أسئلة الوثائقي العشرة: الحقيقة والواقع والدعاية (2-3)
هل الفيلم الوثائقي سينما؟
بغض النظر عما اذا كان الدافع من وراء السؤال او التأكيد بشكل ساذج او ساخر جمالي او مُنصف، فان المرء يتوقع من مثل هذا السؤال أن يشير الى مبدأين مختلفين. الاول يشكك في انتماء الوثائقي الى فن السينما: هل للوثائقي نصيب في السينما وهل له دور فيها؟ والثاني يعتبر فقط الفيلم الروائي هو فن سابع رغم ان الكينماتوغرافيا رأت النور مع صور العالم الوثائقية “افلام الأخوة لوميير”.
وعلى العكس من ذلك فان مقياس التقدم الجوهري المألوف يتألف من كون الفيلم الوثائقي أصبح ايضا سينما Kinoلكن من ينطلق من معنى المُختلق والخيالي والخطأ والتَصور، فانه يصدق بسهولة كما لو ان الوثائقي هو مجرد تسجيل واقعي بينما هو بالتأكيد سينما. وإذا ما تذكرنا البداية فان السينما كانت تُعَد مجرد تسلية لعامة الناس او ايضا مجرد عروض ميلييه الإضافية التي تعارضت مع الجريدة السينمائية ذائعة الصيت لكنها لم تتردد في اقناع الزبائن العاديين بأن اعادة انتاج الفيلم في الاستديو هي اكثر واقعية من الواقع.
لهذا فان الفيلم الوثائقي قلما حَظيَ باحترامنا لأنه مرة ليس سينما Kino وبالتالي ليس فنا، ولأنه إذا ما كان مرة اخرى Kino فإنه ليس الواقع بعينه. يفهم المرء مثل هذا الصحيح المزدوج ان لا يقود في الواقع الى أي انتقاد لأنه ينشغل بالطريقة نفسها لكنه في الحالتين يستند حتما إلى استنتاج خاطئ. ففي الحالة الاولى يتعرض الفيلم الوثائقي للشك لأنه لا يصل الى مستوى الفن فهو لا ينظم مشاهده عبر ممثلين وسيناريو انما يقتصر على تفليم الاشياء والناس كما هم وهذا يعني وفق صيغة لبيلا بالاج مجرد ريبورتاج لأشياء حقيقية. وفي الحالة الثانية فان تقليد المسرح والأفلام الكلاسيكية هي كلها تمثيلية! باختصار يبدو الامر في الحالة الاولى كما لو ان الفيلم الوثائقي لا يعرف كيف تسير الامور بينما يجعل الفيلم الروائي في الحالة الثانية الامر عسيرا للغاية؟
وفي الواقع ينشا الخطأ في الحالة الاولى من الاعتقاد بان الوثائقي لا يفعل سوى تشغيل الكاميرا دون الاعتماد على التمثيل والممثلين وهو امر لا يمت للفن بأي صلة وينشا الخطأ في الحالة الثانية من الاعتقاد بان تنظيم كل شيء ليُمثَل في مشهد هو كله حالة تلاعب وبهذا لا ينتمي الى الحقيقة بصلة. وان على الفيلم ليكون وثائقيا حقا ان لا يسمح بإعادة تمثيل الواقع الحقيقي.
ولكي يتم تجاوز مثل هذا اللبس علينا ان نوضح ماذا يُفهم من (الميزه- ين- سين) أي من تنظيم المشهد في الفيلم. اولا يدل الميزان سين بالمعنى الضيق على (1) كل ما يوضع امام الكاميرا: ديكور اشياء حيوانات اناس وكيف يجهز للتصوير ويمثل. ومن المعروف ان عمل المخرج لا يقتصر على ذلك لان عليه (2) أن يقوم بتأطير احجام لقطاته وتصوير ما يجهزه ليعبر عن رؤيته. فاللقطة هي اساس وحدة الفيلم، كما انها مقطع مكاني-زماني يسجل محتوى اللقطة سمعيا- بصريا ويبدأ من تشغيل الكاميرا الى توقفها- وبعد التصوير يتم (3) مشاهدة كل اللقطات المصورة سمعيا بصريا من قبل المخرج ليفصل بعضها عن البعض وليعيد تركيبها في عملية المونتاج وليقوم بعدئذ بمزج الاصوات العديدة في عملية المِكساج.
ونتيجة لذلك فان المخرج، حتى بالمعنى الضيق، حتى لو لم يستعين بأي ممثل انما يصور في يوم ماطر في امستردام كما فعل يوري إيفنز في فيلم مطر 1929 فانه سيمارس مع ذلك عمله الابداعي بشكل اقل او اكثر عبر عملية تأطير احجام لقطاته في عملية التصوير ومن ثم توليفها في عملية المونتاج. وبهذا المعنى يمكن لنا ان نقول ان صنع أي فيلم يعني دائما عملية تنظيم لان الفيلم يعني على الاقل اختيار وجهة نظر وجوانب ولحظات تصوير لقطات هي بمنزلة شظايا من الواقع ويعني ذلك ايضا مونتاج هذه الشظايا المعزولة عن الواقع وترتيبها في نظام دلالات (تأويلها) لكي يخرج الفيلم ويعرض. وبغض النظر عن وهم الواقع التام الذي ينشأ من العرض فان الفيلم الوثائقي “يُقَوَّم” وفقا لأحكام ومزايا جمالية.
التفليم لا يعني ببساطة تشغيل الكاميرا انه اكثر ما يعني بحكم الضرورة تنظيم المشاهد والتعبير عن وجهة نظر يتحمل صانع الفيلم مسؤوليتها. وحتى مثلا في السينما المباشرة التي يصور صانع الفيلم الموقف الحقيقي مباشرة من الواقع ولا حتى يعقب عليه فأن عليه أنْ يتكفل ايضا بكيف يصوره ولماذا يعرضه بهذه الكيفية لأنه يبقى من الناحية الاخلاقية مسؤولا عن ما يظهر على الشاشة حتى عن عدد اللقطات وتتابعها.
اذا ما كان الفيلم روائيا او وثائقيا فان الامر يتعلق حتما بإدارة الاخراج والمسؤولية التي تقع على عاتق المخرج لأن ميزانسين الفيلم بدرجة اكبر هو المونتاج وحركة الكاميرا- او ان حركة الكاميرا والمونتاج هما ما يحددان على الاقل طريقة تمثيل الممثلين، فلا يوجد أي فيلم دون صنعة او دون تدخلات فنية لان التصوير بوساطة الكاميرا يستوجب دائما مَلَكة الحرفة ويستوجب بشكل امثل- فطنة تامة.
ربما تسنى للفيلم الوثائقي من جهة ان يحتل موقعه في الفن السينمائي ولم يعد السؤال يتوقف من جهة اخرى عند ما يمكن ان يكون حقا الفيلم الوثائقي دون اخراج إنما كيف يتناول (وفقا لأي شكل ميزان سين) هذا الواقع او غيره على أحسن وجه.
إعادة البنـاء: وثائقياً أَمْ خيالياً ؟
في بداية السبعينيات ظهر في نشرات الأخبار بقنوات التلفاز الأمريكية– تعليقاً وتفسيراً لصور عن مختلف الجرائم – تحت عنوان مُبهَم < إعادة بناء في موقع الحدث الأصلي > فبدت هذه التسمية المستحدثة ( إعادة بناء وتمثيل الحدث الراهن ) وفق ميلييه منافقة و(أقل سحرية) عن الأصل لأنها لا تُفصحُ شيئاً عما يُعاد بناؤه ولا عمّا يطابق الاصل. أين تنتهي الوقائع وأين تبدأ ( إعادة ) تمثيلها؟
تستند هذه الحالة في إعادة البناء، بشكلٍ مُلفِتٍ، إلى الجريمة، فما تأخذه بنظر الإعتبار ليس الحركة كشكلٍ للتفكير والحياة، وإنما كحدث مثيرٍ كما هو الحال في افلام الاثارة. . فبدلاً من حقيقة الوقائع ، التي تُبيّن السلوك المعتاد والتصرفات اليومية – أو تظهر عكس ذلك اللا مألوف والغرائبي (الذي يُخدِّشُ المألوفَ والمعتاد) تقلب إعاد البناء المعادلة وتحولها من الأنثروبولوجي إلى التأريخي وتحولها من< إكتشاف العالم > إلى < مسرح الجريمة > من شعريٍّ إلى دراماتيكي، وبالتالي من منطق سبر الأغوار ( هل يعيش الناس هكذا فعلاً ؟) إلى منطق التوتُّر (كيف حدثَ ذلك ؟) . فالجريمة كحدثٍ تأريخي، غالباً ما تكون حدثا لجريمة قتل أو كارثة طبيعية تؤدي إلى صدمةٍ نفسية تثير الدَهشة لأنها تُغيِّرُ نظامَ الأشياء < بصورة بشعة > لما تمتلكه من قوةٍ خارقة في زعزعة مصائر كثرة من البشر، الذين تصيبهم مصادفةً . لذلك يتعين التمييز تحت نفس فعل < إعادة البناء > بين نوعين من الإخراج:
1- نوعٌ يعيدُ تمثيل المعتاد اليومي، 2- وآخر يعيدُ تقديم الحدث الاستثنائي .فإعادة تصوير صيد فقمة نانوك من كاميرا فلاهيرتي تختلف جذرياً عن إعادة بناء قضائي لجريمة حقيرة وبشعة. من هنا يتعين التفريق بين ما هو أصيل أُعيدَ بناؤه “تمثيله”، وبين ما أُعيدَ بناء وترتيب “وقائعه” الاصلية . فالمكونات المختلفة للعناصر الداخلة في عملية إعادة البناء هي: الشخوص، مسرح الحدث، مجرى الحدث وتعبيرات ابطاله المتصارعين . هنا لا بُدَّ لإعادة البناء أَنْ تبدو أصيلةً فيما لو كانت كل هذه العناصر، مُجتمعةً، أصلية . لكن، حتى في حال كهذه، ليس هناكَ ما يضمن أَنْ تكون عملية إعادة البناء مطابقة للأصل.
فكل فرد يمكن له أَنْ ينخدع، أنْ ينسى وقائعَ أو حركاتٍ ويفسّرَ إيماءاتٍ.. وهنا تنطبق مَقولةُ لا يمكن للمرء أَنْ يسبح في ذاتِ النهرِ مرتين . ذلك أنَّ الإعادة (المكرورة المتكررة ؟) تختلف عن (واقعة) وحيدة، يختلف حدثها الأصليُّ عمّا أُعيد َ أفلمتُه راهناً، فضلاً عن ذلك لا يوجد منظورٌ أُحاديٌّ للحدث . ليكون من المفيد في هذا الموضوع، مشاهدة الفيلم الوثائقي “الذاكرة الثالثة/ 1999” للمخرج Pierr Huyghe: فإعادة بناء واقعته، التي ألهمَت سيدني لوميه في فيلمه (يوم بعد ظهر كلب 1975) تمثيل إلباتشينو، أُعيدَ إنتاجها مع اللص الحقيقي، يوم سَطا على البنك بعد خروجه من السجن ولم يكن راضياً عن إخراج لوميه، ووافق على الوقوف أمام الكاميرا لإعادة تمثيل الواقعة.
وهذا يعني أن المرء يتعرف على التدرج الممكن للوثائقي: فالأشخاص المعنيون يعيدون المشهد من جديد في مسرح الحدث الاصلي ( كما في اعادة بناء لمحكمة او كما يقومون بروايته مثلا في افلام ريشارد ديندو).. حتى أقصى درجات التخيل: ممثلون ” يمثلون ” أمام كواليس وقائع فعلية، بدرامية تستند إلى حوار، مروراً بمنتجة مقابلات شهود < الخيال الوثائقي أو الموثَّق > وهو ما يجعل الدعاية تحلُّ محل الواقع . بعبارة أخرى يمكن القول أن إعادة البناء في الوثائقي وحتى الخيالي يمكن أن تتخذ طيفاً مكوناً من ستة أشكالٍ رئيسية : مقابلة مع شهود يروون شفاهاً ما حدث، مسرحَةُ درامية لشهود عيان < التعليق على الأماكن >، أو مع الابطال انفسهم، إعادة السرد من خلال الوثائق (التغريب البريشتي)، الخيال الموثّق من خلال المحاكاة (كما لو إنهم كانوا هناك)، وأخيراً الخيال (كما يجري في فيلم الكوستيم- الازياء والأكسسوارات). وتظهر لدينا في واقع الأمر طريقتان اضافيتان رئيسيتان في الوصول إلى: إعادة بناء اصيلة وتأريخية، مقارنة مع المحاكاة والإنعكاس.
تستند المحاكاةإلى الإحتمال (أو الظاهرالكاذب- الخطأ) في إعادة تمثيل الحدث (كما لو أنهم كانوا هناك فعلاً). وبذلك يجري سَكبُ الماضي على حاضر الحدث، بما يتلاءم مع قصة لفيلم مغامرات، حيث التأثير والتوتر، الذي يقرّره السيناريو مسبقاً. وإستنادا لهذا المنطق يلعب التأليف الدرامي وتفسير سلوك الناس، المُعبّر عنه بمشاهد، الدور الأساس حول صدق التأريخ مثلا في فيلم ستانلي كوبريك “سبارتاكوس/ 1975”. إن الدقة في رسم العواطف والدوافع والمواقف المثالية والتركيز على التفسير، تعد اهم من التفاصيل (الحقيقية ). وبما أنه تجري التضحية بجانب لصالح آخر، فأن الخيال الموثّق يخسرُ على صعيدين، فمن ناحية الإدعاء بعرض < الكيفية، التي جرى فيها الحدث > وعندها يُقلِّص التأريخ إلى حكاية ( حدَثَ في ما مضى .. – أو كان يا ما كان – .. ) ويُهملُ من ناحية أخرى قوة التعبير وغنى الإكتشاف، الذي يكمن في التفسير. وبهذا يفقد الخيال الموثق الحقيقة التأريخية وكذلك الحقيقة الدرامية . في حين أنّ المحاكاة < الأمينة للحقيقة > تجد حضورها في الأفلام الوثائقية، إذْ تستخدمُ شهود العصر بمشاهد ممثَّلَة لتبيان الماضي وتسليط الضوء عليه .
من المؤكّد أنّ من بين أساليب التوثيق، إعادة البناء، التي هي أقربُ ما تكون إلى محاكاة الخيال . لأن الفرق يكاد يكون طفيفاً بين التأرَخَة والخيال . فقد يلبسُ أحدهما لبوس الآخر ويظهر بشكل مغرٍ وحتى مخادعٍ ( نفس الشيء ينطبق على الرواية التأريخية ). فالحدث < الخيالي > يتميز بكونه مُصَنَّعٌ ” مُفبرَكٌ ” تماماً بطريقة فنية مقبولة، إلاّ أنها تتضمن بداخلها الفني، الظاهر والمخادع.
إن فيلما خياليا هو ترجمة فيلمية لسيناريو يجزأ إلى لقطات ويقدم حواره ممثلون في لوازم ديكورات مصنعة. وحتى لو كان الموضوع تم اعداده عن حوادث حصلت حقيقة وحتى إن كانت مشاهده تصور خارج نطاق الإستديو. فأن الموضوع يكون قد حضر ضمن خطة مسبقة الصنع وتم التدريب عليه لكي يُختلق مسبقا عالم يشبه عالم المشاهدين الذين يشاهدونه. رغم أنه يقال احيانا عن مثل هذه الافلام انها صورت من حقائق او انها صورت عن حكاية حقيقية.
ولا يرى المؤلف نيني في نقاشه لهذه المسألة مصداقية الاحداث وحقيقيتها او مسالة ان نتنازل عن شكل إعادة تمثيلها ليتسنى لنا مشاهدتها ثانية ولنتأثر بأحداثها انما يناقش شكل تقديمها الخاص ويرى أن علينا ان نعرف ان المسالة هي في الوقت نفسه مسالة ذات طبيعة جمالية وتاريخية. كما ان معناها لا يرتبط بمعرفة الواقعة فقط انما يرتبط بإعادة تقديمها وبطريقة الأسلوب الذي تتوجه فيه الى المتفرج.
وكما يقال فان “الطريق الى جهنم معبد بنيات حسنة” وأن “الشيطان يختفي في التفاصيل” لكن ايضا نتذكر ما قاله الناقد بيلا بيلاج ان إن تقديم ” تفاصيل حقيقية لا تعفينا من رؤية كل يكون خاطئا”.
أين يبدأ الإخراج، وأين ينتهي التوثيق؟
عندما نتحدث عن الفيلم الوثائقي، إنما نعني الإخراج (صنعة الفيلم + صناعة الكادرات + المونتاج ). لكن لا يمكن لأحدٍ أن يقنعني بأنّنا نُحدَدُ مسبقاً للشخوص الفعلية المصوَّرة في الفيلم الوثائقي، ما يتعيّنُ عليها فعله وقوله، أو إعطاؤها تعليمات كما يفعل المخرج مع الممثلين!
ويأخذ المؤلف مثالاً تعليمياً لفهم التدرجات من الوثائقي وحتى الخيالي. ويركز تحليله على التفريق بين ثلاثِ مراحل متداخلة ومتشابكة في خطة الفيلم : خِطة الإخراج، نوعه وكيفيته، والاستعداد المطلوب من جانب جمهور المشاهدين لتصديق ما يُعرض عليهم.
موضوع التجربة سيكون : تصوير دكان، لمصورٍ، في حيٍّ، عند منعطف الشارع.
المرحلة صفر: نصور الدكان بفترينته(واجهته) وقد ننتظر حتى يدخل أحدٌ إليه، أو ليتوقف بعض المارة وهم يتطلّعون في الصور المعروضة أو يعلّقون عليها (هل يتمكن ميكروفوني من التقاط كلماتهم دون أن يشعروا بذلك ؟) نرصُدُ المصوِّرَ (صاحب الدكان)، ونصوره عندما يخرج من الباب، أو عندما يرفع المُشبَّكَ عن واجهة الدكان.
هنا لا يتم أيَّ تدخل في إخراج (صنعة الفيلم)، كل شيءٍ يجري تصويره بصورة خفيَّة، ولنقُلْ بدون إذنٍ وبدون أنْ يلاحظ الفُرقاءُ (المصور والمارة) ذلك. هنا يقتصر الإخراج و(الـميزان- سين) على عمل الكادرات والمونتاج مع الصوت (المُلتَقط سرياً). يرى البعض أنَّ الفيلم الوثائقي يجب أن يلتزم بذلك ولا يتدخَّلُ في ما جرى تصويره. ففي الوقت الذي يمكن فيه للمرء القول بأنه لم يجرِ تمثيلٌ أمام الكاميرا، وأنه جرى الالتزام الصارم بعدم التدخل في إعداد المَشاهد، لكن هناك تحفظان على هذا القول:1. تكتسب طريقة التصوير والمونتاج رغم ذلك أهمية وتأثيراً على ما يُعرض أمام الجمهور. 2. يبقى الموضوع أسيرَ مظهره الخارجي فقط، دون إمكانية أن يبوح شيئاً عن نفسه. يتولَّدُ هنا انطباع لدى المشاهد بأن كل شيءٍ جرى بعفوية تامة حقاً، دون تهيئة مسبقة. وقد تتسرّبُ إليه دَغدَغةٌ المُتلصّصِ لَمّـا يرى صوراً .سُرِقَت. ولم يجرِ التقاطها (عالماشي). المرحلة الأولى: أطلب من بعض المارّة أن يدخلوا الدكان أو يتوقفوا عند واجهته أو أطلب من صاحب الدكان أن يقف في باب محلّه…
تأثيرنا على الفيلم هنا سيكون في حدوده الدنيا. فمن أجل بثِّ شيءٍ من الحياة في المشهد، سأبتدع حالة يبدو فيها كما لو أنني كنتُ بانتظارهم. هنا يلعب الميزان-سين، وإن بدا مُنظماً في مجراه، يلعب دوراً إضافياً مؤثراً على الحدث من خلال المونتاج وترتيب الكادرات ( يمكن للمرء أن يُقدِّرَ بأن الحدود “الدنيا” لتأثير الميزان-سين ستزداد .. لتصل إلى الإخراج التام للمَشاهد وبذلك تصل حَدَّ الخيال!) سيتولّد لدى المُشاهد هنا نفس الانطباع، كما في المرحلة صفر: لا أرى حقاً أيَّ نوع من التدخل في ما تمَّ تصويره، باستثناء بعض المواضع غير المُتقنة فنياً.
تأثيرنا على الفيلم هنا سيكون في حدوده الدنيا. فمن أجل بثِّ شيءٍ من الحياة في المشهد، سأبتدع حالة يبدو فيها كما لو أنني كنتُ بانتظارهم. هنا يلعب الميزان-سين، وإن بدا مُنظماً في مجراه، يلعب دوراً إضافياً مؤثراً على الحدث من خلال المونتاج وترتيب الكادرات ( يمكن للمرء أن يُقدِّرَ بأن الحدود “الدنيا” لتأثير الميزان-سين ستزداد .. لتصل إلى الإخراج التام للمَشاهد وبذلك تصل حَدَّ الخيال!) سيتولّد لدى المُشاهد هنا نفس الانطباع، كما في المرحلة صفر: لا أرى حقاً أيَّ نوع من التدخل في ما تمَّ تصويره، باستثناء بعض المواضع غير المُتقنة فنياً.
المرحلة الثانية: نتخفّى ونتحركُ خلف أحدٍ ( قد يكون شخصاً، كومبارساً أوممثلاً ) يجري تصويره، بموافقته وموافقة المصور. هنا يتسع الميزان-سين: عمق مجال التحديد البؤري (عمق الميدان) في التصوير وفي المشهد/ اللقطة). ليشمل عنصراً من عناصر الفُرقاء، بحيث لا يعود أي شخص منهم مبهماً، بل شخصية فعلية، سواء كان زبوناً، كومبارساً أم ممثلاً.
فالمُشاهد يعرف أنّ هذه اللقطة ليست واقعة حقيقية، بل يتعلّق الأمر بفيلم وثائقي ـ مما يفترض موافقة ضمنية من جانب الفُرقاء ـ الذين يضنهم مسبقاً أنهم “شخوص أصلية”
المرحلة الثالثة: أن رتبُ ونهيئ الأمر داخل دكان المصور (بموافقته طبعاً ) ونشرع بتصوير عمله : جلسة تصوير (بحيث يجب أن تتمّ بموافقة الشخص المُصوَّر)، الغرفة المظلمة للتحميض والإظهار، عملية البيع…
يركّز الميزان- سين على إيمائية حركات المصور وعلى دوره كرب مهنة. أو على دوره كوسيط يحدثني عن موديلاته. هنا يفهم المشاهد أن الأمر يتعلق بفيلم وثائقي عن مصور وزبائنه، وأنهم موافقون على تصويرهم. المرحلة الرابعة : أطلبُ من الكومبارس (الممثل) أَنْ يجلس (كموديل) أمام المصور ويقوم ببعض الحركات المرتجلة (العفوية ) أو المُعَدّة.. في هذه الحال، يكتسب الميزان-سين عنصر الخديعة (التآمر)، نصفها خيال، فيما يتعلّق بالموديل، ونصفه الآخر وثائقي في ما يخص المصور الذي لا يعرف كل ما يدور. لكن لو أنه عرفَ ووافق على لعب الدور، عندئذ يتحول الوضع إلى خيالٍ مُمثّل بمشاهد، وهو ما يقترب من الوثائقي.
المرحلة الخامسة: نلتزمُ بتوجيهات التصوير في المكان، ونعتمد على الأدوار، التي يؤديها المصور وزبائنه. هنا يكتسب الميزان-سين مفهوم تفسير الأدوار. فالمشاهد يرى فيلماً يفسّره إما بكونه جيداً أو عكس ذلك، أو يرى فيه فيلماً وثائقياً جيداً. فالخيال يفترض أيضاً أن يجري تصديقه.
المرحلة السادسة: نبني في الأستوديو دكاناً كدكان المصور ونطلب من المصور الحقيقي نفسه، أن يحظر ويتصرف بصورة عادية، كما لو أنه في دكانه (مع الأخذ بنظر الاعتبار حقيقة صعوبة أن يقوم بذلك حرفياً كما يفعل في مكان عمله الأصلي مهما كان الديكور قريباً جداً من الواقع ). وبما أنه سيكون من الصعب تصوير “المارة” سنطلب من بعض الزبائن أن يأتوا إلى الأستوديو لـ” يمثلوا” دوراً “من الحياة الواقعية ” أعددناه بعدة مشاهد استنادا إلى مراقبتنا على الأرض.
يستند الميزان- سين هنا، بهذه الدرجة أو تلك، إلى الاختلاف بين الطبيعي والمُصنَّع – بتأثيرات متعاكسة- : مُصنَّعٌ لأنه تمثيلٌ لبشَرٍ واقعيين أمام ديكورات وكواليس أُعِدّت بدقة لتكون طبيعية. وسيتساءل المشاهد هنا عن الظاهر الطبيعي، فيما إذا كان التمثيل جيداً أم سيئاً، فيما إذا كان التماهي بين الشخص وشخصية الدور الذي يؤديه (الدور الحياتي) الطبيعي وبين ما ُيعرض على الشاشة.. هل أنه فن أم سلعة رخيصة ؟ وإذا ما تمَّ فهم الفيلم بصورة مباشرة، هل سيكون فيلماً وثائقياً أم فيلماً عادياً؟ وإذا ما تمَّ فهمه مباشرة إما أن يكون هزلياً مثيراً للضحك أو مضلِّلاً. طبقاً لمواصفات الاختلاف سيقيّمُ المُشاهد الفيلم فيما إذا كان ناجحاً أم لا، ساذجاً أم بلا معنى، خلاّقاً أم دَعيّاً…
المرحلة السابعة: ديكورات وكواليس في الأستوديو، ممثلون ينفذون سيناريو مكتوبا “يقوم الميزان-سين هنا على التعليمات المُعطاة بشأن الكواليس، والأكسسوارات، والحوارات، وأداء الممثلين، خطة المونتاج وحركة الكاميرا..عندها سيكون المُشاهد، ببساطة، أمام “فيلم خيالي” ينتظر منه حالاتٍ وشخصياتٍ تحفّز انفعالاته وحواسه. وفي كلا الحالين ( وثائقي، أم خيالي) لا يطالب بنسخ الواقع كما هو، إنما ينتظر كما يتطلب من أيِّ عملٍ خلاّقٍ، تأثيراً حسِّياً وعقلياً لفهم العالم بصورة أفضل