“آخر المعجزات”.. الفيلم الذي منع عرضه في افتتاح مهرجان الجونة
أمير العمري
شاهدت فيلم “آخر المعجزات” (20 دقيقة) أول أفلام المخرج المصري عبد الوهاب شوقي، وهو الفيلم الذي منع عرضه في افتتاح مهرجان الجونة السينمائي لأسباب لم يفصح عنها الرقيب. ومعروف أنها ليست المرة الأولى التي تمنع فيها الرقابة عرض فيلم في مهرجان دولي كبير، فهناك “سوابق” على هذا، وعادة ما تأتي التعليمات الشفوية (غالبا من جهة أعلى من جهاز الرقابة) في اللحظة الأخيرة.
ما يهمني هنا أن أتوجه بكلمات تعبر عن محبتي وإعجابي بهذا الفيلم القصير (في زمن عرضه)، الثري جدا في بنائه وتفاصيله المصورة. إنه تعبير بليغ بالصورة عن “رؤية” فلسفية خاصة، على نحو يذكرنا- بأجواء فيلم آخر بديع كان مخرجه يتلمس خطاه، هو فيلم “لي لي” (2001) لمروان حامد.
فيلم “آخر المعجزات” مأخوذ عن قصة قصيرة بعنوان “المعجزة” من مجموعة “خمارة القط الأسود” للكاتب الكبير نجيب محفوظ. لكنه ليس فيلما “أدبيا”، بمعنى أنه لا يسير على منوال القصة في السرد، ولا اللجوء كما نرى كثيرا، إلى التعليق الصوتي من خارج الصورة، بل يستخدم الصورة وتفاصيلها في التعبير عن رؤيته. وحتى عندما يبدو لنا في أحد المشاهد أنه يستخدم التعليق الصوتي من خارج الكادر، تتحرك الكاميرا في هدوء، لكي نرى أن هذا التعليق يأتي من كلام صديق البطل الذي يجالسه. وهو تعامل شديد الذكاء مع فكرة العلقة بين الصورة والصوت أو الحوار.
أولا يجب تحية لجوء عبد الوهاب شوقي في أول أفلامه، إلى الأدب، ليستقي منه مادة لفيلمه، فهو بذلك، يستعيد تقليدا قديما كان له تأثيره الكبير على مستوى السينما المصرية، وساهم في إنتاج عدد من أفضل روائعها الكلاسيكية. وثانيا، أن هذا يعني أنه يعتبر الفيلم ثقافة، ورؤية، تقتضي التأمل الفلسفي والفكري، أي أن الأفلام ليست مجرد ألاعيب شكلانية ساذجة مصنوعة بغرض الإثارة والتسلية.
يختلف الفيلم عن القصة الأصلية في كثير من التفاصيل، بل إنه يهمل تفاصيل ويخلق تفاصيل أخرى، ومع ذلك يظلا محافظا على روح الأصل الأدبي وجوهره، أي كشف فكرة الإيمان بالمعجزة إيمانا لا يستند إلى أساس، ومع ذلك، فالفيلم احتفال كبير بالصوفية والطقوس الروحانية، والمعمار الإسلامي الذي يعود إلى القاهرة المملوكية والفاطمية، ويميزها كثيرا: إنه يزور ويجوس بين المقابر القديمة، الجوامع، القباب، الخان القديم الذي أعيد تصميمه غالبا، حيث تقام “الخلوة” الصوفية، وفي الفيلم يتضح الاهتمام الكبير بالصورة: التكوين وحركة الكاميرا والإكسسوارات المغذية للصورة.
الفيلم يبدأ وينتهي في حانة لشرب الخمر. لكنه يخرج عن الحانة فيما يشبه الحلم الطويل الممتد الذي يدفع بطل الفيلم أو شخصيته الرئيسية، إلى متابعة البحث عن رجل- المعجزة، أو “الشيخ مأمون” الذي تراءى له أنه يناديه ويريد أن يلقاه، ولكن هذا البحث يقوده في الحقيقة إلى اكتشاف ذاته، يأخذه خارج مجاله الدنيوي المباشر إلى مجال أرحب هو مجال التأمل الصوفي. ويتم التعبير عن ذلك الانتقال لا من خلال الحوار، بل من خلال الصورة.
هناك اختيار دقيق لمواقع التصوير في القاهرة التاريخية العتيقة، وتوزيع دقيق للضوء من مصادره الطبيعية، بحيث يضفي ويكثف أجواء الحلم، أو يجسد الانتقال من الواقع الحديث، إلى واقع آخر يستولي على البطل ويجعله يذوب داخل العالم الصوفي، ويتأمل في ذاته، متحررا من قيوده. وحتى لو ثبت له فيما بعد، أن “المعجزة” الغريبة التي وقعت له أو تصور هو وقوعها، كانت وهمية، أو أضحوكة أريد بها السخرية والنيل منه، فقد أعادته إلى نفسه، وجعلته يشعر بالتحقق على نحو لم يحدث له من قبل، وهو سيرفض أي محاولة للنيل من المعجزة بل سيتشبث بها، أو أن هذا هو ما وصلني من المغزى العام للقصة، على العكس من قصة نجيب محفوظ التي كانت تسخر بشكل حاد من ذلك الإيمان الوهمي بالمعجزات.
يظهر بطل الفيلم “يحيى” من زاوية منخفضة على خلفية جامع قديم أو ربما مدفن قديم من مدافن الكبار، فوق ربوة جبلية، في منطقة المدافن التاريخية، بحيث يبدو وقد أصبح يحيى أسيرا لعالمه الجديد. ولن يستطيع مغادرته وأن من يسعى للاستهزاء والتلاعب به سيكون جزاءه الموت. لكن الموت حاضر في الفيلم من خلال النبوءة الغريبة التي تخطر على باله.
وظهور غادة عادل التي تحدثه بدورها عن حلمها الشخصي، وكيف أنه كان يسقيها الماء بيده، ثم رغبتها في لقائه هو إمعان في التأكيد على أجواء الحلم، والخروج عن الواقع، وزيادة جرعة الدهشة لدى يحيى نفسه وكيف أنه يريد أن يصدق ويلتصق بهذا العالم الجديد الذي أصبح “واحدا منه”.
على أي حال، ليس مهما كثيرا ماذا يقول الفيلم، فربما أنه لا يقول أي شيء. بل يكتفي بالتعبير عن فكرة، أو هاجس، أو رؤية للعالم من خلال مكان محدد، يتماهى معه صانع الفيلم ويشعر بقربه منه وانتمائه له. ولكن الأهم، هو كيف يعبر بالنور والظل، بالتشكيل والحركة، ويضفي على فيلمه الحيوية الشديدة من خلال نقلات المونتاج خصوصا في مشاهد حلقات الذكر: حركات الرؤوس وتمايل الأجساد، مع القطع والانتقال بين اللقطات في الوقت المناسب، وعلى خلفية الغناء المختار بعناية شديدة، كما أن شريط الصوت في الفيلم عموما، يعد في حد ذاته احتفالا بالغناء المصري الحقيقي.
لدى عبد الوهاب شوقي مدير تصوير موهوب هو “عمر أبو دومة”، من الواضح أنه بذل مع شوقي، جهدا كبيرا في التوصل إلى خلق هذا المزاج الفني البصري للفيلم، في صورة تدعو للإعجاب. فهذا أساسا، عمل شديد الحيوية من الناحية البصرية. وعمر أبو دومة ليس جديدا على السينما، فله إسهاماته المميزة، وشخصيا كان من أفضل ما لفت نظري في فيلم “حظر تجول” لأمير رمسيس، هو المستوى الرفيع للصورة. وهو هنا يتألق أكثرـ ويترك لنفسه المجال للتعبير بالضوء والظل والألوان، مع منسق مناظر ممتاز يحرص على توفير أدق التفاصيل بما في ذلك الجداريات والخلفيات التي قد لا ينتبه لها المتفرج لكنها تصنع جزءا من هذا العالم.
طبعا.. مسألة منع الفيلم هي أكثر ما يشغل الكثيرين هذه الأيام، وشخصيا لا أستطيع أن افهم لماذا منع فيلم قصير لن يعرض عروضا تجارية عامة على صعيد المدن المصرية، أي أن “خطره” المفترض، إن كان له أي خطر على الإطلاق، لا وجود له. ربما يكون ما اعتبره الرقيب أو المراقب الذي يقبع فوق الرقيب، تعريضا بشكل ما، لفكرة المعجزة، هو سبب المنع، ولكن من يبالي.. فالفيلم سيجد طريقه إلى جمهوره، وسيزيد المنع من هذا الجمهور، عبر المنصات ومواقع البث الرقمي التي لا تصل إليها يد المراقب الأعلى؟؟ لحسن الحظ!