“أبناء الدنمارك” مفاجأة دنماركية عراقية في افتتاح مسابقة مهرجان روتردام
بدأت التردد على مهرجان روتردام السينمائي الدولي منذ العام 2002، حاولت أن أتخلى عنه وأتوقف مرة ومرتين، وفشلت، كون المهرجان يقام في عز فصل الشتاء وفي موسم البرد، حيث تغطي الثلوج شوارع المدينة، كان يعتبر سببا كافيا للإقلاع عن عادة الذهاب إليه.
لكن عاما بعد عام وكلما تعهدت بأنها ستكون المرة الأخيرة، أجد نفسي متحمسا لحزم حقائبي والإقلاع مجددا إلى العاصمة الهولندية أمسترادم ومنها بالقطار إلى روتردام.
الرحلة ليست مرهقة، فالقطارات الحديثة أصبحت تقطع المسافة بين مطار أمستردام وقلب مدينة روتردام في 24 دقيقة فقط، أي كأنك تنتقل بسيارة تاكسي داخل إحدى المدن الكبرى، ولكن بطريقة أكثر راحة ومتعة، فنحن بصدد القطارات الهولندية الحديثة الفائقة السرعة التي تعتبر الأكثر تقدما في أوروبا الغربية.
وعندما وصلت وجدت الثلوج تغطي شوارع المدينة، لكنها تبدأ بعد ذلك في الذوبان وسرعان ما تهطل مجددا في الصباح الباكر، لكن ما يجذبك إلى هذا المهرجان رغم البرد والثلوج، متعة الاكتشاف، فمنذ أن بدأت التردد عليه لم يخب ظني ولا مرة واحدة، فقد كنت قادرا دائما على العثور على الجديد المدهش من الأفلام التي يكون المهرجان بمثابة إعلان عن ميلادها الأول، ومنه تنتقل بعد ذلك إلى مهرجانات أخرى في العالم.
العرض المسائي
هذه المرة أيضا ومن اليوم الأول، بعد الافتتاح، ظهرت المفاجأة.. امتلأت قاعة سينما باثيه رقم 5، وهي من أكبر القاعات، عن آخرها بالجمهور في العرض المسائي. أسرع جمهور روتردام من الشباب ومن الشيوخ، يتخذون أماكنهم في هدوء وأدب معروف عن الشعب الهولندي وهو في رأيي من أطيب شعوب أوروبا.
صحيح أن هناك أيضا أقلية وحزبا عنصريا متشنجا، كما هو الحال الآن في معظم بلدان أوروبا الغربية بل والشرقية أيضا، إلاّ أن غالبية الهولنديين يؤمنون، حتى الآن كما أتصور، بالتعايش داخل المجتمع المتعدد الثقافات والأجناس والأعراق، أي بالتعايش مع المهاجرين والأقليات القادمة من بلدان العالم الثالث التي لا غنى عنها في الحقيقة مهما بالغ القوميون العنصريون المتعصبون في الزعم بأن من الأفضل الاستغناء عنهم بطردهم خارج البلاد.
تطرقت إلى هذا الموضوع، لأنه جوهر موضوع فيلم السهرة الدنماركي “أبناء الدنمارك” Sons of Denmark، وهو لمخرج دنماركي شاب تخرج منذ سنتين فقط من معهد السينما بكوبنهاغن، هو علا سليم، الذي ينتمي إلى والدين عراقيين، وهو يتحدث العربية كما يتحدث الدنماركية كونه ولد ونشأ وتعلم في الدنمارك، لكنه أدهشني أيضا بإجادته اللغة الإنكليزية التي تعتبر في حقيقة الأمر، اللغة الأولى في مهرجان روتردام، فجميع الأفلام مترجمة إلى الإنكليزية، وهي نفسها اللغة التي يتم بها تقديم ومناقشة الأفلام في المهرجان، وهو اعتراف بأن “الهولندية” لغة محلية محدودة الانتشار ومغلقة على أهلها.
قبل العرض صعد بيرو بيير مدير المهرجان إلى المنصة، قام بنفسه بتقديم الفيلم وأشار إلى أنه الفيلم الأول الذي تفتتح به مسابقة المهرجان المعروفة بـ”مسابقة النمر”، فجوائزها هي تمثال النمر رمز المدينة، وقال إن أفلام المسابقة (وهي 8 أفلام فقط) اختيرت بدقة من بين 500 فيلم، ودعا الجمهور إلى الاهتمام بمشاهدة هذا الفيلم والبقاء حتى ما بعد النهاية لمناقشة فريق العمل وعلى رأسهم مخرجه.
السياسي العنصري مارتن نوردال
الفيلم ناطق بالدنماركية والعربية، وهو كما أشرت الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه الشاب، تدور أحداثه في المستقبل القريب جدا، في العام 2025، أي بعد 6 سنوات من الآن، ولكنه عمل شديد المعاصرة، أي أن ما نشاهده ينطبق كثيرا على ما يحدث في الكثير من البلدان الأوروبية، بل وربما تتحقق “نبوءة” الفيلم ويصبح ما كان مستحيلا ممكنا، فما هو هذا المستحيل الممكن؟
الانفجار
قبل نزول العناوين، شاب يلتقي حبيبته في مكان عام من كوبنهاغن، يتبادل معها حديثا قصيرا، يتفقان على اللقاء، يحتضنها ويقبلها، تتركه وتتجه إلى الجهة الأخرى من الطريق.
فجأة: انفجار مروع يقضي على الفتاة ويروح ضحيته 23 شخصا في قلب المدينة، ثم يبدأ الفيلم ببطلنا “زكريا”، وهو شاب عراقي ينتمي إلى أسرة من المهاجرين لكنه بلا أب، فقد قتل والده خلال الحرب في العراق (وحروب العراق كثيرة!)، وفر هو مع والدته وشقيقه الصغير، وهم يقيمون معا، حيث تعمل الأم وهي التي تنفق على الأسرة بينما ما زال زكريا يبحث عن عمل مناسب، فقد أصبحت الأم هي الأب والأم معا.
لكن زكريا أصبح الآن يخشى ردة الفعل العنيفة القادمة من عصبة النازيين الجدد التي تطلق على نفسها “أبناء الدنمارك”، وتطالب بطرد الأجانب خاصة المسلمين، من البلاد، يلهمها بخطاباته التحريضية الساخنة، زعيم حزب سياسي يميني عنصري، هو مارتن نوردال الذي يطالب باستعادة الدنمارك وإعادتها إلى أبنائها الأصليين.
مخرج الفيلم علا سليم
هجمات العنصريين على بيوت المسلمين والعرب تتصاعد بعد وقوع الانفجار الإرهابي، يضعون أمامها رؤوسا بلاستيكية لخنازير مذبوحة تقطر دما قصد الترويع، يرسمون علامات عنصرية، يلقون قنابل حارقة، يهاجمون فتيات اللاجئين بالأحماض الحارقة.
يصبح زكريا قلقا على مصيره وعلى مصير أسرته الصغيرة، ويكون طبيعيا أن يتجه للبحث عن الأب البديل الذي يرشده إلى الطريق، يجده في شخص رجل بطريركي (فلسطيني) صاحب مقهى اسمه “حسن” يرعى اللاجئين العرب ويدبر لهم مكانا للإقامة حيث نراهم يعيشون كالحيوانات، يكتظ بهم المكان، يشير حسن إليهم وهو يروي لزكريا مأساتهم، فوراء كل واحد وواحدة منهم قصة مأساوية.. منهم من فقد ذويه بعد أن غرقوا في مياه البحر بسبب تقاعس السلطات عن إنقاذهم، ومنهم من فر من الحروب، لكنه مهدد الآن بالترحيل. حسن أيضا أنشأ نوعا من الميليشيا المضادة، فهو يرى أنه ليس من الممكن البقاء في انتظار التعرض لهجمات العنصريين ثم الترحيل القسري.. فلابد من إثبات أنهم يستطيعون رد الصاع صاعين.
وهو يؤمن بالعنف في مواجهة العنف، ولكنه ليس مدفوعا سوى بالدفاع عن النفس، ولا ينطلق من منطلق ديني أو عنصري في مواجهة الآخر، بل يقول الفيلم إن هذا ما سيحدث في المجتمع “الديمقراطي” عندما يغيب القانون، بل إننا سنرى كيف تتستر الشرطة على هجمات العنصريين البيض الدنماركيين وتركز فقط على ملاحقة نشاط الإسلاميين.
فيلم سياسي
يختبر حسن رغبة زكريا في الانضمام إلى جماعته، وعندما يتأكد من رغبته يكلفه باغتيال السياسي العنصري نوردال، ويسند إلى شاب مصري (من أم دنماركية) هو “علي” تدريبه على استخدام السلاح ومساعدته في تنفيذ مهمته، يرافقه علي وتنشأ بينهما صداقة، يسبحان معا وينطلقان في مشهد بديع، ويدعو زكريا علي إلى منزله ليقدمه إلى أمه وشقيقه ويوصيه بهما خيرا إن وقع له مكروه ما، يبدو علي غامضا بعض الشيء قليل الكلام، إنه يخفي أكثر مما يظهر.
أصبح مارتن نوردال الآن قاب قوسين أو أدنى من الفوز في الانتخابات العامة، وها هو يشدد من خطابه المعادي للأجانب الذين يطالب بتطهير البلاد منهم خلال حملاته الانتخابية، وعندما يفوز حزبه ويحصل على أعلى الأصوات أكثر حتى مما كانت تشير استطلاعات الرأي، يصبح المستحيل-الممكن أمرا مفروغا منه.
إننا أمام فيلم سياسي في سياق نوع أفلام الإثارة والترقب، والكاميرا المهتزة المحمولة التي يتحرك بها المصور معظم الوقت، مع محاصرة الشخصيات في لقطات قريبة، تحت إضاءة خافتة لألوان قاتمة، تريد أن توحي لنا بأجواء الاختناق والاضطراب والقلق الذي تعاني منه الشخصيات الرئيسية جميعها.
سيذهب زكريا لاغتيال نوردال تحت إشراف علي، لكنه سيفشل ويجد أن المسدس الذي في حوزته فارغا من الرصاص، وسينجو نوردال بفضل وشاية علي بزكريا وتعتقل الشرطة زكريا المسكين ويكون مصيره السجن المشدد ويحرم من رؤية أمه وشقيقه.
أما علي فسيتضح أن اسمه الحقيقي هو مالك، وأنه ضابط في الشرطة السرية يعمل تحت غطاء “شخصية علي” المتطرف للتسلل داخل صفوف العرب واللاجئين المسلمين، لكن شخصيته ليست على هذا النحو من البساطة فهو يعاني أيضا من تمزق الهوية.
إنه ينتمي إلى أب مصري وأم هولندية، وهو ليس كما كان يقول لربيبه حسن، شابا وحيدا، بل متزوج من فتاة عربية وله منها ابن أسمر مثله ومثل والدته، أي أنه سجين بشرته الغريبة، ورغم عمله في الشرطة إلاّ أنه تدريجيا سيجد نفسه ممزقا بين الطرفين المتطرفين، ويصبح عليه أن يقرر مع أيهما سيقف؟
زكريا مع شقيقه الصغير
محور الأسرة
من هذا المأزق يصبح “علي/ مالك” الشخصية المحورية المعقدة في الفيلم، صحيح أنه هو الذي أنقذ حياة الزعيم العنصري نوردال ونال منه الشكر على ما فعله بدعوى أنه “مختلف عن الآخرين” كما كرر له نوردال مرتين، لكنه أيضا “منهم”، وتدريجيا سيصبح بدوره قلقا على مصير أسرته الصغيرة.
والأسرة في الفيلم “ثيمة” متكررة يلعب عليها السيناريو كثيرا، فلدى زكريا كما رأينا شقيق صغير وأم، ولدى مالك زوجته وابنه الطفل، ولدى نوردال أيضا زوجة وولد، هؤلاء جميعا خارج الصراع وداخله أيضا.. ولا شك أن الرجال الثلاثة ينطلقون من ضرورة حماية أسرهم، إنهم يشتركون معا في هذا الهم والهاجس وإن اختلفت الرؤية ووجهة النظر والمنطلقات السياسية.
في الفيلم بعض المبالغات التي تصل إلى أقصى درجات الميلودراما، وفيه أيضا بعض التفاصيل الزائدة التي تصل بزمن الفيلم على الشاشة إلى الساعتين، وكان يمكن اختصار الزمن بعض الشيء باستبعاد المشاهد والتفاصيل الزائدة ودفع الإيقاع في سرعة أكبر إلى الإمام، لكنه يتميز بشريط صوت بديع، يستخدم موسيقى موتسارت الكلاسيكية المهيبة المنذرة بالخطر تارة، أو الأغاني العربية العراقية التي تعبر عن الحب تارة أخرى.
علا سليم يعمل مع طاقم من الممثلين الجيدين على رأسهم بالتأكد الممثل الدنماركي الشهير راسموس بيرغ في دور مارتن نوردال الذي تميز كثيرا وكان شديد الإقناع، رغم أنه أصلا ممثل كوميدي معروف في الدنمارك، ويبرز إلى جواره مباشرة الممثل زكي يوسف في دور مالك، ومحمد إسماعيل محمد في دور زكريا، وإن خذلته الشخصية بملامحها المحدودة كما رسمها السيناريو، ثم استبعدها من الفيلم مبكرا ليظهر زكريا بعد ذلك مرة واحدة عندما يقوم مالك بترتيب زيارة له في السجن من قبل أمه وشقيقه، أما الممثل عماد أبوفول فكان موفقا في حدود دوره أي “حسن محمود” الزعيم الذي يريد أن يناهض العنف بالعنف.
ننتظر أن نرى العمل القادم للمخرج العراقي الأصل علا سليم، وكيف سيمد تجربته هذه على استقامتها، لكنه بدا لنا واثقا من قدراته، مثقفا، يعرف لغة السينما، ويريد أن يحقق النجاح في الجمع بين الموضوع الجاد والسياق السينمائي المثير الجذاب من دون ابتذال.
وهو في فيلمه يحذر وينذر ويشير إلى أن الخطر القادم سيشمل الجميع ويمكن أن يجعل أوروبا والعالم كله أسوأ وأكثر اتساعا لقوى الشر، مع تراجع الرغبة “الرسمية” في مقاومة الوضع الراهن وترك الأمور تفلت كما هي تحت الدعاوى الشعبوية التي تغري الكثيرين من السذج والمحبطين في المجتمعات الأوروبية اليوم..