“أبدا نادرا.. أحيانا دائما”: الإجهاض من أجل المستقبل

أول ما يتم الالتفات أثناء التعامل مع أي فيلم يكون العنوان، وهنا نحن أمام عنوان غريب “Never Rarely Sometimes Always” أو “أبدا نادرا أحيانا دائما” من الصعب أن يتم بناء أي شيء أو اوقع في أي اتجاه تسير الاحداث خصوصا وأن الفيلم من بطولة فتاتين جديدتين احداهن تقدم تجربتها الأولى، في وجود مخرجة ليس لها باع طويل فقد قدمت فيلمين روائيين طويلين فقط وهي الأمريكية إليزا هيتمان، وفيلمها الثالث ذو العنوان الغريب والجذاب يعتبر من الأفلام سيئة الحظ رغم التخطيط الجيد له وجودة الأداء التمثيلي الذي كان متميزا لبطلتي الفيلم “سيدني فلانجين” و”تاليا ريدر”.

كان العرض العالمي الأول للفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين الأخير في فبراير من 2019 وحصل على جائزة الدب الفضي، وكان قبل ذلك قد شارك في مهرجان صاندانس وحصل على جائزة لجنة التحكيم، وأغلب الظن أن القائمين على الفيلم، سواء المخرجة أو شركات الإنتاج والتوزيع، فضلوا تأجيل العرض التجاري، على أن يكون في بداية 2020 لأن المنافسة خلال السينما الأمريكية العام الماضي كانت الأقوى منذ أعوام، لكن جاء تفشي وباء كورونا ليقضي على حلم العرض التجاري بعد إغلاق دور العرض.

تدور أحداث الفيلم حول “أوتمن” طالبة مراهقة في الـ17 من عمرها تعمل في سوبر ماركت بدوام جزئي تكتشف حملها لجنين في الأسبوع العاشر، ونظرا لأن قوانين ولاية بنسليفانيا تمنع الإجهاض دون توقيع الوالدين، تقرر أوتام خوض رحلة شاقة إلى مدينة نيويورك برفقة إبنة عمها “سكايلر” للتخلص من الجنين.

 تكتشف أوتام في نيويورك ان حملها في الأسبوع الثامن عشر وعليها التوجه لفرع المركز في منهاتن في اليوم التالي لإجراء العملية، تقضي الفتاتان المراهقتان ليلتين بمفردهما في شوارع نيويورك تلك المدينة الموحشة التي تختلف كثيرا عن مسقط رأسهما المدينة الريفية الهادئة دون مأوى أو طعام أو نقود التي دفعت معظمها لإجراء الإجهاض.

قضية الإجهاض تعتبر من الأمور المسكوت عنها في الولايات المتحدة الأمريكية رغم مساحة الحرية التي يتم الترويج عنها للمجتمع الأمريكي المتحضر والطبع ما يؤكد هذا ندرة الأفلام التي تطرح تلك القضية بهذه الكيفية، قد يتم التطرق لها خلال بعض الخطوط أو التفاصيل البسيطة في أفلام أخرى لكنها المرة الأولى التي تحتل هذه المساحة على الشاشة الأمريكية هو الأمر الأول الذي يحسب لمؤلفة ومخرجة الفيلم إليزا هيتمان.

الأمر الثاني الذي يحسب لها طريقة التناول من خلال الحبكة حيث انها لم تقدم بطلة فيلمها في دور الضحية التي تبحث عن استرجاع حقها في إطار ميلودرامي، ولم تعتمد على المواجهات المباشرة القوية والعبارات الرنانة، على العكس فقد كان الفيلم في ظاهره هادئ لكن في طياته يحمل غضبا دفينا.

نجحت المخرجة في اختزال فكرتها خلال المشاهد الأولى ومزج العديد من التفاصيل السريعة في عرض طريقة حياة أوتام في مدينتها الهادئة وعلاقتها بأسرتها وعملها والزيارات التي كانت تجريها للفحص الطبي حول الحمل، وبدأت في تأسيس شكل العلاقة بين أوتام وإبنة عمها سكايلر وهو الخط الوحيد الذي أعطته تفاصيل لأن قوة هذه العلاقة كانت السبب الرئيسي لاجتياز الرحلة. 

الأمر الثالث وهو الأهم لم أنها تقدم تفاصيل كثيرة للمتفرج حول خلفيات الشخصيات وتاريخها فقد اقتصر الأمر على لمحات بسيطة بحيث يبدو أن الماضي لا يشغلها وأن ما يهمها هو مستقبل بطلة فيلمها بعد الرحلة الشاقة التي هي في الظاهر للإجهاض لكنها في الباطن من أجل القدرة على الاستمرار في الحياة بقوة وجدية.

وفي الوقت نفسه، تجاهلت المخرجة “الجاني” أو الشخص المتسبب في حمل أوتام فلم تهتم بمن هو بقدر اهتمامها بخطوات أوتام فهي لا تنكر أن الرجل سبب رئيسي في أزمات المرأة ومشقتها لكن هي تستطيع تجاوز محنتها والبحث عن مستقبلها بإصرار دون وجوده معها، وتعمدت أن تظهر الشخصيات الذكورية في الفيلم بصورة سيئة بداية من الشاب الذي أهانها أثناء الغناء مرورا بمدير السوبر ماركت الذي يستغل احتياج الفتيات إلى العمل ويقوم بتقبيل أيدهن عنوة، ثم زوج والدتها صاحب الطابع الفج، حتى جاسبر الذي قدم لهما المساعدة المالية في نيويورك إلا أن رغباته الجنسية تجاه سكايلر كانت هي الطاغية.

في المشهد الأول عندما تغني أوتام بطريقة الكاريوكي قاطعها أحد المستمعين قائلا “عاهرة” مع ذلك لم تبالي واستكملت الغناء وبعد الانتهاء اتجهت إليه وقامت برمي كوب المياه في وجهه ثم انصرفت وهنا يمكن أن يكون هو الجاني، وفي المشاهد الخاصة بمنزل أوتام نجد علاقتها الفاترة مع زوج والدتها وهنا يعطي احتمالات أنه هو المتسبب، مع ذلك قررت أوتام أن تتخلى عن أسرتها في رحلتها وأصرت على عدم إخبار والدتها رغم إلحاح إبنة عمها.

 وفي مشهد تبادل القبلات بين سكايلر وجاسبر “الشاب الذي قابلهما صدفة في نيويورك” قد يكون هذا الأمر هو ما حدث مع أوتام أو بدأ هكذا ثم تطور للأسوأ، كلها مشاهد لم يكن الهدف منها تحديد “الجاني” بقدر ما قدمت تشريح لطبيعة شخصية أوتام التي تصر على استكمال طريقها دون التوقف أمام أي عقبات أو مضايقات مهينة.

الأمر الرابع المميز عند إليزا كان قلة الجمل الحوارية والاعتماد على نظرات الأعين وتعبيرات الوجوه والسكوت الطويل من خلال التركيز على اللقطات القصيرة والمتوسطة، ويأتي في مقدمة المشاهد القوية الذي جمع بين أوتام والطبيبة النفسية أثناء قيامها بطرح بعض الأسئلة على أوتام قبل الجراحة وتكون الإجابة اختيار واحدة من أربع كلمات (أبدا – نادرا – أحيانا – دائما) وهي الإجابات التي تحمل عنوان الفيلم وكأن المخرجة تقول أن حياة المرأة تسير في فلك الكلمات الأربع من خلال قيام الطبيبة بطرح أسئلة بها جزء من الإهانة واختراق الحرية الشخصية وانتهاك للآدمية.

 اعتمدت المخرجة في هذا المشهد على الشكل التصاعدي في البناء ووصل فيه أداء سيدني فلانجين إلى ذروته، فقد كانت البداية حذرة مقتضبة لكن زادت وتيرتها بمرور الوقت، وارتكزت الكاميرا لمدة خمس دقائق كاملة على وجه أوتام وهي تجيب باختيار كلمة من الكلمات الأربع، ومع اقتراب نهاية الأسئلة والدخول في أدق التفاصيل التي نستخلص ونتوقع منها جزء كبير من تفاصيل الماضي الذي لم تعرضه المخرجة، تبدأ أوتام في السكوت التدريجي، ومن بعد السؤال حول “الإجبار على الجنس” تفقد أوتام تماسكها وتدخل في نوبة بكاء.

في الظاهر قالت أوتام انها ليست مستعدة أن تكون أما لكن في الحقيقة هي مثل غالبية النساء اللاتي تحلمن بالأمومة، لكنها تريد أن تكون بشكل طبيعي وليس رغما عنها، لأنها إذا تنازلت وواصلت حياتها مع الطفل لن يكون لها حاضر مستقر ولا حياة مكتملة، أوتام ومعها سكايلر عاشا تجربة أكبر من عمرهما كمراهقتين، قاما بشق الطريق الصعب والرحلة الشاقة نحو الإجهاض من أجل المستقبل واستكمال مواجهة مصاعب الحياة في التحفة السينمائية الأولى في 2020.

Visited 131 times, 1 visit(s) today