ وردة (نادية الجندي) من الموت. ومشهد النهاية الميلودرامي، الذى استأجرت فيه وردة من يقتل ابنها دون أن تعرف أنه ابنها، ولا تستطيع اللحاق به فيسقط بين احضانها غارقاً في دمه.

ومجموعة هذه المشاهد، التي لا تعبّر عن أحداث الفيلم أو قيمته الفنية، كانت السبب في إقبال الناس على الفيلم، لأن المسألة تحولت إلى نوع من ألعاب البازل المثيرة، بحيث يجمع كل شخص المشاهد التي تلقاها، مشتتة، في وعيه ليعيد بناء اسطورته الخاصة، كما حدث معي، أضف إلى ذلك الأفيشات التي كانت تملأ الشوارع والميادين بصورة لكبار النجوم في زي تجار المخدرات.

والحقيقة، أن ما يقوم به جمهور أي فيلم جماهيري، إنما هو أشبه بالإعلانات الدعائية للأفلام، حيث تعيد تقديم المضمون من خلال لقطات سريعة منتقاه، لتجعل المشاهد يرسم صورة مثيرة وجذابة لأحداث الفيلم، التي تأتى فى الغالب على خلاف هذه الصورة.

لقطة من فيلم “الباطنية”

وفى سياق الحديث عن الدور الذى يمكن أن تلعبه الإعلانات الدعائية فى دفع الجمهور إلى الذهاب إلى السينما، أذكر فترة عرض فيلم “العجوز والبلطجي” الذى أخرجه ابراهيم عفيفي عام 1989، وكنت وقتها في المرحلة الجامعية، بينما كنت أذاكر مع صديق لي وزميل فى الدفعة، وفى أثناء الاستراحة من المذاكرة، خرج علينا التليفزيون المصري بإعلان بالغ القوة والجاذبية، عندما شاهدنا، لأول مرة، بطلاً مصرياً يستعرض مهاراته القتالية، مستخدماً أداة القتال الشهيرة في ألعاب الدفاع عن النفس والمعروفة ب “الفلا مانش”. وكان أهم ما ميّز هذا الإعلان هو الصوت المميز للإعلامي الشهير أحمد سمير، الذى كان مصاحباً للمشهد، وهو يردد “لأول مرة في مصر.. يوسف منصور.. بطل الكونغ فو العالمي”.

والحقيقة أن يوسف منصور لم يكن معروفاً لنا، كشباب، لا على مستوى الرياضة ولا على مستوى الفن. غير أن الأداء الحركي المميز، مع بعض مشاهد الأكشن التي استخدم فيها منصور مهاراته فى لعبة الكونغ فو، كانت كافية للفت الأنظار، والتفكير جدياً وسريعاً فى دخول السينما لمشاهدة هذه الأسطورة السينمائية الجديدة. وإذا أردنا تحليلاً أبعد للدافع الملح، الذى نما داخلنا فجأة، فيمكننا الرجوع إلى علاقة هذا الجيل بأفلام الكاراتيه والكونغ فو التي قدمتها السينما الصينية فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وشاهدها الشباب في سينمات الدرجة الثالثة، التي كانت تقدم ثلاثة أفلام في بروجرام واحد، ما يكفى لتشكيل وعى هذا الشباب على النحو الذى جعله عاشقاً لهذا اللون من الرياضة العنيفة، بحيث كان يحفظ شكل ملابسها، وأدواتها، والكثير من حركاتها، وفوق هذا وذاك كان يحفظ أسماء أبطالها، خاصة بروس لي، أيقونة أفلام الحركة لسنوات طويلة عالمياً، الذي كانت صوره تملأ الشوارع  و”التى شيرتات” وأغلفة المجلات. ولا ترجع شهرة بروس لي، الذى لم يقدم للسينما سوى خمسة أفلام فقط، لأعماله السينمائية التي استحوذت على عقول الشباب في ذلك الوقت، ولكن لحياته الشخصية المثيرة التي انتهت بوفاته فى ظروف غامضة فى سن صغيرة (32 سنة).

وإذا اعتبرنا بروس لي صاحب الموجة الأولى الرائدة، فى عالم أفلام الكاراتيه والكونغ فو، فإن جاكي شان وجيت لي يُعدان من أبرز أبطال الجيل الثاني في هذا اللون من الأفلام، خلال الثمانينيات والتسعينيات. والحقيقة أن كلاهما استطاع أن يشق لنفسه طريقاً مختلفة عن بعضهما البعض، وعن بروس لي المعلم الأول. فإذا كان هذا الأخير قد اهتم بالبعد الخارجي للحركة، وكان هذا في وقته يُعد أمراً جديداً، فإن تلميذيه حاولا أن يجعلا من الحركة مظهراً لمضمون نفسي أو عقلي، فأحدهما (جاكي شان) كان يقدم الحركة تعبيراً عن مواقف كوميدية ساخرة، والآخر (جيت لي) كان يقدمها تعبيراً عن مواقف نفسية معقدة. وفى كل الأحوال نجح النجمان في الاستحواذ على وعى الشباب خلال العشرين عاماً المشار إليها، خاصة فى ظل انتشار نوادي الفيديو التي أتاحت للجمهور مشاهدة كم كبير من الأفلام عموماً، ولهذه النوعية على وجه الخصوص.

فى هذا السياق تحول فريد شوقي إلى مظهر من مظاهر الحنين إلى الماضي، بينما لم يعد مقنعاً للأجيال الجديدة، خاصة أن فريد شوقي نفسه، كان حريصاً على الخروج من عباءة أدوار الحركة التي لم تعد تناسبه، وبدأ في التحول للأدوار الإنسانية. وفى هذا السياق لا أنسى أداءه، الذى أصرّ على أن يكون كوميدياً في أول فيلم كاراتيه مصري “الأبطال” الذى أخرجه حسام الدين مصطفى عام 1974 وقام ببطولته احمد رمزي وفريد شوقي. وفى هذا الفيلم تشعر وكأن فريد شوقي يقدم مباراة اعتزال لأدوار الحركة، ويسلم الراية لأحمد رمزي، بالرغم من أن رمزي نفسه كانت قد بدأت تظهر على ملامحه علامات الكبر.

ليس هذا فحسب، بل إن بروس لي تحول إلى تاريخ، وصار الشباب يشعر بالحميمية والألفة بنحو أكثر مع جاكي شان وجيت لي أبطال الفيديو وأفلام العيد الجدد.

فى هذا المناخ خلت الساحة العربية من البطل الشعبي المصري، الذى كان من الممكن أن يحل محل فريد شوقي وأحمد رمزي، بل إن الشباب فتح ذراعيه لنجوم هوليوود، بجانب نجوم الصين، التي كان يتربع على عرشها فى ذلك الوقت نجمان للحركة من العيار الثقيل: سلفستر ستالوني، وأرنولد شوارزنجر، كما يمكنك أن تضيف إليهم أميتاب بتشان، الأسطورة الشرقية القادمة من الهند.

فى ظل كل هذا، كان أمراً طبيعياً أن يتعطش الشباب لنموذج عربي لبطل الحركة يشبه هذه النماذج الأجنبية ولو من بعيد. لذلك كان يوسف منصور حديث الشباب في أول ظهور له على شاشة التليفزيون، في الإعلان الدعائي للفيلم. أي أن شهرة منصور كبطل حركة شعبي وصلت إلى الشباب حتى قبل أن يدخلوا السينما ويشاهدوا الفيلم.

وأذكر فى ذلك التاريخ أن قرار مشاهدة الفيلم لم يأخذ وقتاً طويلاً، فقد توجهت أنا وبعض أصدقاء الدراسة لمشاهدة الفيلم، وكان معروضاً بسينما أوبرا، فى ميدان الأوبرا بوسط البلد، فى نهاية الأسبوع.

لقطة من فيلم “العجوز والبلطجي”

وكما هو متوقع، كان الزحام شديداً، وكانت الأفيشات “مكسًرة الدنيا”، ومن مظاهر الدعاية كانت هناك لوحة خشبية بارزة بالحجم الطبيعي ليوسف منصور في وضعية قتال شهيرة، مستعارة من أفيشات بروس لي الكلاسيكية. والحقيقة أن الزحام لم يكن كبيراً فحسب، وإنما كان كبيراً جداً بحيث لم نستطع الوصول إلى شباك التذاكر، ولم يكن أمامنا سوى الانصراف، واختيار حفلة أخرى تكون أقل زحاماً، فدخلنا حفلة العاشرة صباحاً، الحفلة الوحيدة التي لم يكن بها زحام كبير. وعندها استطعنا أن نقترب من الصور الدعائية للفيلم، التي كانت تملأ جدران السينما من الداخل، وكانت كلها تتعلق بالمشاهد المثيرة التي يظهر فيها يوسف منصور.

والحقيقة أن منصور لم يخيب أملنا فيه عندما شاهدناه بأعيننا على الشاشة، بطلاً مصرياً خالصاً، بالرغم من أنه كان يشبه، إلى حد ما، أبطال العالمين الشرقي والغربي اللذين أحببناهما وتعلقنا بهما، غير أن المفاجأة، التي وقعت على رؤوسنا كالصاعقة، إنما كانت مقتل حسن (يوسف منصور) بعد الربع ساعة الأولى من الفيلم، وليقرر إبراهيم عفيفي، بجرأة غريبة، أن يستكمل الفيلم بهشام عبد الحميد كبطل أول للفيلم، وأحد أطراف الصراع الرئيسية مع العصابة، التي قتلت حسن من ناحية،  و ربيع الجبلي (كمال الشناوي) المجرم المخضرم من ناحية أخرى.

لقد آفاق الجمهور على حقيقة مريرة، إنه كان ضحية خدعة، لا أقول رخيصة، ولكن مشروعة. فالفيلم يستحق المشاهدة، ويوسف منصور لم يكن ليحمل بطولة فيلم على أكتافه فى أول ظهور له، فقد آثر إبراهيم عفيفي أن يستفيد من كاريزمته الرياضية كبطل كونغ فو في جذب الجماهير إلى فيلم “العجوز والبلطجي”، الذى لم يكن اسم هشام عبد الحميد، بالرغم من وجود كمال الشناوي، ليضمن له النجاح الجماهيري، على أن يدّخر يوسف منصور، البطل الشعبي المنتظر، لفيلم تال يقوم ببطولته المطلقة، وهو “قبضة الهلالي”. وتتوالي أفلام وبطولات يوسف منصور جفي أفلام عديدة لاحقة، يحقق بعضها النجاح ويفشل البعض الآخر، لتنتهي أسطورة يوسف منصور سريعا، لأسباب تحتاج إلى دراسة مستقلة، لعل أهمها غياب الموهبة التمثيلية، و كاريزما البطل الشعبي من ناحية، وضعف الورق (السيناريوهات) والإمكانيات من ناحية أخرى.

ولا يفوتني أن أذكر أن فيلم “العجوز والبلطجي”  لم يحظ بالاهتمام النقدي الكافي، بالرغم من أنه كان يعتمد على قصة سينمائية مثيرة، كتبتها ماجدة خير الله، تصلح مادة جيدة لفيلم ناجح. كما كان الفيلم بمثابة شهادة ميلاد جديدة لنجومية هشام عبد الحميد، التي بدأها بفيلم” غرام الأفاعي”، أضف إلى ذلك الدور المميز الذى لعبه كمال الشناوي ببراعة ذكّرتنا بشخصية “عباس أبو الدهب” التى لعبها فى التحفة الكلاسيكية المعروفة “المرأة المجهولة”.

Visited 112 times, 1 visit(s) today