“أخلاق للبيع”.. عندما تتفلسف السينما

   للوهلة الأولى، قد يبدو عنوان المقال ـ والذي هو عنوان أحد الأفلام السينمائية المصرية ـ على درجة من الغرابة. غرابة لا تخلو من تساؤلات: هل تُباع الأخلاق حقًّا؟، وما هو مصدرها؟ وإذا كانت تُباع: ألا يعني ذلك أنّها مُكتسبة، وبالتالي فهي نسبية؟ وقبل هذا وذاك: ألا يشي العنوان عن انحطاط قيمي سائد، رغم كونه يحمل بين ثناياه بارقة أمل، تنمّ عن وعيٍ ولو بدرجة فردية، ما قد ينعكس أثرها، ولو لاحقًا، على الوعي الجمعي؟

   تدور أحداث فيلم أخلاق للبيع (1950م)، للمخرج محمود ذو الفقار، في إطارٍ من الخيال، حول أحمد (محمود ذو الفقار) الذي يُقيم رفقة زوجته أمينة (فاتن حمامة) بمنزل حماته (ميمي شكيب) ـ والتي يُقاسي منها؛ نظرًا لدخله المحدود، وغلبة الجُبن على طباعه. ومع تدافع الأحداث، يُصادف أحمد محلّ الحاج حبّهان (علي الكسار) لبيع الأخلاق جملة وقطاعي، على شكل مساحيق، ويُقرّر شراء مسحوق الشجاعة؛ طامحًا مُواجهة حماته المُتسلّطة، ورئيسه في العمل (عبد الحميد زكي)، عاشق النفاق والغشّ؛ فتتغيّر حياته، بعدما تطاول على حماته، ورئيسه، ما نتج عنه طرده من عمله. ليُقرّر أحمد، وصديقه بلبل (محمود شكوكو) العودة للبائع ويطلبا منه أخلاقًا جديدة، ويشتري المروءة. ومُجدّدًا، يتعرض أصحاب المروءة (في عدّة مشاهد كوميدية ساخرة لا تخلو من تسليط الضوء على عددٍ من قضايا المجتمع التي تحتاج إلى إعادة نظر) للعديد من المتاعب، جرّاء استخدامها بطريقة خاطئة، لتتغيّر حياة أحمد من جديد، بعدما تمّ اتّهامه بالجنون نتيجة تصرّفاته الشّاذة.

   يعود الصديقان، مرة أخرى، للشيخ حبّهان، يطلبان منه إنقاذ حياتهما وتخليصهما من تلك القيم التي اشتروها، ليُخبرهم بحقيقة الأمر: لا يوجد دواء في هذا العالم يخلق شجاعة أو مروءة أو إنسانية أو حتى نفاق، ولكن هذه الصفات موجودة في كلّ نفس بشرية، وكلّ ما هنالك أنّه أوحى إليهم بأنّ المسحوق يحتوي على تلك الصفات.. لقد استعملتم تلك الفضائل بطريقة خاطئة؛ ولذلك تعرّضتم للمتاعب. ويستطرد: إنّ الأخلاق الحميدة موجودة لدى الجميع ولكنّها فسدت من طول الركود، وما يُحركها هو اتباع القول: عامل الناس كما تحبّ أن يُعاملوك، وهذا هو جوهر الأخلاق والدين، فالدين المُعاملة..

   ولعلّ أحد أبرز مشاهد الفيلم نجدها في حوار أحمد وبلبل مع حبّهان، عندما سأله الأول عن حال السوق والتجارة، ليردّ البائع: الحال مش ولا بدّ، والبضاعة مكدّسة والسبب يعلمه الله.. يردّ أحمد: ربّما البضاعة تحتاج لإعلان وهو شرط النجاح.. وهنا يستنكر حبّهان: أنا أعلن عن شيء لا يجهله مخلوق ولا يستغني عنه إنسان! ده يبقى جنان في جنان.. وبعد حديث تهكّمي من الصديقان، يعتذر أحمد من البائع ويُبدي استغرابه كونه لم يُصادف مَن يبيع هذه البضاعة مُسبقًا، ليردّ حبّهان: طبعًا لأننا في زمن يكره المروءة والشجاعة والخير والعمل الطيب، بينما البضاعة الرائجة هي الظلم والنذالة والنفاق. ويسأله أحمد: لماذا لا تُتاجر فيما هو رائج؟ ويُجيب: بعتها من زمان ولم يتبقى سوى هذه الفضائل..

   وقد قام صُنّاع الفيلم بتأكيد ذلك عبر الأحداث؛ فها هم زملاء أحمد لا يكلّون من نفاقهم لرئيسهم في العمل. أيضًا، خلال المشهد الذي يظهر فيه أحمد بعدما تمّ طرده من العمل، ووقف يناقش زبائن أحد المقاهي مُنتقدًا إياهم تضييعهم الوقت على المقاهي وتحرّشهم بالمارة من النساء؛ ليصفوه بالجنون..

   ومع اقتراب الأحداث من النهاية، تعرج أمّ أمينة رفقة ابنتها وعلي بك (زكي إبراهيم)، عمّ أحمد، على محلّ الحاج حبّهان؛ للتأكُّد من ادعاءات أحمد، وهناك تتناول أمّ أمينة مسحوق المروءة؛ لتتبدّل على الفور، وتتخلّص من تسلُّطها، وتعترف بخطئها، وهي اللحظة التي طلبها علي بك للزواج، بعدما اعتلته الشجاعة التي كانت تنقصه، والتي اكتسبها دون أن يتناول أيّة مساحيق، في مشهد يؤكد على أنّ القيم لا تُباع.

   إنّ ما يرمي إليه صُنّاع الفيلم هو معرفة النفس التي نادى بها سقراط قديمًا. تلك الجملة “اعرف نفسك” تكشف عن مضمون أخلاقي مُستمدّ ممّا يترتب على هذه المعرفة بالنفس من توجيه مُعيّن لحياة الإنسان وسلوكه. فمعرفة النفس، وفق سقراط، هي معرفةٌ بالخير وتحقيقٌ للفضيلة؛ ذلك لأنّ مَن يعرف نفسه يعرف بالتالي ما يُناسبها.

   والمأزق الذي وقع فيه أحمد وبلبل، بعدما تناولا مساحيق القيم، هو تجاهل قاعدة أرسطو الأخلاقية التي تنصّ على أنّ “الفضيلة وسط بين طرفين كلاهما رذيلة”، فالشجاعة فضيلة وسطى بين رذيلتين هما الجُبن والتّهوُّر. وهذا الوسط ليس وسطًا حسابيًّا، وإنّما هو وسط اعتباري؛ فالشجاعة أقرب إلى التّهوُّر منها إلى الجُبن. كما أنّ هذا الوسط يختلف باختلاف الظروف وباختلاف طبيعة الأفراد، ولذلك فإنّ على كلّ فرد أن يكتشف الوسط العدل عنده من خلال المحاولة والخطأ، وأن يُمارس ذلك حتى يكون فاضلًا، وبالتالي تتحقّق سعادته وخيره.

   لقد أدى حبّهان، رغم هيئته الرثّة، دور المُصلح، وبرغم ما أحاط به من ظنون السوء، إلا أنّه قد نجح ـ ولو نسبيًّا ـ فيما أوكل إلى نفسه من مهام. وإذا كان أحمد ورفيقه قد استجاب لرسالة النبيّ المُصلح، فهل سيأتي يومٌ يستجيب فيه جموع الناس، أو أغلبهم ـ على أقل تقدير؛ لتلك الرسالة!!


[*] باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية ـ مصر

Visited 144 times, 1 visit(s) today