من أفلام الأقصر: “اليوم” لآلان جوميز وفن تقديس الحياة

Print Friendly, PDF & Email


في دورته الثانية بدأ مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية يتخذ خطوات نحو احترافية أكبر، ونحو إيجاد هوية واضحة تغلب على كل أنشطة المهرجان واختياراته. ومن أبرز سمات هذا النضج العدد الكبير من الأفلام الجيدة المشاركة في مسابقة المهرجان الرسمية، وهي مسابقة كبيرة تضم 18 فيلما متباينة المستويات، لكن ثلثها على الأقل أفلام متميزة تعد من أفضل ما أنتجته السينما الأفريقية خلال العامين الأخيرين.

من أبرز الأفلام المشاركة في المسابقة فيلم “اليوم” Today  للمخرج آلان جوميز، وهو مخرج فرنسي من أصل سنغالي، ولد في باريس بعدما هجر والداه وطنه الأم، ليصنع ثلاثة أفلام طويلة حتى الآن عرضها المهرجان كلها (فيلمين في قسم الدياسبورا بالإضافة لفيلمنا هذا). وفي أفلامه الثلاثة تلمح تيمات الاغتراب والبحث عن الهوية والعودة للوطن، وهي تيمات ترتبط كما هو واضح بحياة المخرج نفسه وانقسامه بين الوطن الذي ولد ونشأ فيه والوطن الذي ينتمي له بحكم اللون والثقافة والتاريخ.

فيلم “اليوم” الذي عرض في مسابقة مهرجان برلين العام الماضي يجمع كل هذه التيمات، ولكن ليس بشكلها المعتاد الذي كثيرا ما تتناوله السينما الأفريقية، بل يرتقي بها إلى مستوى أكثر عمقا وإحكاما سواء على صعيد الطرح الفكري أو على صعيد الأسلوب الذي تم من خلاله تقديم هذا الطرح. ليلقى الفيلم تساؤلات أكثر إنسانية تتعلق بعلاقة الإنسان بنفسه وبالعالم من حوله وبفكرتي الحياة والموت.

بداية مقتحمة

الفيلم يبدأ بشكل صادم يقتحم عقل المشاهد من اللحظة الأولى، عندما يتم إبلاغ البطل ساتشيه أن اليوم هو آخر أيام حياته وأنه سيموت في نهايته. اقتحام الخبر للمشاهد لا ينبع من كون البطل شابا يعد موته مفاجأة، ولكن من تجريد المعلومة من أي سياق يفسرها، فالبطل لن يموت لأنه مريض أو لأنه سيضحي من أجل أهله أو لأي سبب آخر من التي يمكن تصور إنهاءها لحياة شاب. إنه سيموت فقط، معلومة يذكرها له أحد الرجال لينطلق كل من حوله في تهنئته بموته الوشيك ومنحه هدايا كثيرة ليستخدمها ويستمتع بها في يومه الأخير على قيد الحياة.

الأزمة الإنسانية المجردة من أي تبرير ميلودرامي أو معلومة نعرفها عن سانشيه تبدأ تلقائيا في توليد تساؤلات في ذهن المشاهد حول حقيقة ما يحدث، محاولا فهم أي شيء عن حياة البطل الذي لا نعرف عنه أي شيء بخلاف معلومة عابرة ذكرها من أنبأه بموعد موته وهي أنه قد عاد للسنغال بعد دراسته في الولايات المتحدة (وهي ظلال من تيمة العودة للوطن التي تسيطر على أفلام جوميز). الأمر الذي يخلق أيضا تساؤلا عما إذا كان البطل قد عاد لوطنه كي يموت فيه بعدما ضحى بفرصه للبقاء في العالم المتقدم.

أغرب ما في تتابعات البداية هي تلك الحفاوة الضخمة بالموت، فالجميع يهنئون سانشيه وكأنه مقدم على حدث سعيد، بينما يبدو هو مصدوما ومأخوذا قبل أن يندمج في الجو هو الآخر ويحتفل مع المحيطين به، قبل أن يتركهم ليبدأ خوض رحلته الوجودية التي يقطعها خلال يومه الأخير على قيد الحياة.

علاقات وإحالات

سانشيه الذي احتفل مع الناس بخبر موته الوشيك يقوم خلال اليوم بزيارة ثلاثة أماكن مختلفة، في كل منها أشخاص لهم قيمة ضخمة في حياته أراد مقابلتهم قبل أن يودع الحياة. المثير في طريقة السرد البصري في الفيلم أن المخرج لا يلتزم بطابع واحد في مراحل الرحلة، بل على العكس يقوم بتعديل إسلوب الإخراج تماما في كل جزء من اليوم طبقا لما يمثله المكان داخل ذهن البطل.

فعندما كان يسير وسط المحتفلين جاءت الموسيقى الصاخبة والأداء المبالغ فيه والرقصات أشبه بأفلام الكوميديا الموسيقية المعروفة بأفلام “الغجر السعداء”. ولكن بمجرد وصوله لأول مكان يزوره ليلتقي بأصدقاءه يتغير أسلوب الإضاءة والقطعات المونتاجية والجمل الحوارية لتكون أشبه بأفلام العصابات، مما يجعل الأصحاب أنفسهم والعلاقات بينهم أشبه بما اعتاد المشاهد رؤيته في هذه النوعية من الأفلام. التعديل يستمر عندما يزور البطل عشيقته ليتحول الأسلوب إلى ميزانسين مسرحي ما بعد حداثي، بإيقاع رومانسي ناعم يرسخ لحب سانشيه لهذه المرأة، قبل أن يتغير الإسلوب لمرة أخيرة نحو الواقعية عندما يذهب البطل في نهاية اليوم لمنزل زوجته وأبنه وابنته الذين يعيشون بعيدا عنه بعدما انفصل عنهم.

التغيير المستمر للأسلوب ليس استعراضا من المخرج لقدراته، ولكنه اختيار واع مرتبط بطريقة السرد داخل الفيلم، فآلان جوميز يقوم بتوظيف ذاكرة المشاهد لتكون جزءا من البناء الدرامي لفيلمه، وبدلا من أن يذكر الكثير من التفاصيل بالطرق الكلاسيكية عن طبيعة حياة البطل وعلاقته بأصدقاءه وأسرته وشكل العالم المحيط به، يكتفي في كل مرة بتعديل الإسلوب البصري ليجعل المشهد الذي قد لا يقدم في مضمونه المجرد معلومات وافية محملا بإحالات بصرية وإسلوبية من عشرات الأفلام التي شاهدها المتفرج من قبل تجعله تلقائيا يعرف الكثير من المعلومات المسكوت عنها، أي أن المخرج يستخدم ذاكرة المشاهد نفسها كأداة سردية تتفوق في قوتها عن أي تعبير مباشر بالطرق الاعتيادية.

نعم للاحتفاء بالحياة

خلال رحلة البطل الأخيرة لا يحدث الكثير من التحولات في حياة البطل الخارجية، لكننا نعلم يقينا أن التحول قد جرى داخله ليغير الطريقة التي ينظر بها للحياة وللموت. فسانشسيه هو ابن تلك الثقافة الشرقية التي احتفلت بنبأ موته في بداية الفيلم، بالضبط كما احتفى تاريخ الشرق على امتداده بالموت الذي منحه قدسية أكثر من الحياة نفسها. ولكن رحلة سانشيه جعلته يكتشف حقيقة الأمر. فالتشبث بالرأي والكرامة لدرجة تؤدي لصدام مع صديق أمر لا يساوي مهما كان على حق لحظة واحدة من السعادة تقضيها مع هذا الصديق (مثلما يحدث في مشهد لقاءه بالأصدقاء)، واحتفاء الإنسان بحياته وحرصه على الاستمتاع بها قيمة أكبر بكثير من الموت مهما كان مقدسا.

سانشيه يكتشف خلال تنقله من مكان لمكان قيمة الحياة التي فاته أن يعيشها، ويدرك أهمية اللحظات التي تركها تمر من يديه دون أن يتذوق فيها حلاوة التقرب لأطفاله وزوجته وأصدقاءه. وعند لحظة الاكتشاف تلك يتمكن من الانتصار على الموت، ليخبرنا آلان جوميز بلقطة ذكية أن البطل لم يمت كما قيل له، ولكنه عاش سعيدا مع زوجته وأبناءه حتى رآهما يكبران أمامه محققين له متعة يتذوقها في كل يوم، وهذه هي نوعية الحياة التي يمكن أن نحتفي بنهايتها ليس لأنها تنتهي بالموت ولكنها كانت حافلة بالحياة.

Visited 7 times, 1 visit(s) today