“أشباح اسماعيل” الكئيبة تفسد افتتاح مهرجان كان
اختار مدير مهرجان كان السينمائي تيري فريمو، أن يكون فيلم افتتاح الدورة السبعين، فيلما ينتمي للدولة المضيفة فرنسا، هو فيلم “أشباح اسماعيل” للمخرج أرنو ديسبلاشن. والسبب الذي يروج في أوساط المهرجان أن رفض قبول الفيلم السابق للمخرج نفسه وهو فيلم “سنواتي الذهبية” (2016) ضمن المسابقة الرسمية أو حتى البرنامج الرسمي ولو خارج المسابقة، رغم مستواه الفني الرفيع، وذهابه عوضا عن ذلك لافتتاح تظاهرة “نصف شهر المخرجين” المنافسة، أثار غضب الصحافة الفرنسية، مما دفع إدارة المهرجان إلى قبول الفيلم الجديد ربما دون أن تهتم كثيرا بوجود نسختين من الفيلم نفسه، الأولى هي النسخة القصيرة التي عرضت في الافتتاح (111 دقيقة) والثانية نسخة أطول بنحو عشرين دقيقة، وكلتاهما من اختيار المخرج في حدث غريب من نوعه وإن لم يكن استثنائيا!
غير أن المشكلة لا تكمن في اختيار النسخة ففي يقين كاتب هذا المقال، أنه أيا كانت النسخة فالمشاكل التي يعاني منها الفيلم مشاكل كامنة في بنيته من أول السيناريو الذي يُعد العمود الفقري للفيلم.
مشكلة السيناريو
إن أي مشاهد محايد لهذا الفيلم الذي قوبل بوجوم شديد عند نهاية عرضه أمام النقاد والصحفيين، يمكنه أن يدرك على الفور لماذا يتأرجح مستوى معظم المخرجين الفرنسيين صعودا وهبوطا، ولماذا يفشل الفيلم الفرنسي الذي يرغب في الوصول إلى شريحة عريضة من الجمهور، في تحقيق هدفه، بينما ينجح الفيلم الأميركي. فوصفة النجاح في الفيلم الأميركي الشائع تتركز أساسا في السيناريو.. كيف يمكن أن يقنعك بالشخصيات التي تشاهدها أمامك وتتابع مشاكلها وتعقيدات العلاقات فيما بينها، وكيف تشعر وأنت تتابع الحبكة أنك أصبحت أيضا طرفا مباشرا فيها أو على الأقل، أن من صاغها يحترم ذكاءك ويقدم لك شيا يمكنك فهمه واستيعابه دون أن تضل في منتصف الطريق.
هذا فيلم يريد صاحبه أن يتجنب الحبكة التقليدية، وأن يروي قصة فيها من ذاكرته الذاتية، وأن يطعمها ببعض المصادر والإشارات إلى بعض الأفلام الشهيرة وخاصة من عالم هيتشكوك، ولكن هيتشكوك كان يعمل على السيناريو من الألف إلى الياء، يعيد كتابة الفيلم مرات ومرات ويكتب الديكوباج التفصيلي بنفسه، ويجعل أبطال أفلامه قريبين من المتفرج مهما بدوا بعيدين، في عالم من الخيال الساحر من دون أن يدخلك في متاهات.
بطل “أشباح اسماعيل” ويدعى اسماعيل مسيحي برتستانتي، وليس عربيا أو مسلما كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، خاصة وهناك الكثير من الأحاديث في الفيلم عن الانتماءات الدينية لشخصياته، وهو مخرج سينمائي يحاول أن يخرج فيلما يدور في أجواء الجاسوسية والمغامرات، تدور أحداثه في طاجيكستان وغيرها، بطله الشاب “إيفان” حصل على عمل بالسلك الدبلوماسي الفرنسي ثم أرسل إلى دوشنبه حيث يتحول بعد ذلك إلى رجل استخبارات ربما دون أن يدري هو نفسه، فلاشئ في ذلك الفيلم من داخل الفيلم واضح أو منسوج بطريقة تثير الاهتمام باستثناء المشهد الأول الذي يدور في أروقة الخارجية الفرنسية حيث يجري اسناد الوظيفة إلى إيفان بشكل عبثي على عكس توقعاته.
أما اسماعيل (ماتيو أمالريك) الذي يكافح في إخراج فيلم تجاري ربما على غير اقتناع منه، رغم أنه يضفي على شخصية (ايفان) بعض ملامح شقيقه الذي يذكره غير مرة في سياق الفيلم، فهو مرتبط ارتباطا مهنيا وروحيا بمعلمه وأستاذه المخرج القديم “بلوم”، إضافة إلى أن اسماعيل كان أيضا متزوجا من ابنة بلوم “كاروليتا” (ماريون كوتيار) لكنها اختفت منذ 20 عاما، واضطر اسماعيل لتسجيلها من بين الأموات قبل ثماني سنوات. وقد أصبح الآن مرتبطا بامرأة أخرى تدعى “سيلفيا” (شارلوت غينسبرغ) تقول له عندما يلتقيها في المرة الأولى إنها لا تحب سوى الرجال المتزوجين، لكنها رغم أنه يؤكد لها كونه أعزبا، تقيم معه علاقة عاطفية وجنسية صارخة، لا يفسدها سوى الظهور المفاجئ للزوجة الغائبة “كاروليتا” التي تقول إنها كانت تعيش على الهامش لفترة طويلة ثم ذهبت إلى الهند وتزوجت رجلا أحبها، لكن توفي مؤخرا فعادت تطالب بزوجها!
غياب الإقناع
كان يمكن أن يكون “أشباح اسماعيل” عملا أكثر إقناعا لو كانت كل أحداثه تدور على شكل تداعيات تتداعى من وعي اسماعيل الذي يغرق نفسه في الشراب والمخدرات.. فهو يعاني من عقدة المبدع وعجزه عن الفصل بين حياته الخاصة وحياة أبطاله، لكن المشكلة أن الفيلم يسعى لاقناعنا بأن ما نشاهده واقع بالفعل، دون أن يقدم أولا تبريرا لغياب كاروليتا ثم لعودتها المفاجئة، كما لا يستغل عودتها ليفجر التناقضات الكامنة داخل اسماعيل بل يكتفي بمظاهر الهستيريا الخارجية والرفض والبارانويا، رغم أنه لا يمانع أولا من ممارسة الجنس معها قبل أن يثور عليها ويحتج على ما يراه محاولة من جانبها لإفساد علاقته بسيلفيا. أما سيلفيا فهي تتودد إلى كاروليتا وتتبادل معها حوارات زائدة لا معنى لها عن ديانتها لنعرف أنها مسيحية بروتستانتية بينما كاروليتا من اصول يهودية، وذلك قبل أن تنقلب عليها وتتهمها بأنها تحاول تدمير علاقتها باسماعيل.
والمشكلة الأكبر أن ديسبلاشين يحاول أن يلوي عنق الشخصيات والأحداث (وكلها تتصف بالسطحية الشديدة) ويصوغ بناء سينمائيا ينتقل بين الماضي والحاضر (دون منطق درامي محدد)، يرجع عامين إلى الوراء ثم عامين آخرين إلى الوراء قبل أن يعود إلى الحاضر دون أن يفهم المتفرج أو يقبل هذا الانتقال الذي لا يرسخ شيئا، كما ينتقل من كوميديا التهريج (الفارص) إلى الميلودراما (يطلق النار على مساعده دون سبب ثم يعتذر له، ومساعده يقوم بالاتفاق مع ربيبه بلوم باختطافه لكي يكمل الفيلم، والفيلم نفسه (داخل الفيلم) ينتقل من الطبيعة الغامضة للدبلوماسي- أو الجاسوس المفترض “ايفان” إلى الحديث عن أحد شيوخ الإرهاب في أفغانستان، مع تصوير ساذج وهزلي لعلاقة ايفان بفتاة سطحية تدعي فونيا.. تقابله في أرشيف الوزارة وتتزوجه على الفور وترحل معه يجذبها فيه أنه قد أصبح جاسوسا، وكأنها ترى فيه جيمس بوند مثلا… أو هذا على الأقل ما يريد أن ينقله لنا المخرج ديسبلاشن عن “السينما السائدة” التجارية.. فينتهي وقد فشل في محاكاتها كما فشل في تجاوزها!
يلمس ديسبلاشن مشكلة الفقدان المفاجئ، والحب، والرغبة، وعقدة المبدع، وتناقض عالمه مع العالم الواقعي، وعجزه عن السيطرة على ما يحيط به، وعبث الدنيا عندما تتلاعب به، وهجوم الماضي على الحاضر وأشباح الماضي التي تحوم فتؤرق الفنان. لكن المشكلة أن ديسبلاشن لا ينجح في تعميق أي من هذه الأفكار بل يظل يحوم حولها دون أن يقترب منها.
ورغم الحهد الذي يبذله ماتيو أمالريك (بطل معظم أفلام ديسبلاشن) في دور اسماعيل، إلا أن سطحية الشخصية وغياب الدلالات العميقة عن القصة بأكملها يجعل أداءه يتراوح بين الكاريكاتورية والنمطية الميلودرامية مع الميل الى المبالغة الشديدة خاصة أن الحوار السطحي لا يخدمه، بل ويبدو الفيلم وكأنه شريط صوتي ناطق مقتبس من إحدى تمثليات الراديو المملة.
أما ماريون كوتيار فغياب الأبعاد عن دور “كاروليتا” يفقدها سحرها ورونقها كمثلة راسخة على الشاشة. ولا يبدو دور “سلفيا” متناسبا أصلا مع شارلوت غنيسبرغ.
فيلم الافتتاح الذي عرض خارج المسابقة (التي تضم 19 فيلما) سيمضي سريعا ويصبح طي النسيان بعد أن تبدأ المسابقة في الكشف عن أفضل ما عندها من أفلام المخرجين الراسخين.