“آل أمبرسون الرائعون” نوستالجيا أورسون ويلز
كان ولا يزال، فيلم “المواطن كين” للمخرج أورسون ويلز وبشهادة معظم النقاد اهم فيلم فى تاريخ السينما وهو الذى تصدر قوائم النقاد لاكثر من نصف قرن ولم يزيحه فى السنوات الاخيرة إلا فيلم “دوار” للعبقرى هيتشكوك.
وقد استحق فيلم “المواطن كين” كل هذا التقدير لما اتسم به من ابداع وأصالة ولما انجزه ويلز على مستوى الفكرة والاسلوب , فلم يكن الفيلم رائدا فقط فى تنفيذه التقنى للقطة الطويلة وعمق المجال البصرى والفيلم داخل الفيلم وانما فى طريقة بنائه الدرامى والتى مزجت الرؤية الذاتية باسلوب الريبورتاج الصحفى والجريدة السينمائية فى سرد يعتمد على تعدد وجهات النظر ليرسم فى النهاية بورتريه لشخصية غامضة ومثيرة للجدل ومليئة بالتناقضات دون اصدار حكم نهائى عليها_وهى شخصية المواطن كين.
وفى ثانى أفلامه “آل أمبرسون الرائعون” يقدم ويلز عملا كلاسيكيا ذي نزعة اخلاقية واضحة، لا يبتعد فيه كثيرا عن موضوعات فيلمه الأول “المواطن كين” والذى تناول موضوعات الحب والمال والطبقة الاجتماعية والعائلة ليقدم تراجيديا مؤثرة عن صعود وسقوط آل أمبرسون جراء التحول الصناعى الذى اعاد تشكيل المدينة والبشر وعلاقاتهم الاجتماعية , ويقدم مرثية حزينة للزمن الماضى وفردوسه المفقود .
يروي الفيلم قصة الشاب “يوجين مورجان” الذى اراد الزواج من “ايزابيل امبرسون” ابنة عائلة أمبرسون الارسطقراطية ونظرا للفارق الطبقى بينهما لم يتم الزواج، ولكنها تتزوج من الشاب الغنى ” ويبور مينافير” وينجبان طفلهما المدلل “جورج”، وتمر السنون، ويعود “يوجين” اكثر نضجا و قد نجحت أعماله واختراعاته فى عالم صناعة السيارات ويطلب من “ايزابيل” الزواج مرة اخرى بعد أن يتوفى زوجها، وتوافق “ايزابيل” ولكن يقف “جورج” امام هذا الزواج وتساعده فى ذلك عمته “فانى”، ويقرر “جورج” وأمه السفر فى رحلة طويلة، وبعد عودتهما تتوالى المصائب تباعا على العائلة من مرض الجد وعجز الام “ايزابيل” إلى افلاس العائلة ثم ضياع “جورج” وسقوطه الاخلاقى ثم اصابته فى حادث مؤسف.
الفيلم إذن قصة حب تراجيدية تقف أمامها الكثير من العقبات تحول دون اكتمالها مرة تمنعها العائلة والطبقة ومرة أخرى يمنعها الابن المدلل المغرور على خلفية من تحولات المجتمع والمدينة.
منجز بصرى
لم يكف العبقرى اورسون ويلز عن الابتكار والتجديد فيما يتعلق بالجوانب الفنية والتقنية لصناعة الفيلم فقدم فى “آل امبرسون الرائعون” سيمفونية بصرية شديدة الثراء هذا التنوع المذهل فى حركة الكاميرا واختيار زوايا واحجام اللقطات وتلك التوليف و المزج الرائع بين المشاهد وبعضها اثرى شريطه الفيلمى وعمق من تأثيره.
فمن الافتتاحية الجميلة التى اعتمدت على الفوتومونتاج، يقدم ويلز صورة بصرية سريعة لبلدة آل أمبرسون عام 1873 ويوثق لشكل الحياة وقتها ثم وهو يقدم بطله “يوجين” فى مشاهد ذكية و خفيفة الظل هذا الشاب المغامر والعاشق المجنون الذى يعشق التغيير ويجرى وراء حلمه سيتحقق فى النهاية، والابن المغرور “جورج” وهو يعيث فى البلدة جنونا وازعاجا ويتعدى على الآخرين وهو سيعاقب فى النهاية كما تمنت البلدة.
ومن المشاهد الممتعة مشهد الحفل فى قصر آل أمبرسون الذي يشهد لقاء “ايزابيل” و”يوجين” مرة اخرى وبداية قصة حب بين “لوسى” ابنة “يوجين” و”جورج”، فقد صُور هذا المشهد باستخدام الكاميرا الحرة ثم الحركة track in الى الكرين واللقطات الساكنة كما تم استخدام اكثر من اسلوب للقطع، من القطع الحاد الى المزج فالإظلام فى انسجام واضح مع الموسيقى الكلاسيكية فى المشهد.
وهناك مشهد النزهة الذى اعتمد المونتاج المتوازى بين السيارة البدائية التى اخترعها “يوجين” والعربة التى يجرها الحصان ، وهذا المشهد المبهر الذى لم يستمر سوى بضع ثوان لنهر صغير وسط الجليد نرى فيه ظلال العربة التى يجرها الحصان و لهب نارى يؤسس لتلك القبلة بين “لوسى” و”جورج” فى المشهد التالى، أو الاظلام التدريجى مع الموسيقى الباعثة على التوتر وظهور ظل رجل ثم اختفائة مما مهد بشكل ممتاز لموت زوج “ايزابيل” فى المشهد التالى مباشرة، أو المشهد/ اللقطة التى استمرت بضع دقائق والذى تضمن حوار “جورج” وعمته “فانى” , ولا ننسى تلك المشاهد التى صورت داخل قصر آل أمبرسون_فى النصف الثانى من الفيلم، والتى اعتمدت على توزيع جيد للضوء والظل وغلبت فيها مساحات الظلام حتى حولت المكان لقصر قوطى مخيف وهو ما عمق الشعور بالكآبة ومهد لسقوط العائلة بعد تغير الزمن.
أخيرا يظل الفيلم علامة فارقة فى تاريخ مخرجه وتاريخ السينما حتى عده بعض النقاد اكثر اهمية من “المواطن كين” وذلك لما اتسم به من حس كلاسيكى وانجاز بصرى رغم ضياع جزء كبير من النيجاتيف الاصلى للفيلم .