ملفات فينيسيا (6) “حكاية سيليان”.. عمل شاعري رقيق عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة
أمير العمري– فينيسيا

عرض فيلم “حكاية سيليان” The tale of Sylian في البرنامج الرسمي- خارج المسابقة، في الدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا السينمائي. وهو الفيلم الطويل الثالث للمخرجة المقدونية تامارا كوتيفسكا (من شمال مقدونيا).
وكان الفيلم السابق لكوتيفسكا، “أرض العسل” (2019)، قد حقق نجاحا كبيرا. وكانت قد اشتركت في إخراجه مع زميلها لوبومير ستيفانوف، وكان يصور موضوعا يطرح الكثير من التساؤلات حول الكائنات البشرية التي تعيش حياة شاقة قاسية معزولة في الجبال. لا أحد يهتم بها. كما يبرز المخاطر التي تتعرّض لها الكائنات الطبيعية (النحل تحديدا) وكيف يقضي الإنسان عليها نتيجة الجهل والحماقة والجشع.
أهم ما يميز “أرض العسل”، صوره البديعة التي تبرز التناقض بين حياة البؤس وجمال الطبيعة في تلك المنطقة الساحرة في أعالي جبال شمال مقدونيا، وقدرة الكاميرا على التقاط أدق التفاصيل والتسلل داخل حياة امرأة مثابرة من الأقلية التركية تدعي حديز، التي تعيش على تربية النحل والعناية به، لتطعم أمها العجوز، تتعامل برقة مع النحل، ومع الحيوانات الموجودة حولها: القطط والكلاب.
وقد فاز “أرض العسل” بثلاث جوائز في مهرجان صندانس السينمائي لعام 2019، كما رشح لجائزتين من جوائز الأوسكار عن فئتي أفضل فيلم وثائقي وأفضل فيلم دولي في مسابقة 2020.

أما فيلم “حكاية سيليان” فهو يصور العلاقة الحميمية الغريبة التي تنشأ بين طائر لقلق أبيض، ومزارع مقدوني، يدعى نيكولا. هبط هذا الطائر في قطعة أرض يمتلكها نيكولا، وكان جريحا، مصابا في ساقه اليمنى. يطلق عليه نيكولا اسم “سيليان” ويأخذه إلى عيادة الطب البيطري لعلاجه، فيضمدون جرحه لكنهم غير معتادين على التعامل مع أمثال هذا الطائر الذي يعتبرونه من الكائنات “البرية” أي غير الأليفة. ماذا يمكن لنيكولا أن يعطيه ليأكل؟ هذا السؤال يشغل الرجل لكنهم يخبرونه أنه لا يأكل سوى السمك، فيشتري كمية من السمط الكبير لكن سيليان يرفض تناولها، فيذهب ليصطاد بيده الأسماك الصغيرة من بحيرة صغيرة في القرية، ويلقي بها لسيليان الذي يقتنصها قبل أن تصل إليها الدجاجات المنتشرة التي يربيها الرجل.

تتشابك حياة الرجل والطائر.. إنهما يشتركان في الوحدة. فنيكولا وحيد بعد أن هجرته هجرته عائلته، الطائر الجريح من مكب نفايات. وبينما تنشأ رابطة بين نيكولا وسيليان، وسيليان أصبح لا يريد الطيران والعودة إلى الفضاء الحر بل يجد نفسه مرتبطا بتلك البقعة وهذا الرجل. إنهما يجدان العزاء والرفقة معا.
ورغم ما يبذله نيكولا من محاولات لدفع سيليان للطيران إلا أنه يصر على البقاء.
مرة أخرى تبدع كوتيفسكا عملا شاعريا رقيقا عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبينه وبين الكائنات التي تجاورنا لكننا لا نشعر بها. هذا المزارعٌ الريفيٌّ المقدونيٌّ الذي يعاني من العزلة في تلك المنطقة القاحلة، تتغيّر حياته الهادئة بفضل ارتباطه المفاجيء بهذا الطائر الجميل.
نيكولا يعرض قطعا صغيرة من أرضه للبيع. وتلح عليه ابنته التي تتصل به تليفونيا، على ضرورة البيع لاحتياج الأسرة إلى المال. لكن الراغبين ف يالشراء يعرضون مبالغ أقل كثيرا من قيمة الأرض. ونيكولا يصبح تدريجيا أكثر ارتباطا عما كان مع الأرض ومع الكائنات التي أصبحت تملأ حياته وخصوصا سيليان.

يبرز هذا العمل التسجيلي البديع تغيّر المناظر الطبيعية والتركيبة السكانية، ويضفي طابعًا شعريًا رائعا على تحركات طائر اللقلق.. ونحن نرى نيكولا في علاقته البسيطة الدافئة بجيرانه، وكيف أصبح يهتم برعاية حقوله التي أهملها كثيرا من قبل.
وكما كان “ارض العسل” مهتما بتصوير الحياة البرية، وما يرتكبه الإنسان من تدمير لها، يستمر اهتمام كوتيفسكا في “سيليان” بالطبيعة وعالم الحيوان، وسبر أغوار حياة العزلة والانتماء إلى الأرض، والعلاقة بين الإنسان والحيوان. كما يصبح الفيلم أنشودة عن الوحدة وكيف يمكن للمرء أن يحقق السعادة بعد أن يتقدم به العمر، ولو من خلال علاقة دافئة بسيطة مع كائن آخر، يتمكن بفضل رقته من تطويعه واستئناسه.
تقول المخرجة كوتيفسكا: “بأسلوبٍ أشبه بقصةٍ خياليةٍ واقعية، تُظهر القصة التي صوّرناها طيور اللقلق البيضاء كمرآةٍ مثاليةٍ للإنسانية”.
