لمسة يوسف شاهين في الفيلم الغنائي المصري.. سينما فريد الأطرش نموذجا
د. المهدي شبو *
تُعَد السينما الغنائية أحد أبرز المحاور المُهْملة في تجربة يوسف شاهين المعروف أنها قُتِلُت بحثا. عُرِفَ عن الرجل أنه أكثر المخرجين المصريين توظيفا للموسيقى والغناء في أفلامه بسبب أو من دونه([1])، لكنه خاض أيضا تجارب لإخراج الفيلم الغنائي، وهو جنس فيلمي أُغْرِم به في بدايات علاقته بالسينما مُشاهدا لأفلام الكوميديا الموسيقية الأمريكية التي كان يقوم ببطولتها فريد أسترمع جينجر روجرز وجين كيلي وغيرهم.
أخرج للسينما الغنائية أفلاما منها: «سيدة القطار» 1952؛ أدار فيه المطربة الكبيرة ليلى مراد، وأخرج لهدى سلطان فيلم غنى فيه كوكبة من المطربين اسمه: «نساء بلا رجال» 1953، وفي فترة تواجده بلبنان نفذ للسيدة فيروز فيلما موسيقيا يحمل عنوان «بياع الخواتم» 1964، لم تتجاوز فيه إضافته عتبة المخرج المنفذ؛ لأن السيناريو والحوار والموسيقى والكيروغرافيا كانت من وضع الأخوين الرحباني.
وعلى تباين المستويات التي قدمها في أفلامه الغنائية، فإن النقاد ومريدي المخرج لم يستصغروا من أعماله في العينة إلا الفيلمين اليتيمين اللذين أنجزهما للموسيقار والمطرب فريد الأطرش؛ ويتعلق الأمر ب: «ودعت حبك» 1956 و«أنت حبيبي» 1957، وهو نفسه لم يكن يتوانى عن الاعتراف بأن العملين كانا فيلمي طلبية اضطر إلى قبول إخراجهما في فترة عطالة فنية، ولم يكونا يعبران عن نظرة فنية على غرار الكثير من أعماله الأخرى..
تَعُجُّ مواقع التواصل الاجتماعي بأباطيل يقارن فيها كتبة هذين العملين بأفلام المقاولات التي ظهرت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ويذهبون زورا وبهتانا إلى أن يوسف شاهين تبرأ منهما، وهو ما لم يثبت([2])؛ بدليل أن المخرج لما سُئل في إحدى مقابلاته في التلفزيون الفرنسي عن فيلم «أنت حبيبي» أجاب: «أنه يكره إعادة مشاهدة أعماله، إلا أنه يستمتع بمشاهدة هذا العمل بين الفينة والأخرى لأنه فيلم مُسَلٍ Amusant».
بعد فيلمه الشهير «صراع في الميناء»، عاش يوسف شاهين فترة عطالة لم ينقده منها سوى فريد الأطرش الذي كان حينها يتربع على عرش الفيلم الاستعراضي المصري منتجا من خلال شركته ” أفلام فريد الأطرش”، ولكن كذلك ملحنا ومؤلفا موسيقيا ومغنيا ونجم شُبّاك، فقدم له عرضا لم يتردد المخرج في قبوله، فكان الفيلمان اللذان منحا يوسف شاهين فرصة إضافة لمسته إلى الفيلم الغنائي المصري من خلال إدارة أحد أبرز نجومه.
أولا: «ودعت حبك» 1956
يدور الفيلم في مستشفى عسكري، حيث يلتحق الضابط البحري أحمد يسري (فريد الأطرش) بعنبر يضم مجموعة من المرضى وجرحى الحرب منهم فتحي (أحمد رمزي)، أبو المجد (عبد السلام النابلسي) وسردينة (السيد بدير)… يخبرهم مدير المستشفى أركان حرب (توفيق الدقن) أن الرجل مريض بالكلى وأيامه في الحياة معدودة، فيحاولون التودد إليه والترفيه عنه، لكنه يصدهم واضعا جدارا بينه وبين الجميع، لم ييأسوا، وبمساعدة حورية (شادية) الممرضة المسؤولة عن حالته يستطيعون جره للتفاعل الاجتماعي، وسرعان ما يتحول الود بينه وبين الممرضة إلى حب ، ثم يشركونه في حفلة في خرق لتعليمات الأطباء، يكتشف على إثرها حقيقة مرضه، فيغني بكل جوارحه لمحبوبته أغنية (ودعت حبك) على عنوان الفيلم، ليسقط بعدها صريعا على المسرح .
لا يشير جنريك الفيلم إلى أصل القصة، واكتفى بالتنويه إلى أن السيناريو والحوار للسيد بدير، مع أن السيناريو مسلوق عن سيناريو فيلم أمريكي- بريطاني هو «السفر الأخير/The Hasty Heart) 1949مع تعديلات طفيفة([3])، والغريب أن شاهين وكافة من كتبوا عن أعماله لم يتحدثوا قط عن هذا الاقتباس الذي لم يخرج عن تمصير فيلم أمريكي، وليت الاقتباس اقتصر على القصة، إذ أعاد شاهين كثير من كادرات المخرج فانسانشيرمان بصورة تكاد تكون حرفية سيما نلك التي صُوّرت في عنبر المرضى.
ما يهمنا من الفيلم هي الإضافات التي قدمها شاهين لسينما فريد الأطرش، وهي سينما معروفة بنمطيتها. ونستطيع القول هنا إن شاهين كسب الرهان؛ فقد استطاع في هذا الفيلم أن يُخْرِج فريد الأطرش من الإطار النمطي الذي حُشِر فيه على امتداد أفلامه التسع عشرة (19) السابقة؛ فهو إما المغني الفقير الذي يصعد سلم النجاح أو الموسيقار الشهير الذي يغرم أو تغرم به حسناء. في هذا الفيلم – كما في الذي سيليه – قدم شاهين فريد الأطرش في إطار بعيد عن شخصيته في الحياة، ما اختبر قدراته التمثيلية بعيدا عن الأدوار الكوميدية التي ميزت أغلب أدواره السابقة، والحقيقة أن لمسة شاهين كانت بادية في إدارته للممثل، كما بدت من أسلوبه في تنفيذ الفيلم الغنائي الذي جاء مختلفا عما اعتداه جمهور فريد الأطرش في أفلام المخرجين الأثيرين لدى هذا الأخير، وهما: أحمد بدرخان (أخرج له تسعة أفلام)([4])وهنري بركات (أخرج له أحد عشر فيلما)([5]).
بدأت السينما الغنائية المصرية مع محمد كريم (1896-1972) الذي اخرج جل أفلام محمد عبد الوهاب، بمقابلته يقف أحمد بدرخان (1909-1969) الذي نفذ أغلب أفلام السيدة أم كلثوم مقدما أسلوبا مختلفا عن وصفة محمد كريم في إخراج الفيلم الغنائي، في الوسط يتربع هنري بركات (1914-1997) الذي أدار كبار مطربي السينما الغنائية أمثال: فريد الأطرش، ليلى مراد، محمد فوزي، عبد الحليم حافظ، محرم فؤاد وغيرهم، وكان بحق صاحب الاختصاص في تنفيذ الفيلمين الغنائي والاستعراضي([6]).
بالتأكيد هنالك مخرجون أخرجوا أفلاما غنائية واستعراضية أمثال: حسين فوزي وحسين كمال وحسن الامام وفطين عبد الوهاب وعز الدين دو الفقار وحلمي رفلة وحلمي حليم وعاطف سالم وغيرهم، إلا أنهم لم يبلغوا صيت الثلاثي سابق الذكر، ولم يصلوا إلى مستوى حرفيتهم في تنفيذ هذا النوع من السينما.
لم يتعامل فريد الأطرش مع محمد كريم الذي ينعته مؤرخو السينما بأنه المخرج – الملاكي للموسيقار محمد عبد الوهاب، لكنه تعامل مع المرجعين الكبيرين بدرخان وبركات، والذي رُمْنَاه بهذا التذكير عقد المقارنة بين المخرجين ويوسف شاهين، وهنا لا نتفق مع الناقد إبراهيم العريس حين يقول في معرض تعليقه على فيلم «ودعت حبك» أنه: «ستغيب عنه تقريبا، كل أساليب لغة شاهين السينمائية، وكل هوليوودياته. واضح في نهاية الأمر أن فريد الأطرش، كاد يكون المخرج الحقيقي للفيلم»([7])، إذ خلافا لما انتهى إليه الناقد، لم يسبق لأحد أن قال إن الأطرش هو مخرج أفلامه أو أنه يكاد أن يكون كذلك، فلئن كانت له اليد الطولى على الجانب الموسيقي في أفلامه، إلا أنه كان يُدَار برؤية مخرجيه، وأساليبهم تدلل عليهم في كافة أفلامه. في فيلم «ودعت حبك»، يلمس من تابع أعمال فريد الأطرش السابقة، أننا أمام فيلم بلمسة وبأسلوب يختلف عما عَهِدناه في أسلوبي أحمد بدرخان وهنري بركات، ليس في طريقة إدارة الممثل فحسب، وإنما في اختيار زوايا التصوير وطريقة تنفيذ الأغاني، بل وفي أسلوب معالجة القصة والسيناريو عموما.
خلافا للسواد الأعظم من أفلام فريد الأطرش التي لا يمكن أن تستقبل إذا ما جُرِّدت من الموسيقى والغناء، نستطيع القول إن فيلم «ودعت حبك» لا يعدم القيمة الفنية العالية سينمائيا رغم سقوطه المريع جماهيريا، فمن سوء حظ شاهين والأطرش أن العرض الأول للفيلم بصالة سينما ديانا في 29 أكتوبر 1956 تزامن مع اليوم الأول للعدوان الثلاثي على مصر، فانشغل الناس بأخبار المعارك وهجروا صالات السينما، وكان للمغامرة المجنونة التي أقدم عليها فريد الأطرش بإنهاء حياته في ختام الفيلم أثرا على استقبال الفيلم، فلأول مرة في تاريخ السينما العربية يُقْدِمُ نجم سينمائي هو منتج الفيلم على إنهاء حياته في الفيلم في خروج عن تقاليد النهاية السعيدة في الفيلم المصري.
ثانيا: «أنت حبيبي»1957
رغم الخسارة المادية الكبيرة التي مُنِيَ بها فريد الأطرش في أول أفلامه تحث إدارة يوسف شاهين، إلا أنه ظل مؤمنا بموهبة مخرجه. يحكي شاهين أنه تلقى في إحدى أمسيات العام 1956 مكالمة من فريد يطلب منه الحضور إلى مسكنه فورا، ورغم تدابير حظر التجول المفروضة عقب العدوان الثلاثي، إلا أنه استطاع الوصول إلى مسكن الأطرش، فوجده كالملك محاطا بحاشيته، وكانوا يدخلون في موجة ضحك هستيري عقب كل قفشة أو نكتة يطلقها فريد الأطرش. أخبر النجم – المنتج شاهين أن لديه قصة يريد أن يحولها لفيلم سينمائي، وبدأ يسرد؛ يتعلق الأمر بشاب يجري، ويجري في الشارع، يقاطعه شاهين: لماذا يجري؟ أتلاحقه الشرطة أم أنه هارب من خطر داهم؟ يجيب الأطرش إنه يجري لأنه لا يريد أن يتزوج، يقاطعه شاهين وبعد؟ يرد الأطرش هذا كل ما لدي عليك بالباقي.. أدرك شاهين أن صديقه يجره إلى الكوميديا، فكان عليه أن يعثر على قصة تلائم المدخل الذي حكاه الأطرش. ومرة أخرى لم يذكر شاهين وكل من كتبوا عن أفلامه أنه رجع في الفيلم الثاني – كما سابقه- إلى مشاهداته الهوليوودية لتطوير قصته خصوصا في العلاقة بين الزوجين، حين يتحول زواج المصلحة إلى حب، لقد وجد ضالته في فيلم “الزوجة الثامنة لذي اللحية الزرقاء/ ” Bluebeard’s Eighth Wife لارنست لوبيتش 1938([8])، وبلغ التأثر مبلغه حد نقل شاهين لبعض كادرات لوبيتش كما توضح صور المقارنة المرفقة بهذه المقالة .
يحكي فيلم «أنت حبيبي» عن فريد (فريد الأطرش) وياسمين (شادية) وهما من أبناء عمومة، يكتشفان أن الجد المشترك علّق تقسيم الميراث في وصيته على زواجهما، لذا وجدا أن أسرتيهما تدفعان بهما إلى الزواج، وهو ما يرفضانه لأن كل منهما يقيم علاقة مع شخص آخر؛ فريد مع الراقصة نانا (هند رستم) وياسمين مع تاجرالبترول (عبد السلام النابلسي)، يقتنعان بإتمام زواج صوري للحصول على الميراث، فيسفران إلى الأقصر لقضاء شهر العسل، لينتهي بهما الأمر لأن يغرما أحدهما بالآخر.
نال فيلم «أنت حبيبي» نجاحا جماهيريا ساحقا في مصر وباقي العالم، لدرجة لن نغالي معها في القول إنه من الأفلام النادرة ليوسف شاهين التي استطاعت أن تكتسح شباك التذاكر.
ثالثا: إضافات يوسف شاهين إلى الفيلم الغنائي المصري من خلال سينما فريد الأطرش
يشكل فيلما «ودعت حبك» و«أنت حبيبي»أبين تجارب يوسف شاهين في إخراج الفيلم الغنائي، لأن «سيدة القطار»مع ليلى مراد و«نساء بلا رجال»مع هدى سلطان كان محكومين بالقصة أكثر من التزامهما بتوابل الفيلم الغنائي، والفيلم الموسيقي «بياع الخواتم»مع فيروز، دخله شاهين مخرجا منفذا بعد انسحاب المخرج الفرنسي برنار فاريل، وكان كل شيء في الفيلم جاهزا، أما في فيلمي فريد الأطرش، فإنه أدار النجم الأول للفيلم الغنائي، ووضع نفسه في موضع المقارنة مع مختلف المخرجين السابقين الذين نفذوا تسعة عشر فيلما من أفلام المطرب السابقة، وبفضل هذين الفيلمين أتيح لشاهين أن يدلي بدلوه في هذه العينة على غرار كافة زملائه من كبار المخرجين المصريين.
رغم عدم مشاركته في كتابة السيناريو في الفيلمين معا([9])، فإن اللمسة الخاصة ليوسف شاهين بادية للعيان رغم بعض هنات الاقتباس التي أشرنا إليها.
ظهر تميز شاهين عن أسلوبي بدرخان وبركات منذ الجنريك ، فخلافا لأفلام فريد الأطرش السابقة ؛ حيث كانت بيانات الفيلم تتعاقب على خلفية بصرية ثابتة ، ابتدع شاهين أسلوب الجنريك المتحرك، حيث وضع المتفرج في قلب الأحداث دون انتظار تمام استعراض كافة البيانات التقنية .
من حسن حظ شاهين أن فريد الأطرش أتاح له فرصة العمل على الصيغتين المعروفتين في الفيلم الغنائي المصري، وهما: الفيلم الغنائي الرومانسي التراجيدي (ودعت حبك)، والفيلم الاستعراضي الكوميدي على الطريقة الأمريكية (انت حبيبي)، والحقيقة التي تدخل في نطاق البيان أن فريدا أصاب نجاحا معتبرا في الصيغة الكوميدية الخفيفة مع سامية جمال بإدارة أحمد بدرخان وهنري بركات، إلا أنه كان متعثرا في الصيغة التراجيدية، وتحث إدارة شاهين أظهر تطورا ملحوظا نُرْجِعُه لمجهود شاهين في إدارة الممثل.
استطاع شاهين أن يبصم الفيلم الغنائي بأسلوبه الخاص مقدما أسلوبا مختلفا عن أساليب المخرجين الكلاسيكيين للفيلم الغنائي أمثال: محمد كريم وأحمد بدرخان وهنري بركات، ما بدا من أسلوبه في تشكيل الكادرات واختيار زوايا التصوير وإدارة الممثلين، بجانب محاكاته لأساليب الكوميديا الموسيقية الأمريكية التي أغرم بها في مرحلة تشكل عشقه للسينما.
نأتي لما يميز الفيلم الغنائي عن الفيلم الروائي العادي، ويشكل هويته كصيغة فيلميةGenre مستقلة الذات؛ وهي الموسيقى والغناء والاستعراض. وفي مجال إخراج الأغاني قدم يوسف شاهين أيضا أسلوبا جديدا.
ضم فيلما «ودعت حبك» و«أنت حبيبي»، إحدى عشرة أغنية، توزعت بين قوالب عديدة من قوالب الغناء العربي، همت الطقطوقة: (يا مجربين الهوى، ميكونش ده اللي اسمه الهوى بصوت شادية، أحلف لك ما تصدقشي، مرة يهنيني)، الأغنية الشعبية :(وحداني ح أعيش، الفلاحة)، المونولوج: (مخاصمك يا قلبي، ودعت حبك)، النشيد القومي: (إحنا لها)، الدويتو: (زينة) ثم المحاورة الغنائية أو الديالوج: (يا سلام على حبي وحبك).
تحث إدارة بدرخان وبركات، كان تصوير الأغنية السينمائية في أفلام فريد الأطرش نمطيا، كان يقف أمام أوركسترا كبيرة في الأوبرا الملكية وفي غيرها وأمامه ميكروفون، يغني وهو يواجه الكاميرا الثابتة التي تلتقط حركاته وسكناته وإيماءاته، والتصرف الوحيد الذي كان يملكه المخرجان؛ هو توظيف مختلف تقنيات المونتاج لكسر رتابة الأغنية التي قد تمتد لعشر دقائق وهي مدة طويلة بمعايير السرد السينمائي؛ فكانا ينقلان الكاميرا صوب البطلة أوالجمهور لتسجيل تفاعلهما مع الأغنية. حين ولج شاهين في فيلم «ودعت حبك»، دخل في أول اصطدام مع فريد الأطرش. في البرنامج التسجيلي الذي أخرجته سيمون بيطون للقناة الخامسة للتلفزيون الفرنسي عن فريد الأطرش ضمن سلسلتها ” الأصوات الكبرى في الأغنية العربية”، يحكي يوسف شاهين أن فريد الأطرش لم يكن يعي كيف يمكن للأغنية أن تخضع للإخراج السينمائي.. فحين كان المخرج يصيح كل برهة ” ستوب ” لنقل الكاميرا أو أخد المشهد من زاوية أخرى، كان فريد يحتج عليه بأنه لا يُحِبُّ أن يقاطعه أحد حين يغني([10]).
يُرْدِف شاهين أنه كان يحفظ نص الأغنية عن ظهر قلب ليستوعبها جيدا بالشكل الذي يمكن أن تُوحي له بما يمكن فعله من جانب الاخراج، ولهذا الاشتغال تمكن المخرج أن يقدم الأغنية السينمائية في أفلام فريد الأطرش بشكل جديد.
في طقطوقة (أحلف لك ما تصدقشي) من فيلم «أنت حبيبي» مثلا، تجسيد حي لإخضاع الأغنية للإخراج السينمائي في سيناريو مكتوب خصيصا للأغنية، حيث نلمس التجديد في وضع الأغنية في سياق الأحداث في تشكيل بصري يختلف عما اعتاده الجمهور في أفلام بدرخان وبركات من وقوف البطل متخشبا على المسرح يواجه الكاميرا وحيدا أمامه ميكرفون وخلفه فرقة موسيقية وكورال في وضع ثابت، هنا حضرت الفرقة الموسيقية والكورال النسائي والبطل مع البطلة في وضع مناجاة واسترضاء، لكن شاهين وفق في دمج كل هذه العناصر في وضع متحرك مستعينا بمقدرته في نقل الكاميرا واستخدام المونتاج .
في طقطوقة (مرة يهيني) من فيلم «أنت حبيبي»، وفق شاهين مرة أخرى في كسر الأسلوب النمطي في إخراج أغاني فريد الأطرش في أفلام بدرخان وبركات، من خلال الحرية التي منحها للمغني والراقصة في التحرك على الركح والانتقال بين مختلف ديكوراته، ما سهل سلاسة تلقي الأغنية بحكم ابتعاد المخرج عن أسلوب الكاميرا الثابتة، وصهره الأغنية في سياق الأحداث، تماما كما فعل في الأغنية الشعبية (الفلاحة) من نفس الفيلم، ففي رحلة الأقصر، يجد فريد وسنيده في الفيلم زاهر(عبد المنعم إبراهيم) نفسيهما في إحدى عربات الدرجة الرابعة من قطار الصعيد، وفي ظل الزحام والليل لم يجد فريد بدا من أن يغني فيتحول جميع مسافري عربة الدرجة الرابعة إلى كورال، ما شكل وضعا للأغنية في سياق الحدث . لم يكن الأمر كذلك في جميع الأغاني؛ ففي نشيد (إحنا لها) من فيلم «ودعت حبك» لم يكن في السيناريو ما يدعو إلى اقحام نشيد ذي حمولة قومية عروبية في الفيلم، على أن ذلك لم يمنع شاهين من أن يقدم رؤيته لإخراج النشيد الحماسي متعدد المطربين، ففي هذا النشيد الذي شارك فيه مئات الجنود من القوات المسلحة المصرية، حاول شاهين أن يؤكد بصريا على البعد القومي العروبي من خلال الكيروغرافيا والحضور الملف لأعلام الدول العربية.
في مونولوج (مخصماك يا قلبي) من فيلم «ودعت حبك»، تستغل كاميرا يوسف شاهين اللوازم الموسيقية الرصينة في هذا اللحن الكلاسيكي الجميل، لتبرز في خلفيتها مناظر خلاّبة من طبيعة الفيوم، ودائما في نطاق الميزة التي حققها شاهين في أفلامه الأطرشية من وضع سيناريو خاص بكل أغنية، لقد أكد شاهين فهمه العميق للخصائص الموسيقية لقالب المونولوج، فصور شادية في وضع السباحة في البحر، وترك فريدا يتجول وحيدا على الشط في مناجاة وجدانية يشكو فيها لواعج نفسه، ولم تلتحق به إلا في ختام الأغنية ، فلم يشأ شاهين– كما يحدث في عموم الأفلام الغنائية – أن يصور البطلة متسمرة أو تتبع البطل وهي تتصنع التماهي مع كلمات الأغنية، وإنما جعلها جزءا من مشاهد الأغنية وهي الغائبة الحاضرة .
في طقطوقة (يا مجربين الهوى) من فيلم «ودعت حبك» بأداء المطربة شادية، لم يقطع شاهين مع أسلوبه في توظيف الأغنية في السياق الدرامي من خلال إخضاعها لإخراج خاص بحيث يصعب فصلها عن الأحداث خلافا للغالبية العظمى من أفلام الأطرش، حيث يمكن أن تُقصَّ الأغنية دون أن تؤثر على سياق القصة، ولأول وهلة تبدو كلمات الأغنية معبرة عن الموقف في الفيلم والذي هو الحب الذي بدأ يدب بين المريض ومسعفته ” اللى بيعشق ليه … يبان هواه في عينيه… يا مجربين الهوى “. صور شاهين هذه الطقطوقة في عنبر المرضى. ولأول مرة تُوَظّف تقنية موسيقية – سينمائية في أفلام فريد الأطرش، وهي: أسلوب الأكابيلا؛ وفيه يُستعاض بالتوزيع الموسيقي بأصوات الآلات الموسيقية يحاكيها الممثلون بأفواههم.
نأتي إلى مسك الختام (يا سلام على حبي وحبك) من فيلم «أنت حبيبي»؛ وهو عمل غنائي على قالب الديالوج Dialogue. كانت المحاورة الغنائية أوالديالوج بالتعبير التقني اللاتيني منذ أن ظهرت في مسرح سيد درويش مجرد تبادل لمقاطع غنائية بين مؤدٍ ومؤدية في شكل حوار غنائي. مع محمد كريم حاول الموسيقار محمد عبد الوهاب أن يُمَسْرِحَ المحاورة بإدراج تقنية الإلقاء المنغم Recitative؛ وهو الكلام العادي المنثور المجرد من الإيقاع والميلوديا، ويتذكر الهواة رسيتيتفه الشهير في حواريته (حكيم عيون) مع راقية إبراهيم من فيلم «رصاصة في القلب»: ” عشان تحرمي تاكلي كلاس وتذوبي قلوب الناس”. في ديالوج (يا سلام على حبي وحبك)، قدم شاهين معالجة سينمائية للحوارية في نطاق سيناريو مكتوب غُلِّف بالكوميديا في تعبير عن الموقف الذي هو اصطناع الحب بين الخطيبين أمام أسرتيهما، ووفق كعادته في أن يصيغ الحوارية بصريا في إخراج بديع للموقف الكوميدي. رغم عشرات الأعمال على هذا القالب، تظل (يا سلام على حبي وحبك) إحدى أشهر الحواريات في تاريخ الغناء العربي وأكثرها نجاحا وأحبها إلى جمهور الغناء؛ فقد تكاملت لها عوامل النجاح بدءا بكلمات الشاعر فتحي قوره السلسة، ولحن فريد الأطرش المبدع على مقام الراست الشرقي، دون إغفال حضور وخفة دم الرقيقة شادية، وكان الإخراج المتقن ليوسف شاهين بمثابة الكرزة على الكعكة.
- كاتب من المغرب
الهوامش
([1]) من الدراسات التي اهتمت بتوظيف الموسيقى والغناء في سينما يوسف شاهين :
رانيا يحيى: جماليات موسيقى أفلام يوسف شاهين، سلسلة آفاق السينما عدد: 77، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013.
Amal Guermazi : La musique dans le cinéma de Youssef Chahine : spécificités et fonctions, thèse de doctorat,Sorbonne, 2020.
([2]) من ذلك ما كتبه موقع gololy.com : يوسف شاهين يهاجم فريد الأطرش بسبب فيلم :
https://gololy.com/2014/09/23/146839/يوسف-شاهين -يهاجم -فري د-الأطرش- بسبب -فيلم.html
وأغلب ما ورد في هذا الموضوع من أباطيل تفنده الوثيقة المسموعة والمرئية بصوت شاهين المشار إلى مراجعها في الهامش (10) أسفله.
([3]) فيلم ” السفر الأخير” إنتاج أمريكي بريطاني 1949 ، من إخراج فانسانشيرمان ، قام بالدور الموازي لدور فريد الأطرش في فيلم “ودعت حبك ” الممثل ريتشارد تود، وقامت الممثلة باتريسيا نيل بالدور الموازي لدور شادية ، فيما قام الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان بالدور الموازي لدور أحمد رمزي في الفيلم المصري .
([4]) أخرج أحمد بدرخان لفريد الأطرش الأفلام التالية : ” انتصار الشباب” 1941، ” شهر العسل” 1945 ، ” مقدرش” 1946 ، ” أحبك انت “1948، ” أخر كذبة ” 1951 ، ” عايزة اتجوز” 1952 ، ” لحن حبي ” 1953 ، ” عهد الهوى ” 1955 ، ” إزاي أنساك ” 1956 .
([5]) أخرج هنري بركات لفريد الأطرش الأفلام التالية : ” حبيب العمر” 1947 ، ” عفريتة هانم” ، ” متقولش لحد” 1952 ، ” لحن الخلود” 1952 ، “رسالة غرام ” 1954 ، ” قصة حبي ” 1955 ، “ما ليش غيرك « 1958 ، ” شاطئ الحب” 1960، ” يوم بلا غد” 1962 ، ” الحب الكبير” 1968 ، نغم في حياتي ” 1974 .
([6]) يعتبر النقاد هنري بركات أبرز مخرجي السينما المصرية في جنس الفيلم الغنائي، بدليل أنه لما اختار النقاد أفضل 100 فيلم غنائي في تاريخ السينما المصرية في استفتاء تم على هامش الدورة 39 من مهرجان الإسكندرية لسينما البحر الأبيض المتوسط ، كان بركات أكثر المخرجين الذين دخلت أفلامهم القائمة بأحد عشر فيلما .
([7]) إبراهيم العريس : يوسف شاهين ، نظرة الطفل وقبضة المتمرد، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة، 2009 ، ص: 60 .
([8]) فيلم ” الزوجة الثامنة لذي اللحية الزرقاء” مأخوذ عن مسرحية بهذا الاسم للكاتب الفرنسي ريتشارد سفوار، وقدمت لأول مرة بمسرح لابوتنيير بباريس في 14 يناير 1921 ، المعالجة السينمائية كانت لارنستلوبيتش، وقد قام بالدور الموازي لفريد الأطرش في جزء من القصة كاري كوبر ، فيما قامت كلوديتكولبير بالدور الموازي لدور شادية في فيلم ” انت حبيبي” .
([9]) كتب السيناريو في فيلم ” ودعت حبك” السيد بدير، وكتب سيناريو ” انت حبيبي” الكاتب المسرحي أبو السعود الإبياري.
([10]) Simone Bitton : Farid El Atrache, Documentaire, série les grandes voix de la chanson arabe n° 3, 1991, 52 min