ملفات فينيسيا (11): كوميديا إلهية من إيران

أصبح من الصعب أن تغيب السينما الإيرانية عن أي مهرجان سينمائي كبير، بعد أن فرضت نفسها بقوة من خلال براعة مخرجيها، وتميز أعمالهم بسيناريوهات مشغولة جيدا، وجرأتها في النقد الاجتماعي والسياسي، من خلال أساليب تتميز بخصوصيتها.

في قسم “آفاق” (أوريزونتي) بالدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا السينمائي، عرض فيلم “كوميديا إلهية” Komedie Elahi للمخرج علي عسكري الذي كان قد واجه مشاكل عديدة مع السلطات في بلاده بعد عرض فيلمه السابق “آيات أرضية” في مهرجان كان عام 2023.  وهو الفيلم الذي اشترك في إخراجه مع زميله ورفيق عمله عليرضا خاتمي، فقد منع من العمل لعدة أشهر وصودرت بعض ممتلكاته من شقته في طهران.

في فيلمهما السابق معا، “آيات أرضية” كانت القصة الأخيرة (من بين 11 قصة) تنعى عمل المخرج السينمائي في إيران ومعاناته مع الرقابة، وتبدو كما لو كانت تعليقا على ما حدث للمخرج عليرضا خاتمي” نفسه الذي تعرض فيلمه السابق للرفض من جانب الرقابة.

إننا نرى مخرجا شابا، يريد التصريح بتصوير فيلم عن والدته التي تتعرض للضرب على يدي والده، فيطلب منه مسؤول الرقابة “حذف” 16 صفحة من السيناريو، معترضا على تفاصيل كثيرة في السيناريو، وعلى كثير من الشخصيات والمشاهد تحت ذرائع مختلفة تشي بحالة البارانويا التي تنتاب الرقباء ضد أي شيء يتصورون أنه يمكن أن يكون مخالفا للاستقامة الدينية أو السياسية. إنه يعترض مثلا على أن ينتهي الفيلم بقتل والد المخرج، بل إنه يطلب منه في وقت ما أن يتخلى عن مشروع فيلمه ويصنع فيلما عن احدى قصص القرآن، وعندما يبدي المخرج موافقته ويختار قصة سيدنا يوسف ويقول إنه يمكن أن يصورها كما جاءت في القرآن تماما، ينزعج الرقيب، وينتهي الأمر بأن يأخذ المخرج في انتزاع صفحات عديدة من السيناريو، يلقي بها في سلة القمامة، بحيث لا يبقى سوى بضع صفحات لا تصلح لعمل أي فيلم!

في فيلمه الجديد “كوميديا إلهية”- الذي كتبه مع خاتمي- يمد علي عسكري هذه الفكرة على استقامتها ويخصص فيلمه بأسره- للتعليق الساخر والقاسي والمباشر على تدخل الرقابة في إيران في الأفلام، ومحاولة فرض نوع معين من أفلام الترفيه على المخرجين، بحيث يبتعدون عن تصوير الواقع في أفلامهم.

هنا، ومرة أخرى يستخدم علي عسكري أسلوب الواقعية التسجيلية أو الدوكيو-دراما، ليروي قصة وقعت فصولها على نحو ما، باستخدام اثنين من الممثلين اللذين يقومان بدوريهما الحقيقيين في الواقع، هما المخرجان- التوأم بهرام آرك، وبهمن آرك. الأول، أي بهرام هو الشخصية الرئيسية في الفيلم، وهي شخصية مخرج سينمائي يصنع أفلاما تنتمي إلى سينما الفن، ويرفض السينما التجارية الترفيهية، لكن الرقابة الإيرانية تمنع عرض أفلامه. وهو يسعى بشتى الطرق للحصول على تصريح بعرض فيلمه الجديد، وعندما يفشل في ذلك، يسعى لعرض الفيلم بشكل غير رسمي في تحد مباشر للرقابة.

المشهد الأول في الفيلم (وهو مشهد سيتكرر كثيرا ولو في سياق مختلف فيما بعد) نرى كلا من بهمن يركب خلف منتجة فيلمه وبطلته المفضلة (في الحقيقة) أي الممثلة “صدف عسكري” ابنة شقيقته في الحياة، التي تقود دراجة نارية وردية اللون، تتأرجح يمينا ويسارا في شوارع طهران بينما تضع فوق رأسها الخوذة التي يرتديها من يقودون مثل هذه الدراجات، ولن نراها بعد أن تخلع هذه الخوذة، ترتدي الحجاب المفروض على النساء في إيران، بل قبعة صغيرة، كما ترتدي سراويل واسعة بعض الشيء وليس “الشادور” التقليدي. وفي مشاهد عديدة نراها في شعرها الأزرق من دون غطاء للرأس. أي أننا من المشاهد الأولى وتحت وقع الإيقاعات الموسيقية التي توحي بأننا أمام عمل تهكمي ساخر، يتحدى عسكري تماما التقاليد الرقابية: امرأة يركب وراءها رجل يمسك بكتفيها، لا ترتدي الحجاب، تقود دراجة نارية، تتأرجح بها أمام السيارات من خلفها، وكأنها تتحدى الجميع في وضح النهار.

المشهد الذي يدور بين بهرام والرقيب بعد ذلك، هو مشهد طويل، مصور بواسطة كاميرا ثابتة، وحوار لا نرى منه سوى بهرام، فنحن لا نرى الرقيب المتشدد المتزمت الذي يصر على رفض الفيلم بل نسمع صوته فقط: أنت في إيران، لماذا تصنع فيلما ناطقا باللغة التركية؟ فبهرام من الأقلية التركية الأرزية، ولا يجد غرابة في صنع فيلم ناطق بلغته الأم، في سياق سياسة احترام الأقليات والتعدد الإثني، لكن الرقيب يحتج، ويجادل، ثم يعترض على تصوير كلب في دور بارز يثير التعاطف في الفيلم، فالكلب غير مرحب به في الأفلام، ثم يتساءل: لماذا لا يصنع بهرام أفلاما ترفيهية تعجب الجمهور مثل شقيقه بهمن الذي أصبح أكثر شهرة منه، يعيش حياة مستقرة؟

يبحث بهرام بعد ذلك كيف يعرض فيلمه، لكنه سيقابل رجلا غامضا في “مقهى دانتي”، يبدي استعداده لأن ينتج له فيلمه شعبيا ويناقشه في السينما بحيث يبدو أنه مطلع على أعمال السينما الفنية لكن مع امتداد الحوار وسط تصاعد كتلة مرعبة من النيران بين وقت وآخر، ينفخها الرجل الذي يعد المشروبات في المقهى (الذي يبدو في الحقيقة أقرب إلى حانة غامضة) يتصاعد في الوقت نفسه غضب الرجل وتهديده المباشر لبهرام بالاعتقال إن خالف التعليمات وقام بعرض الفيلم من دون تصريح. وهو يلوح له أيضا بأنه تحت المراقبة الدائمة.

بطلة الفيلم صدف عسكري في مهرجان فينيسيا

النيران تشير في الفيلم إلى الجحيم، أي جحيم دانتي، ولكن الكوميديا هنا عبثية تماما، ولن تنتهي نهاية سعيدة على غرار كوميديا دانتي. وكل الأماكن والشوارع والمقاهي التي نشاهدها في الفيلم واقعية تماما. ومع ذلك هناك ما يوحي بالغرابة في سلوك الشخصيات إلى حد العبث، بهرم مثلا يقابل رجلا يبدو متشردا، أمام مقهى، يحاول أن يقنعه بانه “نبي”، وأنه سيخرجه من أزمته الروحية ويرد إليه إحساسه بالسعادة. لا نعرف هل هذا الرجل مخرف، أم محتال، أم موفد من السلطة لمراقبته وتعقبه. لكنه ينتهي بالاستيلاء على قطعة من الكعك الذي يتناوله بهرام!

سيذهب بهرام يطلب مساعدة رجل يريد أن يصبح ممثلا، لكنه ممثل رديء سبق أن رفض بهرام قبوله، لكنه يمتلك قاعة عرض خاصة، وهو مدمن مخدرات لعين، ويتعين على “صدف” الآن أن تحصل له على بعض المخدرات من النوع الممتاز على سبيل الرشوة لاستمالته وإقناعه بعرض الفيلم من دون تصريح. كما يتعين على بهرام أن يمتدح قدراته التمثيلية ويعده خيرا..

وعندما يتم العثور على قاعة داخل قصر تمتلكه أرملة ثرية، تنفجر الأحداث في سورية، وتتم الإطاحة بنظام بشار الأسد، وتطغى التداعيات السياسية التي نشاهدها ويتابعها الجمهور على شاشة التليفزيون، على عرض الفيلم، كما لن تسمح السلطات أيضا بعرض الفيلم من دون ترخيص. وسينفجر جحيم من نوع آخر.

في الفيلم الكثير من المناقشات حول السينما ومفهوم الفن، وهل السينمائي يجب أن ينحاز لسينما الفكر والفن، أم أن دوره هو الترفيه عن الجمهور؟ وخلال الحوارات التي تدور بين بهرام وشقيقه بهمن الذي ابتعد عن سينما الفن واستسلم لإرضاء النظام وارتضى العمل وجني المال والعيش في منزل أنيق، تتردد أسماء كياروستامي وأرونوفسكي وسكورسيزي (بهرام يقول للرقيب إنه صنع فيلمه عن المسيح ناطقا بالإنجليزية لا الآرامية دون أن يعترض أحد) وجودار (الذي مازال بهمن يعرض ملصقا لصورته الكبيرة على جدار منزله) رغم ابتعاده عن السينما الفنية، وأحاديث عن الأفلام الرياضية مثل “روكي”، و”الأزرق أكثر الألوان دفئا” بمناسبة التعليق على لون شعر الفتاة صدف، و”الختم السابع” لبرجمان، بل و”آيات أرضية” أيضا.. وكلها إشارات تؤكد فكرة انحياز بهرام لسينما الفن، ورفض السينما التجارية. وفي نقاشه مع شقيقه بهمن، يعترف الأخير بأنه أحب السينما بسبب فيلم “ماتريكس” إلا أنه لم يعد يحبه الآن.

المخرج علي عسكري مع فريق فيلمه في مهرجان فينيسيا

هناك أداء تمثيلي متميز وواثق كثيرا من جانب “بهرام آرك” بوجه خاص، الذي يتماهى مع دوره ويصبح الحوار الذي ينطقه كما لو كان قد تدفق تلقائيا، وتبدو كلمات حواره أقرب إلى “المونولوج” الاحتجاجي والتعليق الهجائي الساخر، منه إلى الديالوج.

يساند أداء بهرام، أداء شقيقه “بهمن”، وأداء ممثلته المفضلة “صدف عسكري”. ويتميز تصوير أمين جعفري بقدرته على اقتناص اللقطات الخارجية الجريئة وإضفاء أجواء واقعية فريدة عليها دون أي ارتباك، وتحقيق إضاءة غامضة خاصة داخل مقهى دانتي، ثم داخل قصر السيدة التي كان بهرام سيعرض فيلمه فيه، ما أن بدأ عرض الفيلم وظهر الكلب (دون أن نراه بل نسمع صوت نباحه فقط) إلا وانفجرت كلبة السيدة في النباح بحيث استحالت متابعة الفيلم.

فيلم “كوميديا إلهية” بيان هجائي شديد ساخر، ضد القيود المفروضة على حرية الإبداع والتعبير في إيران، وهو خطوة متقدمة في مسار مخرجه، لا نعرف بوضوح، كيف أنتج، وهل صور بشكل طبيعي في طهران؟ وهل سيسمح بعرضه في إيران؟   

لا توجد معلومات واضحة عن أماكن التصوير، لكن الفيلم من الإنتاج المشترك بين إيران (شركتان إيرانيتان) مع شركات من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وتركيا. ويجب أن نستنتج أن جانبا من تصوير الفيلم- على الأقل- دار في إيران.. وهو كثيرا ما يحدث وتتغاضى عنه السلطات، ثم تمنع عرض الفيلم نفسه بعد ذلك، وإن تتركه يُعرض في الخارج بحيث تصبح إيران ممثلة باستمرار في مهرجانات السينما الدولية.