“أرزة”.. رحلة خلف دراجة مسروقة وبلد يبحث عن نفسه

في زمن تتشابه فيه الحكايات وتثقل الوقائع كاهل السينما اللبنانية، يأتي فيلم “أرزة”، أول مشروع روائي طويل لمخرجته ميرا شعيب ومن تأليف فيصل شعيب ولؤي خريس، كنافذة تطلّ على بيروت من قلب تعبها اليومي، لا من أساطيرها ولا من رماد تاريخها وحده.

هنا، لا تتعالى السينما على الواقع ولا تحاول تزيينه، بل تلتقطه كما هو: هشًّا، متصدّعًا، ومع ذلك نابضًا بالحياة. تمضي أرزة، الأم العزباء، في رحلة بحث بسيطة في ظاهرها ومزلزلة في باطنها: رحلة وراء دراجة نارية مسروقة تتحوّل تدريجيًا إلى رحلة خلف معنى العيش ذاته في بلدٍ أنهكته الطائفية وابتلعته الأزمات.

من خلال هذه الحكاية اليومية، تعيد المخرجة تشكيل خريطة لبنان الاجتماعية والسياسية عبر عدسة كوميديا سوداء تفضح هشاشة العيش المشترك، وتفتّش في ذاكرة بلد ما زال يحمل رائحة الحرب الأهليّة في تفاصيله الصغيرة. وبين فطائر السبانخ، والزقاق البيروتية، وأحلام الهجرة، وحكاية الحب المجهض، ينسج الفيلم مسارًا يقف بين التوثيق والخيال، بين نقد الحاضر واستعادة الثورة، وبين وجع الأم وقلق الابن وانتظار الأخت. فيلم يعيد طرح سؤال بسيط وعميق في آن: كيف نواصل العيش في مدينة تسرق أبناءها… ثم تطالبهم بالولاء؟

تدور أحداث الفيلم حول أرزة (دياموند أبو عبود)، الأم العزباء التي تكافح من أجل توفير لقمة العيش لها ولابنها كنان (بلال الحموي) وأختها ليلى (بيتي توتل)، في ظل واقع اقتصادي صعب في بيروت.

تعمل أرزة في إعداد الفطائر المنزلية، فيما يقوم ابنها “كنان” بإيصال الطلبات سيرًا على الأقدام. تحاول أرزة تحسين دخل الأسرة عن طريق شراء دراجة نارية لضمان نجاعة العمل وسرعة إيصال الطلبات، مما جعلها تسرق سوار أختها ليلى لشراء الدراجة بعد أن رفضت الأخيرة الأمر لأنها تمثّل ذكرى من خطيبها زين، وهي ما زالت تعيش على انتظاره من أجل الزواج.

وفي مشهد عذب، مصور بشفافية عالية، نرى أرزة تتلصص على ليلى التي ترتدي فستانها الأبيض وترقص أمام المرآة بكل انكسار من ثقل الانتظار.

الشخصيات الرئيسية الثلاث مطحونة: أرزة التي تسعى لتوفير لقمة العيش في ظل غياب الزوج من سنين، وكنان الذي يسعى لتوفير ثمن جواز السفر والهجرة بحثًا عن مستقبل أفضل في ظل قصة حب تسير نحو الإجهاض، أما ليلى فهي لا تغادر البيت في انتظار خطيبها زين المفقود منذ الحرب الأهلية.

تفتح المخرجة ميرا شعيب أبواب الحكاية التي ينهض عليها الفيلم، وهي حكاية ذكية وبسيطة تحمل في طياتها شقاء لبنان، على حد تعبير سمير قصير. يذهب كنان للاحتفال بعيد ميلاده مع أصدقائه فتُسرق منه الدراجة النارية، فتأخذ أرزة على عاتقها همّ البحث عنها مع ابنها في شوارع بيروت وزواريبها. تتجول أرزة في شوارع المدينة بحثًا عن الدراجة وهي تحمل علبة مملوءة بفطائر السبانخ، تمنح واحدة لكل شخص يساعدها أو يدلّها على مكان تواجد الدراجات المسروقة. لكن هذا البحث سيبدو كما لو أنه تفتيش عن إبرة في كومة قش.

وخلال مدة الفيلم (90 دقيقة) نتعرّف على الطائفية التي تنخر المجتمع والجغرافيا الطائفية لبيروت؛ فكل من يدلّ أرزة على مكان تاجر الدراجات المسروقة يحيلها إلى شخص من طائفة أخرى. تجد أرزة نفسها تتنقل بين الطوائف في بيروت: سنة وشيعة ودروز وموارنة وصولًا إلى الفلسطينيين في مخيم شاتيلا، فتضطر إلى التحايل وارتداء رموز دينية وتغيير اسم ابنها في كل موقف: “عمر” في معقل السنة، و”علي” مع الشيعة، و”جون بول” في حضرة الموارنة. ورغم ذلك لا يساعدها أحد. لكنها لا تغيّر اسمها هي، فاسم “أرزة” يدل على أنها لبنانية فقط ولا يحمل أي مدلول طائفي، ولا نعرف طوال الفيلم لأي دين أو طائفة تنتمي أرزة.

رسمت ميرا شعيب في هذا الفيلم ملامح المجتمع اللبناني الذي ما زال يعيش عفونة الحرب الأهلية في علاقاته الاجتماعية وبنية تفكيره ومنظومة قيمه القائمة على شيطنة اللبناني الآخر، أي الطائفة الأخرى، كأن بيروت لم تغادر عام 1975. لكنها تغلف ذلك بقالب كوميدي ومنطق السخرية، كأنها تقول: شرّ البليّة ما يضحك. لذلك اختارت ثورة 17 تشرين 2019 – 2021 زمنًا سرديًا للفيلم، كما لو أنها تقول أيضًا: “بدنا نعيش”.

وما أحداث الفيلم سوى تبرير قاطع لهذه الانتفاضة الشعبية التي تريد استعادة مدينة بيروت المسروقة من بارونات السياسة الذين أشعلوا نيران الحرب الأهلية بمنطق طائفي، وهو ما انعكس على المجتمع من فقر وأزمات اقتصادية واستنفار اجتماعي. وقد بدا هذا واضحًا في كادرات المخرجة، التي أظهرت الحارات اللبنانية الضيقة ببيوتها المتسلّقة بالخضرة، فأبرزت الهوية المعمارية للمدينة. كذلك جاءت ألوان الفيلم مشرقة وزاهية، خاصة في بيت أرزة رغم ضيق كادراته الدالّة على أزمة العائلة، إلا أنها بصبغة لونية دافئة تدل على قيمة الارتباط العائلي والحب بين الشخصيات الثلاث رغم الصراعات الداخلية لكل منها. وقد اكتشفنا هذه الصراعات كمشاهدين في سياق البحث عن الدراجة؛ فكانت الدراجة استعارة للبحث عن الذات لا عن لبنان فقط.

ورغم تشابه الفكرة مع الفيلم الإيطالي “سارق الدراجة” (1948) للمخرج فيتوريو دي سيكا، إلا أن هذا لا ينفي أن “أرزة” فيلم لبناني من ألفه إلى يائه؛ فيلم مقتبس من الواقع اللبناني كما أرادت مبدعته التي رصدت هذا الواقع بقوة، ويعتبر وسيلة للتدخل فيه. هو وجهة نظر شابة من شباب ثورة تشرين، وقد كرّس الفيلم هذا الحضور بوضوح على لسان حبيبة كنان، وبالأخص في المشهد الأخير بعد استعادة أرزة الدراجة، وهي تتجول في شوارع بيروت وابنها خلفها، وفي عمق الكادر شباب متظاهرون يحملون أعلام لبنان، بأسلوب شاعري يدل على أمل المخرجة في تغيير هذا الواقع المتعفن.

أرزة” فيلم واقعي دون تكلف، ورمزي دون تفلسف مفرط، يحقق متعة وسلاسة في الحكي السينمائي، خاصة في رسم شخصية أرزة دون مكياج وبشعر منفوش، وهي تدور في شوارع بيروت باحثة عن الدراجة بصلابة الأم بعيدًا عن الانفعالات الممسرحة، مما يجعل المشاهد يتعاطف معها منذ بداية الفيلم.

كذلك نجحت المخرجة في رسم العلاقات بين أرزة وليلى وكنان، التي ولّدت حبكات فرعية من داخل الحبكة الرئيسية، وكشفت صراعات الشخصيات الداخلية، مع بساطة وسلاسة في السرد، وشبه تداخل في اللعبة السردية، كشفت لنا هواجس المخرجة الفكرية حول الهمّ اللبناني دون تكلف. وحتى على المستوى الفني، ورغم أن العمل أول أفلامها الروائية الطويلة، لم يظهر أنه مهووس بالاستعراض البصري ولا سقط في الأسلوب التلفزيوني، بل ركّز على التحوّل العاطفي بين الشخصيات الثلاث وعلى تعرية الواقع اللبناني البائس.

في نهاية المطاف، لا يقدّم الفيلم حلًا سحريًا لمآزق لبنان، ولا يدّعي امتلاك خطاب سياسي مباشر، بل يحمل حساسية فنية ترى في التفاصيل الصغيرة مرآة لأزمات كبرى. عبر رحلة البحث عن دراجة نارية مسروقة، تكشف ميرا شعيب عطب مجتمع بأكمله، وتعيد تشكيل صورة بيروت كما يعيشها أبناؤها لا كما تُسوّق في الذاكرة السياحية أو الشعارات الثورية. كل شخصية تقف على حافة فاجعتها الخاصة: أرزة بين النجاة والكرامة، كنان بين الهجرة والحب، وليلى بين الانتظار واليأس، لكن ما يجمعهم هو رغبة بسيطة تكاد تكون مستحيلة: أن يعيشوا بسلام في بلد لا يسمح لأبنائه بالتقاط أنفاسهم.

وإذا كانت النهاية تُطل من خلال شباب يلوّحون بالأعلام في عمق الكادر، فإنها ليست دعوة إلى تفاؤل مجاني، بل إشارة ذكية إلى أن التغيير، مهما بدا بطيئًا وموجعًا، يبدأ من الوجوه الشابة التي ترفض الاستسلام لخراب الماضي. بهذا المعنى يصبح “أرزة” رؤية فنية لبلد يبحث عن ذاته في شوارعه، في ذاكرته، وفي قلوب ناسه. فيلم يضيف لبنة صادقة إلى السينما اللبنانية، ويثبت أن الحكايات البسيطة قادرة على قول ما تعجز عنه الخطب الطويلة.