“أفراح صغيرة”.. الجرأة العرجاء
يمكن إعتبار فيلم “أفراح صغيرة” للمخرج محمد الشريف الطريبق، فيلما ينتمي لشمال المغرب، أكثر من إعتباره فيلما مغربيا. ليس هذا إنتقاصا من الهوية المغربية الفيلم، ولكن الواضح أن موضوعه مستوحى من إحدى الخاصيات التي يمكن أن نجدها في الشمال المغربي، ولا نجدها في أي منطقة أخرى في المغرب.
ويتعلق الأمر بالفتيات اللواتي وصلن للتوسن البلوغ. وتتحرك فيهن رغبة عاطفية جياشة. ويقمن بأي شيء يمكن أن يحقق لهن طموحاتهن العاطفية، كالتزيين لإثارة الأنظار إلى جمالهن. أوالرقص في الحفلات على إيقاعات وأنغام الغناء الشمالي المغربي الأنيق. أوالذهاب إلى السينما بحثا عن الأجواء العاطفية، على الشاشة أوخارجها.
وقد لاحظت هذا شخصيا عندما دخلت قاعة سينمائية بمدينة طنجة لمشاهدة أحد الأفلام المغربية، فوجدت نفسي بين القليل جدا من الذكور، والكثير من الإناث اللواتي ملأن القاعة. وفيلم أفراح صغيرة أيضا يؤكد على هذه الظاهرة في بعض مشاهده التي تصور قاعة السينما المكتظة بالإناث. هذه الملاحظة تؤكد تلك الخاصية التي تميز الإناث في الشمال المغربي. ولابد أن تحيل ملاحظها إلى التفكير في مكامنها وبواعثها.
يقدم فيلم “أفراح صغيرة” نفسه على أنه فيلم جريء ويرتدي رداء الليبرالية وحرية الفرد، وكأنه يدافع عن حقه في ممارساته وحريته في جسده، وأن يفعل فيه ما يشاء، ويتبنى هذه القيم، على أنها قيم الحداثة. ويحاول تجسيد ذلك في الشخصية الرئيسية الفتاة نفيسة، التي تعيش حالة تحول من شخصية سوية جنسيا ترتبط بعلاقة عاطفية مع شاب، إلى شخصية شاذة عن القاعدة. في العلاقة العاطفية بين الجنسين. أي إلى علاقة عاطفية مع مثيلتها في الجنس، وهي صديقتها الجديدة فطومة، التي فتحت لها عاطفتها وبيتها.
إلى هنا يتبين أن الفيلم جاء مغايرا لما ألفته السينما المغربية، فهذا هوأول فيلم مغربي إقتحم موضوعا كان ولا يزال يعتبر مألوفا فقط في السينما الغربية. وهوالعلاقة الجنسية الشاذة عن القاعدة، والتي تجمع بين إثنين من جنس واحد. ويسمى بين الإناث بالسحاق. لكن الفيلم بدا عليه الدخول في هذا الغمار مستعصيا إلى حد بعيد. ولم يمتلك الجرأة الكافية لخوضه بنجاح. لا على مستوى الصورة، ولا حتى على مستوى الصوت. لأن ذلك يتطلب التعبير الجسدي، أي توظيف الجسد للتعبير عن فكرته وموضوعه. فلم نشاهد أيا من هذا، سوى تلك اللقطة الوحيدة والخجولة لنفيسة وفطومة في بيت الأخيرة.
وحتى هذه اللقطة، كانت الفتاتان تتحدثان عن تجربتهما العاطفية السوية، وبقدر من الإيمان بتلك التجربة. مما شوش كثيرا من فكرة الفيلم، ومما يدل أيضا على أن حتى ممثلات الفيلم، ربما لا يعلمن أنهن يتقمصن دور شخصيات شاذة جنسيا، ويمثلن في فيلم عن المثلية الجنسية.
وهكذا تابعنا فقط علاقة صداقة حميمية بين فتاتين، حاول الفيلم جاهدا (عبثا) أن يغلفها بالمثلية. أكثر بكثير من كونها علاقة جنسية مثلية. ما أود قوله تحديدا، أن المخرج ورط نفسه في موضوع يتطلب توظيف لغة الجسد في التعبير. دون أن يستطيع لذلك سبيلا. وبالتالي حصر نفسه في ذلك الفلك الذي تسبح فيه تلك النوعية من الأفلام المغربية التي تراهن على نجاح الفيلم، من الإتيان بالجديد على مستوى الموضوع. إي تناول موضوع لم يسبق التطرق إليه من قبل في السينما المغربية، ويتصورون أن تلك الميزة في إختيار الموضوع إمتيازا، مما يؤدي بهم إلى نوع من التطرف. إما منتهجين أسلوب التجسس والتلصص على خبايا مجتمعاتهم والبحث والتنقيب عن أي شيء يمكن أن يثير إنتباه المشاهد، وإما ينسخون مواضيع من أفلام أجنبية بعيدة وغريبة عن المجتمع المغربي.
وفيلم “أفراح صغيرة” يجمع بين الإثنين. من جهة: ينقب في خبايا الوسط النسوي في المجتمع التطواني في الخمسينات، ومن جهة أخرى: يستخرج منه موضوعا بعيدا كل البعد عن المجتمع المغربي المعاصر، وبالأحرى مجتمع الخمسينات. ويبدوفي نهاية المطاف، أن المخرج كان يهدف إلى نقل المشاهد إلى الوسط النسائي التطواني في الخمسينات للإطلاع على خباياه وأسراره الخفية.
هكذا وضع فيلم أفراح صغيرة نفسه بين مطرقة موضوع بعيد جدا عن الإهتمامات الإجتماعية، وسندان عدم امتلاكه الجرأة الكافية لإقناع المشاهد بأنه يشاهد فعليا فيلما عن المثلية بين فتاتين. إلا من خلال إيحاءات سردية غير مقنعة لأنها بعيدة عن التوقعات التعبيرية عن الموضوع المختار. مما أفقره كثيرا من الناحية التعبيرية. رغم كل المجهود الذي بذله. بما في ذلك الوصلات الغنائية التي تلي بعض اللحظات العاطفية والدرامية للفتاتين فطومة ونفيسة. والتي لم تف بالغرض الموظفة من أجله. خاصة في بداية الفيلم. حيث باتت غير مفهومة. فالوصلات وظفت للتعبير عن علاقة عاطفية بين شخصين، بينما لا يوجد أي شيء يوحي بذلك.
ففطومة لا نستنتج أنها فعلا فتاة مثلية، إلا بعد تكرار لقاءاتها مع نفيسة، وتحكي لها قصتها مع المدرس الذي كانت تربطها معه علاقة عاطفية، وكيف تريد التخلص منه، يتقوى لدينا ذلك الشعور عندما تقول لها نفيسة: يبدو انك لا تريدين الزواج. لكن ينقلب الشعور تماما عندما ترد عليها: أريد شخصا من منطقة أخرى. وتقول لها أيضا: أريد شخصا أحبه جدا. هنا يبرز التناقض الواضح في الشخصية الرئيسية في الفيلم. مما يضفي الكثير من الإلتباس حولها، وفي موضوع الشذوذ في الفيلم. فهي أنثى مثلية جنسية، لكنها تعبر عن رغبتها في شخص ذكر؟ وتعلن عن رغبتها في الزواج برجل؟ وتعبر عن إستعدادها لمبادلته الشعور بالحب؟
مشكلة الفيلم تحديدا، تكمن في نظرته للمجتمع التطواني القديم والمحافظ، والذي يقدمه لنا كمجتمع منغلق، حيث ينعزل فيه النساء عن الرجال. هذه النظرة، جعلت مخرج الفيلم يتصور أن هذا الإنغلاق الإجتماعي، يدفع الشخصيات النسوية إلى الشذوذ الجنسي. على غرار ما يعيشه الشاذون في تلك المجتمعات التي يندفع فيها الناس إلى الشذوذ، بدوافع الحرية والتحرر الذي يعيشون فيه. فالمخرج يريد أن يقدم لنا فيلما يحاكي الأفلام القادمة من تلك المجتمعات المشبعة بالحرية، لكنه يقدم لنا مجتمعا منغلقا، وأشذ ما يكون متعطشا لهذه الحرية. ولا يقدم أي تحليل يجعل المشاهد يقتنع بشخصياته وحالاتها والأحداث التي تمر بها. ويعتقد أن الجرأة في تناول مثل هذا الموضوع، ستعطي للفيلم ميزة وإمتيازا. ولا يدري أن تلك الجرأة العرجاء هي التي جعلت الكثيرين يتساءلون عن موضوع الفيلم، أوما يريد أن يقوله. لأن الواضح، أن العلاقة التي تجمع نفيسة مع فطومة، هي علاقة صداقة لا غير.