يوميات فينيسيا-3: “باردو” رثاء الذات وغمز الواقع!
أمير العمري
اليوم الثاني في المهرجان. بالنسبة لي موزع على أربعة أفلام. يبدأ على الساعة الثامنة والنصف صباحا، بفيلم “باردو” Bardo للمخرج المكسيكي اليخاندرو جونزاليس إيناريتو، وهو يحمل عنوانا ثانيا طويلا لا أجد له أي معنى سوى التحذلق والافتعال وإضفاء الغموض، وهو “سجل زائف لحفنة من الحقائق” False Chronicle of a Handful of Truths، وينتهي بعرض العاشرة مساء بفيلم المخرج الأمريكي المخضرم فردريك وايزمان “زوجان” A Couple.
فيلم “باردو” يبلغ زمن عرضه نحو 3 ساعات (174 دقيقة). وهو أيضا من أفلام “نتفليكس” التي مولت إنتاجه بميزانية ضخمة، وأول فيلم لمخرجه يصوره في بلده المكسيك وينطق بالإسبانية منذ فيلمه الأول “أموريس بيروس” Amores Perros (الحب ابن كلب) الذي عرض عام 2000، وحقق نجاحا كبيرا، ثم جاءت أفلام التالية لتؤكد موهبته الكبيرة وحصدت الكثير من الجوائز بما فيها الاوسكار، ومنها “بابل” و”بيردمان” و”العائد”. و”باردو” هو أيضا اول فيلم يخرجه منذ “العائد” أي بعد 7 سنوات.
وكان ينتظر أن يرتفع هذا الفيلم فوق سائر أفلام مخرجه، خصوصا بعد ما حظي به من دعاية كبيرة سبقت عرضه في مسابقة مهرجان فينيسيا. إلا أن النتيجة جاءت بكل أسف، مخيبة للآمال كثيرا. فما الذي حدث؟
يروي إيناريتو قصة يريد أن يجعلها تبدو كما لو كانت قصة حياته أو جزءاً من حياته على الأقل، أي نوعا من “السيرة الذاتية”. ولكنه اختار أن يجعل بطلها ليس مخرجا للأفلام الروائية الخيالية، بل صحفيا ومخرجا للأفلام التسجيلية مشهورا جدا في بلده رغم أنه هاجر من المكسيك قبل 15 عاما وذهب الى لوس أنجليس حيث حقق ما حققه هناك من شهرة كبيرة، وهي أولا، حيلة غير مقنعة لأن مخرجي الأفلام التسجيلية لا يحظون عادة بشهرة كبيرة خاصة لو عملوا خارج بلادهم. والاستثناء الوحيد لمخرج الأفلام التسجيلية النجم هو في حالة مايكل مفقط ولا أعرف غيره.
بطل فيلم “باردو” يعود الآن الى بلده المكسيك لكي ينال جائزة كبرى تمنحها له الدولة وتقيم تكريما خاصا له، وهو حدث يقول لنا الفيلم إنه يستقطب أنظار الجماهير وأجهزة الإعلام شيء أقرب إلى الاحتفال القومي بابن بلدهم (غير مقنع أيضا!). لكن ليست هذه هي المشكلة.
إيناريتو يريد أن يربط بين بطله والواقع، السياسي والاجتماعي، فيجعله مخرجا لأفلام “الحقيقة” وصاحب قضية وموقف سياسي، يوجه نقدا شديدا طوال الوقت للمكسيك وما انتشر فيها من فساد على الصعيد السياسي وكل الأصعدة، ويستعرض فترات حاسمة من تاريخها ويستدعيها، إلا أنه يوجه أيضا نقدا لا يقل شدة للولايات المتحدة وللسياسة الأمريكية، وهو في كلتا الحالتين، نقد يصل إلى مستوى المباشرة الفجة كما عندما يقول للسفير الأمريكي مثلا: “أنتم لم تشتروا نصف ولايات المكسيك بل حصلتم عليها بالحرب والقوة المسلحة”.. وعبارات كثيرة من هذا القبيل.
هذا الصحفي/ المخرج التسجيلي “سيلفيريو جاما”، يسترجع حياته وتاريخه الشخصي وذكرياته الحميمية في بلده، داخل بيته القديم، مع زوجته، ومع ابنائه، في مشاهد طويلة مرتبكة، بحيث تختلط الحقيقة بالخيال، وتتداخل الصور وتمتد المشاهد وتتمدد كثيرا. ويجعل أيضا بطله يرتد إلى طفولته ثم يتلصص على نفسه وهو طفل وهي حيلة سبق أم استخدمها إيليا كازان في فيلم “الترتيب” The Arrangement قبل أكثر من خمسين سنة.
ويؤدي تداخل الصور والانتقالات العشوائية من الذاتي إلى الموضوعي، أو من الخاص إلى العام، إلى اضطراب الرؤية بسبب الترهل الذي يصيب الإيقاع، والارتباك الناتج من اعتماد على سيناريو غير محكم دراميا، مع ترك المجال أمام الممثلين للثرثرة التي تبدو مرتجلة، والتي تمتد لدقائق عدة داخل المشهد الواحد، فيغلب الحوار الصورة، ويطغى على اللقطات التي تتحرك خلالها الكاميرا حركات طويلة.
عنوان الفيلم لا صلة له بالممثلة الفرنسية الشهيرة بريجيت باردو بالطبع، بل بمفهوم في الثقافة البوذية يطلق عليه “باردو” يعكس حالة الوجود بعد الموت وانتظار إعادة البعث مجددا، وهو ما يقتضي أيضا شرحا تفسيريا للمتفرج في هذا الفيلم المرهق جدا ذهنيا وبصريا. ولاشك أن اختيار عناوين الأفلام مسألة لا تتم طبقا لرغبة المخرج فقط بل يجب أن تكون مفهومة لدى الجمهور ولابد ان عنوان هذا الفيلم الأساسي والفري سيلعبان دورا في فشله بالإضافة بالطبع الى طوله المفرط وترهل ايقاعه. صحيح أنه سيعرض على نتفليكس لكن نسب المشاهدة لا أتوقع ان تكون كبيرة، أضف إلى ذلك كثرة احوار وتداخله مع بعضه البعض وهو ما يجعل متابعة الفيلم من خلال الترجمة المطبوعة أمرا شاقا. ولو تابعته على نتفليكس عن طريق الدوبلاج في نسخة ناطقة بالإنجليزية سيفقد روحه ومغزاه ويصبح عملا معلبا!
على الرغم من شعور “سيلفيريو” بالاعتزاز بنفسه، إلا أن لديه أيضا شعورا برثاء الذات، ورفض لما هو سائد في المجتمع اليوم من قيم. وأمام مذيع تليفزيوني يستضيفه في مقابلة مباشرة على الهواء، يمتنع عن الإجابة على أي سؤال من الأسئلة التي يوجهها له المذيع. الصمت موقف. لكن لماذا قبل من الأصل الظهور على التليفزيون؟ ربما لتسجيل هذا الموقف الذي ينجح المذيع في تحويله الى مادة للضحك، والجمهور يضحك على أي شيء لأنه جمهور تافه تم افساده، وهذا ما يقوله لنا المشهد بوضوح!
وفي الحفل الذي يقام له يتوارى عن الأنظار ويدخل دورة المياه ليسبح في ذكرياته وخيالاته فيتخيل أنه أمام والده المتوفي، الذي يبدي اعتزازا وتقديرا لما حققه وهو الذي كان يقسو عليه في الماضي. لكن عذاب بطلنا يظل غير واضح تماما مع غلبة غمز الواقع ورثاء الذات والعالم الذي يراه ينحدر، مع الإفراط كثيرا في استعراض المشاهد الاكزوتية الغريبة المثيرة، دون أي إشباع.
وهو يشعر بالتعاطف مع والدته المسنة، ويتساءل عن وضعه كأب لأبناء يشعر انه أصبح بعيدا عنهم، ومخرج يتشكك في قيمة ما قدمه رغم اعتداده بنفسه، يتذكر ويستدعي القمع الكاثوليكي الذي تعرض له في طفولته لمحرد تفكيره في الجنس ولكن حتى هذا المشهد يتم تنفيذه بطريقة مباشرة فجة.
هناك دون شك، طموح فني كبير في تقديم فيلم غير تقليدي، عمل فني حر، يقوم على التداعيات، وهناك مشاهد جيدة جدا في حد ذاتها، منها المشهد الذي نراه في بداية الفيلم عندما يعود إلى بيته ويأخذ في استدعاء ذكرياته مع زوجته المثيرة وهو يطاردها من حجرة إلى أخرى، يريد ان يطارحها الغرام، بينما هي تهرب منه باستمرار وهي تشاغبه وتضحك، ثم يظهر ابنه وهو طفل صغير. وفي هذا المشهد يستخدم ايناريتو الحركة الطويلة المحسوبة للكاميرا التي عرف بها (نتذكر جميع المشهد الطويل في فيلم بيردمان) التي تتسلل بين غرف المنزل وتجول في أرجائه في إيقاع بطيء وحركة بطيئة توحي بأجواء الحلم. إلا أن هذه المشاهد تظل مشاهد متفرقة لا يربطها سياق فني متين نتيجة الرغبة في قول كل شيء عن كل شيء، وبالتالي تلك الانتقالات الحادة المستمرة بين الصور: أمريكا والعنصرية حتى بين أبناء المهاجرين الى أمريكا، والسلطة والسياسة والعالم والفن والزوجة والأسرة والاصدقاء الذين أصبح بعيدا عنهم، والأقارب الذين يهرب منهم.. الخ
يفتقد “باردو” إلى السحر الذي كان المحرك الخفي وراء كل تفاصيل مشاهد وتداعيات البطل “جويدو” في فيلم فيلليني العظيم “8 ونصف” (1963). والمقارنة بين الفيلمين تبدو نوعا من العبث، ورؤية سطحية تجرد فيلم فيلليني من رونقه سحره، وتضفي على فيلم إيناريتو ما ليس فيه.
ويضيف إلى ثقل الفيلم وعدم نجاحه في خلق علاقة تفاعل مع المتفرج (غادر الكثيرون العرض الصحفي تذمرا!) سوء اختيار الممثل (دانييل جيمنز كاشو) الذي اسند إليه إيناريتو دور البطولة، فهو يفتقد إلى أي نوع من الكاريزما أو الشخصية الجذابة التي كان يمكن أن تضيف وتعمق وتجعل الشخصية قربة منا. وجه باهت تماما يثير الرثاء أكثر من التعاطف!
أعجبني تعليق أحد النقاد الذي قال إن “باردو فيلم من 3 ساعات لكنه يجعلك تشعر كما لو كان من 17 ساعة”!