كوميديا ورعب وفلسفة في مهرجان لندن السينمائي

Print Friendly, PDF & Email

تزخر الدورة الـ 59 من مهرجان لندن السينمائي بالكثير من الأفلام المثيرة للفكر والخيال والجديرة بالتأمل، ما بين الكوميديا والرعب والمواضيع الحساسة الجريئة. وقد حرصت مديرة المهرجان كلير ستيوارت على تحقيق قدر كبير من التنوع في  اختياراتها، سواء في الثقافات المختلفة التي تنتمي إليها الأفلام والبلدان التي جاءت منها، أو في مراعاة التوازن بين الروائي والتسجيلي، الخيالي والفني التجريبي، والسياسي الذي يتناول قضايا حساسة مطروحة على ساحة الأحداث الجارية، أو أفلام الكوميديا والرومانسية والكلاسيكيات.

رجال ودجاج

من الدنمارك يعرض المهرجان فيلم “رجال ودجاج” Men and Chicken للمخرج أندرياس توماس جنسن، وهو فيلم خيالي يستند إلى رؤية فلسفية وأخلاقية تدور حول رفض فكرة النقاء العرقي وأن الإنسان يجب أن يكون سندا لأخيه الإنسان مهما كانت الاختلافات أو الخلافات، كما يعتبر الفيلم هجاء للنظام القمعي الذي يقهر الإنسان ويحوله إلى أداة جافة للتجارب، فنحن أولا أمام شقيقين هما جابرييل وإلياس، وهما مختلفان تماما في الملامح الخارجية، فيما عدا الأنف المشقوق الذي يجعل الوجه منفرا. يموت والدهما ويترك لهما شريط فيديو يشاهدانه فيجدان أن الأب المتوفي يعترف لهما بأنه ليس والدهما البيولوجي وأن أمهما ليست أمهما الحقيقية، بل هناك أب آخر يوناني، لفظهما بسبب اعتقاده بأنهما لا يصلحان. ومن هنا يبدأ بحثهما عن الأب الحقيقي فيذهبان الى جزيرة منعزلة، ويعثران على منزل الأب الذي يقع وسط مزرعة كبيرة، والمنزل الفسيح المتعدد الطوابق والممرات تمتليء ردهاته بالحيوانات والطيور، كما توجد حظيرة فيها ثور ضخم. والطيور، خاصة الدجاج، تنتشر في كل مكان في الداخل والخارج، ولكن الأهم أن هناك ثلاثة أشقاء يتميزون بالقبح الشديد والأنف المشقوقة أيضا، ودرجة عالية من العدوانية والعنف. وبعد مناوشات يكتشف الأخوان جابرييل والياس أن هؤلاء هم أشقاؤهم، وأن الأب الحقيقي كان يجري التجارب الطبية التي تعتمد على التلقيح الصناعي بين بويضات مختلطة بالسائل المنوي للحيونات، كما يقوم بتجارب شبيهة بالتعامل مع الخلايا الجذعية وأنه يحتفظ في القبو داخل أوان زجاجية ضخمة بجثتي الزوجتين اللتين تزوجهما واستخدمهما في تلك التجارب.

ويعرف الياس وجابرييل انهما ينتميان الى والدتين مختلفتين، ويكتشف الأشقاء أنهم جميعا من نسل مزدوج من الانسان والحيوانات والطيور وانهم اكتسبوا بعض طبائع الكائنات الأخرى، ولكن يتعين عليهم القبول بالواقع والتعامل مع بعضهم البعض وتعلم السلوك المتحضر الانساني. ويصر جابرييل على اقتحام الغرفة المغلقة في الطابق العلوي ليجد جثة الأب متعفنة بعد أن تركه الاشقاء الثلاثة على الفراش دون أن يدفنوه لأنهم لا يعرفون تقاليد الدفن، ثم يكتشف الجميع أنهم ينتمون الى فصائل مختلفة من الحيوانات التي امتزجت بخلايا انسانية، من بينها ذلك الثور الي شاهدناه من البداية ويطلقون عليه اسم “إسحق الثامن”.

في الفيلم الكثير من المشاهد الدموية العنيفة خاصة في النصف الأول منه، كما يمتليء بمشاهد مقززة، حيث يقوم الممثلون بحركات شبيهة بحركات الحيونات، كما يتبولون ويتبرزون كيفما اتفق، ويتبادلون الضرب والايذاء كلما اختلفوا في الرأي. والوحيد الذي يميل الى تحقيق التعاون والسلام ويقودهم نحو نوع من النظام والتخلص من الحيوانات الموجودة داخل المنزل هو جابرييل الذي جاء أصلا نتاجا لتوليفة خاصة مع بومة!

إنها كوميديا سوداء قاسية بطيئة الإيقاع، تكثر فيها المشاهد القاسية المنفرة، التي تعكس فلسفة المخرج ورؤيته للحياة والواقع. لكن الفيلم بلاشك عمل جدير بالمشاهدة والتأمل نظرا لطرافة الفكرة وبراعة مجموعة الممثلين وتصميم الديكور الداخلي وإدارة التصوير.

رعب سيكولوجي

من ألمانيا يأتي فيلم “معتلة” Homesick للمخرج جاكوب إيروا، وهو يذكرنا في نواح عديدة بفيلم “طفل روزماري” لرومان بولانسكي، ولكنه يركز أكثر على بطلته التي تنتقل مع زوجها الى شقة جديدة في عمارة سكنية فتلاحظ أن الجيران يتلصصون عليها، ثم يختفي قطها وتكتشف أنهم قتلوه ووضعوا جثته داخل الغسالة الكهربائية الموجودة أسفل العمارة التي يتشاركها السكان، ومع تصاعد هواجسها المرضية يزداد نفورها وعنفها وعدم قدرتهاعلى التكيف مع المحيط فتنتهي حياتها نهاية تراجيدية. ولكننا نكتشف في نهاية الفيلم أنها تعاني من الفوبيا والكوابيس والهواجس التي لا أساس لها في الواقع، وأن كل ما شاهدناه كان تداعيات من خيالها المريض!

هذا فيلم مثير يقع في المنطقة بين الدراما النفسية والرعب، مصنوع ببراعة ودقة ويتميز أيضا بالأداء التمثيلي الجيد من جانب بطلته الممثلة الألمانية إستر ماريا بيتش.

عفارم

ومن الأفلام الجديرة بالمشاهدة أيضا الفيلم الروماني “عفارم” Aferim) وهي كلمة تركية قديمة معناها “برافو” أي حسنا فعلت) للمخرج راضو جود، صاحب الفيلم الشهير “موت السيد لازاريسكو”، وهو ينتمي للموجة الجديدة في السينما الرومانية التي فرضت نفسها على خريطة السينما في العالم مع النجاح الكبير الذي حققه فيلم “4 أشهر و3 أسابيع ويومان” لمخرجه كريستيان مونغو (2007)، الذي حصل على “السعفة الذهبية” في مهرجان كان.

لكن على العكس من أفلام السينما الرومانية الجديدة التي تنتهج أسلوبا يعتمد على اللقطات والمشاهد الطويلة، وعلى الكاميرا الثابتة والميزانسين، والمزج بين التسجيلي والروائي، يعتمد فيلم “عفارم” على الحركة: حركة الكاميرا وحركة الأشخاص والأشياء داخل الصورة، كما يعتمد على البناء الكلاسيكي لفيلم الطريق، مع شكل خارجي يستوحي أجواء أفلام “الويسترن” الأمريكية.

تدور الأحداث في ثلاثينات القرن التاسع عشر في مقاطعة “والاشيا” بشمال رومانيا، وهي منطقة كانت في ذلك الوقت، نظريا، تابعة للإمبراطورية العثمانية، لكنها عمليا كانت خاضعة للنفوذ الروسي مع وجود نمساوي ملموس. والفيلم يمتلئ بالتالي، بالكثير من الشخصيات الثانوية التي تنتمي لكل هذه الفئات، إضافة بالطبع إلى الرومان، والغجر الذين هم في قلب موضوع الفيلم.

ومشكلة الغجر في رومانيا مشكلة قديمة، كانت دائما من المشاكل المسكوت عنها، أي تلك التي لا يسمح النظام السياسي -في كل العصور- بفتحها ومناقشتها بشجاعة والتوصل إلى حل لها.فالفيلم يصوّر كيف كان الغجر يخضعون للعبودية، ويعاملون معاملة الكائنات الأدنى بسبب لونهم الأسمر، وفي الفيلم يشير الجميع إليهم بكلمة “الغربان” بسبب لونهم، وكان يتم تسخيرهم في العمل الإجباري الشاق لدى ملاك الأراضي الإقطاعيين، سواء من الأتراك المسلمين أو الرومان الكاثوليك.

لقطة من الفيلم الألماني “معتلة” Homesick

بطل الفيلم ضابط شرطة يكلف من قبل أحد كبار ملاك الأراضي، بالبحث عن العبد الغجري الهارب من العمل في مزارعه والقبض عليه والعودة به حيا. ويقوم الضابط باصطحاب ابنه معه، يعيّنه مساعدا له، ويقوم بتدريبه على “تنفيذ القانون” كما يقول له، مقابل الحصول عند نهاية المهمة، على هبة مالية جيدة من الإقطاعي.

وأثناء الرحلة عبر الريف الروماني في تلك المقاطعة التي تمتلئ بالغابات، يلتقي الرجل وابنه، بالكثير من الشخصيات، من رومان وغجر، سادة وعبيد، فقراء وقساوسة وفلاحين.

الشرطي يهدّد كل من يقابلهم من الفلاحين بالويل والثبور إن لم يعترفوا بمكان “العبد” الغجري الهارب، إلى أن يلتقي بقس كاثوليكي هو الذي يرشده إلى مكان الغجري، مقابل الحصول على مكافأة مالية رصدها الشرطي لمن يدله على الهارب.

في أفلام الطريق يكون المقصود من طريقة البناء عادة استخدام “الرحلة- الطريق- المسار” في الكشف عن جوانب كثيرة تدعم الفكرة الرئيسية للفيلم، وتمدّها بالكثير من التفاصيل الفرعية التي تصبّ فيها بشكل أو بآخر، ولكن دون أن تغيب الفكرة الرئيسية عن الفيلم، وقد ينتج عن هذا التركيز الدرامي أحيانا بعض التشتت والخروج عن المسار، أي مسار الحكي، أو بعض الاستطرادات التي يجد صانع الفيلم نفسه واقعا في غرامها فيطيل فيها ويستطرد.

الفيلم يوجه إدانة قوية إلى طبقة رجال الدين الذين يتواطأون مع الإقطاعيين، ويجدون لهم تبريرا لما يمارسونه من استغلال واستعباد للآخرين، كما يعتبر إدانة قوية لنظام كامل (سياسي واقتصادي) يقوم على الطبقية: الإقطاع أو كبار ملاك الأراضي من طبقة النبلاء التي كانت التالية بعد الملوك والأمراء مباشرة، وطبقة العاملين في خدمة النبلاء مثل الضابط (البورجوازية الناشئة)، ثم طبقة العبيد أو الأقنان الذين تسند إليهم كل الأعمال الأساسية: الزراعة والحصاد ورعاية الحيوانات وغيرها.

النادي

ومن أهم ما تشهده الدورة الحالية من مهرجان لندن الفيلم الشيلي “النادي” The Club  للمخرج بابلو لارين الذي يشير -مجازا- إلى منزل تابع للكنيسة الكاثوليكية، يقع على شاطيء البحر في بلدة مجهولة في شيلي، يقيم فيه خمسة رجال وامرأة، سنعرف بعد قليل، إنهم قساوسة محكوم عليهم بالبقاء في هذا “المنفى”، ومحظور عليهم الاختلاط بأهل البلدة، وكأنه أقرب إلى السجن، حيث يلقون عقابا على ما اقترفته أيديهم في الماضي. أما المرأة فسوف نعرف أنها كانت في السابق راهبة، ثم أصبحت مسؤولة عن إدارة شؤون هذا المكان الغريب القاتم المظلم، أي أنها عمليا “السجانة” التي تحرس مجموعة القساوسة. وهؤلاء لدى كل منهم قصته الخاصة التي سنتعرف عليها تدريجيا مع تطوّر مسار الفيلم.

ومن البداية يكشف السيناريو العبقري عن مشكلة هؤلاء الرجال عندما يصل قس سادس يدعى الأب “لازكانو”، صامت، يقبل ما تمليه عليه الراهبة -السجانة، يعقب وصوله مباشرة وصول رجل ملتح، يقترب من المبنى من الخارج، ويظل يصيح موجها أبشع الاتهامات بالاعتداءات الجنسية إلى الأب لازكانو. وفي خضم غضبه وانفعاله، يكشف الرجل عما تعرض له في طفولته، من اعتداءات جنسية مباشرة بأشكالها المختلفة التي تصل -من خلال ما يقدمه من أوصاف وتفاصيل- إلى جوانب شائنة حقا.

وعلى الرغم من الغضب البادي على باقي القساوسة واستنكارهم لما فعله الأب لازكانو الذي يصفونه بالشاذ، والمنحرف، ويطالبونه بالرد على هذا الرجل الذي يصرخ في الخارج ويمكنهم رؤيته عبر نوافذ ذلك السجن، إلا أننا سنعرف أيضا فيما بعد، أنهم جميعا موجودون في هذا المكان تحديدا بسبب اتهامات وجهت إليهم بالاعتداءات الجنسية على الأطفال داخل الكنيسة.

كثير من الأسئلة يطرحها الفيلم في سياق موضوعه الجريء، تنعكس في الحيرة على وجه القس المحقق القادم من الخارج بغرض إنهاء وجود هذا المكان وإغلاقه ونقل المقيمين فيه بعيدا، وهو ما يلقى مقاومة ضارية من جانب الراهبة مونيكا التي تهدد بتفجير فضيحة علنية في الاعلام. ويرحل القس في النهاية دون أن يصل إلى قرار نهائي، بشأن هذا المكان الذي يرمز على نحو ما، إلى كل مؤسسات القمع والسرية والعلاقات الغامضة، والأسرار التي تدفن مع الرجال في مقابرهم.

Visited 33 times, 1 visit(s) today