“كلاب ضالة”.. حيث لا بداية ولا نهاية
“كلاب ضالة” Stray Dogs (2013) فيلم حقّقه المخرج التايواني تساي مينغ ليانغ، بعد غياب دام أربع سنوات في مجال الفيلم السردي الطويل. وهو مصوّر بكاميرا فيديو ديجيتال.
وقد صرّح تساي، أثناء عرض الفيلم في مهرجان فينيسيا (حيث أثار الكثير من الجدل بين النقاد والجمهور، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى)، أنه سيكون آخر فيلم له يُعرض في صالات سينمائية، وأنه سيكتفي بعرض أفلامه اللاحقة في المتاحف الفنية وصالات الجاليري. بالتالي هو لم يعتزل النشاط السينمائي، كما اعتقد البعض، بل استمر في تحقيق الأفلام القصيرة والوثائقية، والمشاريع الفنية الأخرى.
تقول الناقدة يفيت بيرو (أكتوبر 2014): “قد يشعر المرء أن هذا الفيلم (الكلاب الضالة) ضرب من الخلاصة لما كان مدعاة للإعجاب والتقدير في كل أفلام تساي مينغ ليانغ.. في الأسلوب والرؤية، في اللقطات الطويلة المتواصلة على نحو مفرط وجريء، في الصمت المديد، في السرد غير المترابط، والجمال الفائق”.
في ما يتعلق بعنوان الفيلم، يقول الناقد بليك وليامز: “العنوان يحمل تماثلاً جلياً مع المجاز الرئيسي الذي نجده في نص الصيني تاو تي شينغ الفلسفي، من القرن السادس، والذي يشبّه علاقة الإنسان بالسماوات، بتلك العلاقة بين كلب من قش straw وخالقه. الأشكال المصنوعة من القش، على هيئة كلاب، مصممة للمشاركة في فعالية طقسية حسب التقليد الصيني القديم. هي تكون موضع تبجيل فائق حتى تنتهي المراسيم أو الطقوس، عندئذ تتعرّض للنبذ والإهمال والنسيان، من غير أن تحرز لا الحب ولا الكراهية. السماء والأرض، عديمتا الرحمة، تتعاملان مع المخلوقات مثل كلاب من قش. الكلاب التي من قش والكلاب الضالة هي بالتالي متماثلة جداً، عاطفياً: هي سلع يسهل التخلص منها، تافهة، جديرة بالشفقة، ولا قيمة لها”.
فيلم “كلاب ضالة” لا يعتمد على سرد خطي، أو بناء تقليدي، أو حبكة واضحة. في الواقع، إذا كانت الحبكة، في إحدى توصيفاتها، تعني التقدّم أو الارتقاء في ما يتعلق بالشخصيات، فإن الفيلم لا يحوي على حبكة. وبشأن البناء، هو مفكك ومتشظي. يقول تساي: “بناء الفيلم بأكمله لا بداية له ولا نهاية”.
الفيلم، بالذات في نصفه الأول، عبارة عن أجزاء مستقلة، منفصلة عن بعضها، حيث نرى: امرأة تمشّط شعرها وعلى السرير طفلان (ولد وبنت) نائمان. الطفلان يلعبان في الغابة. رجل في قارب يجذف مبتعداً عن المستنقع. رجلان (أحدهما الأب) يروّجان لإعلان دعائي في الشارع. الأب مع الطفلين على الشاطئ. الطفل الجائع يراقب شخصاً يتناول طعامه في مطعم رخيص. الطفلان في سوبرماركت حيث تعمل أمهما.
الأحداث تدور في شوارع العاصمة تايبيه ومجمعاتها التجارية ومساكنها الشاغرة، المهجورة، وغابتها. عبر هذا نتابع صراع عائلة صغيرة، مكوّنة من أم وأب وطفلين، من أجل البقاء في عالم غير مبال. عائلة تعيش على هامش الحياة، بلا مسكن خاص وآمن، ولا طعام منتظم، حيث يتعيّن عليها أن تنام في أي مكان مهجور، وأن تبحث عن ما يسد رمقها بكل وسيلة، وأن تغتسل وتستحم في الحمّامات العامة. إنها عائلة تعيش الاغتراب في أسوأ حالاته. والفيلم يعرض مظاهر الفقر والضياع واليأس والقسوة، بلا وعظ ولا خطابة ولا إفراط درامي أو ميلودرامي.
يقول تساي مينغ ليانغ: “بدأت في مراقبة الأفراد المشردين، الذين لا مسكن ولا مأوى لهم، لعشر سنوات. كنت أتساءل عن أسلوب حياتهم، كيف هي حياتهم، أين يعيشون، كيف يتصرفون؟
أحب أن أحقّق أفلاماُ عن الأفراد الهامشيين، ذلك لأنهم جزء من حياتي، وجزء مما أكونه”.
الأب (لي كانغ شينغ) يضطر إلى العمل كلوحة إعلانات “بشرية”، حيث يقف ساعات في أحد الشوارع الرئيسية، أو عند نقاط تقاطع في طرق مزدحمة، تحت أمطار تهطل بغزارة وفي ظروف مناخية سيئة، حاملاً لوحة إعلانية تروّج (كمفارقة مريرة وموجعة) لشركة عقارية، في حين أنه لا يستطيع أن يجد مأوى ثابتاً وآمناً ومريحاً لعائلته. أحياناً نراه واقفاً في جمود لساعات طويلة، وأحياناً نراه يردّد دامع العينين أغنية شعبية.
الصغيران يقضيان وحدهما أغلب أوقاتهما بلا مرافق، أو يتسكعان في المجمعات التجارية، أو يسيران تحت وابل من المطر وفي طقس عاصف، أو يستكشفان وحدهما منطقة ريفية، وأحياناً يرافقان أمهما عندما تذهب إلى العمل.
الجدير بالذكر أن تساي استعان بثلاث ممثلات، مفضّلات لديه، لتأدية دور الأم مبرّراً ذلك بأنه كان يرغب في العمل مع الممثلات الثلاث بعد أن ألمّ به مرض خشى على إثره من عدم تمكّنه العمل معهن في مشاريع أخرى، إذ قد يؤدي هذا المرض إلى افتقاره الشغف بالعمل السينمائي واعتزاله، رغم أن هذا الاختيار يساهم في تعقيد الأمور بالنسبة للمتفرج الذي يجد نفسه في حيرة إزاء وجود ثلاث نساء يتعاملن بلطف شديد مع الطفلين ويقدّمن العناية والاهتمام لهما.. واحدة نراها في بداية الفيلم، والثانية في السوبرماركت، والثالثة في نهاية الفيلم.
الطفلان يحاولان التكيّف مع الظروف المتقلّبة، غير المستقرّة. ومع مجتمع لا يكترث بهما. ومع حياة يومية بائسة لا بهجة فيها. ومع أب يقسو عليهما أحياناً. لكن المحن لا تستطيع أن تسلب براءتهما.
أما الأب، المدمن على الكحول، فإن محنته ليست اجتماعية واقتصادية فحسب، بل أيضاً نفسية وعاطفية. هو لا يعبّر عن نفسه، لا رغبة لديه في أي شيء، لا طموح، ولا أمل. وهو ينزلق أكثر فأكثر نحو الكآبة والقنوط.. ويتجلى شعوره باليأس والإحباط والعجز والغضب في المشهد (الذي يستغرق عشر دقائق متواصلة بلا قطع) والذي يقوم فيه بملاطفة دمية طفليه المصنوعة من الكرُنب كتعويض عن غياب الأم. من الملاطفة والقُبل ينتقل إلى محاولة خنق الدمية ثم التهامها وهو ينشج، بعد ذلك ينخرط في البكاء والعويل. عن هذا المشهد يتحدث الممثل لي كانغ شينغ، فيقول: “السيناريو ينص على أن الأب يأكل الكرنب.. هذا كل ما في الأمر. وأنا لم أعرف كيف أؤدي المشهد. كنت أتساءل كيف يتعيّن عليّ أن ألتهم الكرنب (في الأخير التهمته نيئاً) وما إذا كان من المفترض أن يمثّل الكرنب حياتي”.
الفيلم يدعونا إلى غمر أنفسنا في فعل الرصد الدقيق للشخصيات، والأمكنة، واللحظات المعاشة على هوامش الحياة من تناول للطعام ونوم وتدخين وما شابه من أفعال يومية. كما أن الفيلم يتجلى كسلسلة من الصور أو المشاهد: البحث عن الرزق، عن القوت. تسلّق الأشجار للنوم. استخدام الحمامات العامة للاستحمام والاغتسال. النوم في أماكن مخيفة، عارية من الأثاث.
الفقر هنا مصوّر بوصفه قوة عازلة. الأب يدرك أنه غير قادر على إسعاد عائلته، وغير مؤهل للمحافظة على وحدة العائلة ومتانتها واستقرارها. والعائلة تعيش حياتها من دون حساب أو تخطيط للغد.
لكن في الفيلم أيضاً نجد لقطات غريبة تتعارض مع حالة أفراد العائلة. مثلاً نرى الطفلين يحلان واجباتهما المدرسية في غرفة نظيفة ومريحة، أو يستحمان في الحوض، أو يتواجدان في مطبخ صغير.. هل هي صور نابعة من المخيلة أو من الذاكرة، أم أنها مجرّد أحلام؟ الفيلم لا يوضّح بل يدعنا نخمّن ونؤول.
كذلك العلاقات بين أفراد العائلة، والمشاهد التي تضم هؤلاء الأفراد، لا تبدو واضحة أو طبيعية أو يمكن إدراكها وفهمها بسهولة. إنهم يلتقون ويتفرقون أو يتباعدون ثم يلتقون من جديد، على نحو غامض ومن دون مبرّر أو تفسير أو توضيح. هل هذا يحدث في الزمن الحاضر أم أنه فلاش باك؟ كيف يمكن تفسير الانتقال المفاجئ، المتضارب، بلا أي إشعار سردي، بين الأب المنفصل عن طفليه، إلى الأب المتّحد مع طفليه؟
ومما يساهم في تعقيد الأوضاع وتعميق الغموض وإرباك أي محاولة لتجسير الانقطاعات في التسلسل، ولخلق تواصلية عملية، ما أشرنا إليه من إسناد دور الأم، أو الأم البديلة، أو المرأة التي تعتني بالطفلين، إلى ثلاث ممثلات. الفيلم يوحي بأن النسوة يمثّلن مظاهر أو أوجه لامرأة واحدة، وفي الوقت ذاته، يوحي بأنهن ثلاث نسوة مختلفات. أياً كان الأمر، فلا شك أن مثل هذا الالتباس المتعمّد يُفقد المتفرج حس الطمأنينة والثقة التي يشعرها المتفرج عادةً إزاء الأفلام التقليدية السائدة، فيجد نفسه مرغماً على الاعتماد على وسائله الخاصة في فهم الأشياء، وفي محاولة بناء جسوره السردية الخاصة لوصل ما يتقطع بين اللقطات والمشاهد.
يقول تساي مينغ ليانغ: “في العالم الذي خلقته، كل شيء ينجم عن فهم الأشياء فيما الزمن يمر. يتعيّن عليّ أن أدع الأشياء تستريح وتكون قابلة للتأمل والاستيعاب. أشعر بالارتباك والحيرة حين أجد نفسي في مواجهة الحياة العصرية السريعة المفروضة علينا. أشعر بأن البطء، أن تكون بطيئاً، هو تقنية يستخدمها المرء ليجد طريقه في خضم الفوضى والتشوّش”.
المشهد الختامي، الجميل والمذهل والمؤثر، مصوّر في لقطتين طويلتين تستغرقان معاً 20 دقيقة متواصلة، ويخلو من الحوار. إننا نرى الأب والأم يتوجهان ليلاً نحو مبنى مهجور ومتداعٍ. هي تُطعم عدداً من الكلاب الضالة. يدخلان المبنى. داخل ما يشبه القاعة، يتوقفان ناظرين إلى جهة ما. باستثناء حركة الكاميرا، في بداية المشهد، تظل اللقطة ثابتة، متيحة لنا التركيز على الاثنين وهما يراقبان. المرأة تحدّق أمامها مباشرةً، لفترة طويلة، بينما هي واقفة بلا حراك، وبوجه خال من التعبير. بعد وقت، نرى الدمع يسيل على خدها. لقد كانت تحدّق في جدارية مرسومة بالفحم لمنظر طبيعي ساحلي، يحتوي على: حافة بحر، شاطئ صخري، طريق الغابة، جبال، والسماء.
الرجل لا يبدو عليه الاكتراث، إنه يحتسي الكحول، ويحاول أن يلفت انتباهها إليه. لكنها لا تعبأ به. المرأة تغادر، ويبقى الرجل وحده، ليحدّق بدوره، متأملاً الجدارية التي حرّكت مشاعرهما وجعلتهما يذرفان الدمع. الحركة هنا محدودة جداً، ولا نجد فوارق صارخة في التعبير. هذه اللقطة الطويلة، المتواصلة، الساكنة والصامتة، التي تستغرق 14 دقيقة، من كاميرا ثابتة، تكثّف الطاقة الشعرية، وتوسّع مدى الفيلم، على نحو لانهائي، إلى ما وراء ما هو ممَثّل على الشاشة.
الجدارية عثر عليها تساي مينغ ليانغ أثناء بحثه عن مواقع لفيلمه. وقد صرّح تساي بأنه اكتشف أن هذه الجدارية واحدة من عدة جداريات رسمها الفنان كاو جون هون، الذي كان يرسم بالفحم، مستخدماً – ككانفاس – جدران المباني المهجورة والمتداعية.
ويبدو أن الجدارية تثير لدى الناظر شعوراً بالرهبة، بالحنين، بالحزن، مولدّة ضرباً من أحلام اليقظة. يقول الناقد نايجل أندروز: ” اللوحة تصبح نوعاً من المفارقة للفيلم: جنة أرضية محفوظة في موقع مديني”.
لقد أراد تساي أن يتحرّى الحاجات الإنسانية الأساسية في جوهرها الأكثر تجرّداً. شخصيات تساي تحاول إشباع الحاجات والرغبات البيولوجية الأساسية والبسيطة، كما تتوق دائماً إلى الأشياء التي توجد وراء نطاق سيطرتهم الجسمانية والاقتصادية.
يقول تساي مينغ ليانغ: “هذا ليس فيلماً عن الأمل أو اليأس. إنه عن رجل يقرّ بعجزه، ويدع نفسه تنهار تماماً”.
تقنياً، كل لقطة تبدو مركّبة على نحو تام، ولا يوجد رابط سببي بين اللقطة واللقطة التي تليها، فكل لقطة مصمّمة كضرب من الوحدة البنائية التي تمثّل فعلاً معيّناً تقوم به الشخصية. حتى ترتيب المشاهد يبدو إلى حد ما غير متصل أو غير واضح. بعض اللقطات هي واقعية تماماً، وبعضها تبدو مؤسلبة، كأنها نتاج حلم.
الخط المكاني والزمني، الذي تعتمد عليه السينما السردية، غالباً ما يتعرّض هنا للمقاطعة من قِبل الانتقالات الحادة إلى أحداث وأمكنة جديدة، تبدو غير متصلة تماماً بتلك التي سبقتها. كمثال، نرى الأب، بينما المطر يهطل، يحاول أخذ الطفلين في قارب، لكن المرأة تظهر فجأة لتمنعه وتأخذهما بعيداً. في اللقطة التالية مباشرة، نرى الطفلين مع الأب، ثم نلحظ ظهور المرأة (الثالثة) قرب المبنى المتهدم والمهجور. هذا الانتقال المفاجئ من لقطة إلى أخرى تليها، والتغيّر الزمني والمكاني، يحدث دونما تفسير أو تبرير.
زوايا وأوضاع الكاميرا غالباً ما تكون غير تقليدية، غير مألوفة، وتقطع الصلة بالواقعية الصارمة. وكما في أفلامه السابقة، يوظّف تساي اللقطات الطويلة المتواصلة، والكاميرا الساكنة المحايدة، ويتجاهل المونتاج المترابط والمتصل من غير انقطاع، فأغلب مشاهده عبارة عن لقطات منفردة، مستقلة، وليس ثمة علاقة كرونولوجية (حسب التسلسل الزمني) أو رابط سببي بينها.
تقول الناقدة يفيت بيرو: “الكاميرا لا يبدو عليها أنها تسجّل بقدر ما تحدّق، تنعم النظر، إلى مشاهد تُظهر الانحطاط والانحلال الاجتماعي، ومعاناة العمال في صمت، كما لو أنها – الكاميرا – تطلب من المتفرج، أو أي شخص آخر، أن يفعل شيئاً ما”.
الفيلم الذي تبلغ مدّة عرضه 136 دقيقة، يتألف من 73 لقطة تقريباً، تتراوح في الحجم والمدّة. الكاميرا تظل مركّزة بؤرتها، لدقائق طويلة ومتواصلة، على أجساد ساكنة ووجوه جامدة وأفعال يومية. وهي تحثّنا على مراقبة كل ذلك، عن كثب، وبدقة.
باستخدامه للكاميرا الرقمية (الديجيتال) فإن تساي يستثمر إمكانياتها وطاقاتها التقنية في تمديد أمد اللقطة بحيث تتجاوز الدقائق العشر التي تفرضها بكَرَة شريط الفيلم العادي. كما يستغل إمكانيات هذه الكاميرا في خلق صور جميلة ورائعة، ونتائج سمعية ممتازة.
الحوارات قليلة جداً. كلمات قليلة يتم تبادلها بين الشخصيات طوال الفيلم. وأنت كمتفرج تشعر بأنها غير ضرورية. الصور ذاتها، ووجوه الممثلين وإيماءاتهم، تعبّر بفصاحة عن واقع الشخصيات ومحنها وهمومها.
“كلاب ضالة” تحفة فنية. عمل في منتهى القوة والشاعرية، ومحرّك للمشاعر بعمق.
**********
في ما يلي، ترجمة لأحاديث تساي مينغ ليانغ حول فيلمه “كلاب ضالة”:
* قبل عشر سنوات، كنت أقود سيارتي في شوارع تايبيه، ورأيت قرب الإشارة الحمراء رجلاً يحمل لوحة اعلانات. كان يقف ساكناً، بلا حراك، ولا يبدو أن أحداً يلحظه. كانوا يعبرون في محاذاته من دون أن يلتفت إليه أحد. كما لو أن وقته بلا قيمة على الإطلاق. وكنت أتساءل: “إلى متى سيظل باقياً هناك؟ منذ متى كان واقفاً في ذلك المكان؟ أين يقضي حاجته؟ ماذا لو مرّ أمامه صديق أو أحد أفراد عائلته؟ هل سيشعر بالخجل؟” لقد شعرت بتعاطف عميق معه. بعد فترة قصيرة، أضحت هذه الطريقة في الاعلان شائعة جداً في تايبيه، وصار منظر رجال الإعلانات مألوفاً في الشوارع، وجزءاً من المنظر الطبيعي في تايبيه.
* التطور السريع للمدن الآسيوية يجعلني أشعر بالقلق والشك. المباني والطرقات والأنفاق يعاد إصلاحها وتجديدها باستمرار، أو يتم هدمها واعادة بنائها، أو ببساطة تصبح مهجورة. إنه كما لو عشنا في موقع بناء ضخم أو في مبنى متهدّم. لكن الحقيقة أن ثمة ضرباً من الجمال المسالم والآمن في ذلك الخراب، مثل الذي نجده في الموت. بالنسبة لي، تلك الأماكن هي شخصيات بحكم حقها الشخصي. لقد عثرت عليها واستمعت إلى قصصها. القاطنون فيها يصبحون أشبه بأشباح، أرواح تهيم في عبثية العالم. إنهم يذكّرونني بالثمن القاسي والعبثي الذي يتعين علينا دفعه لقاء ذلك التطور.
* فيلم “كلاب ضالة” يتحدث عن مجتمعنا. أينما ننظر، نجد البطالة تتزايد في نسبة دراماتيكية. وعدد المشردين الذين لا مأوى لهم في ارتفاع. الحياة تزداد صعوبة وعسراً بالنسبة للكثيرين. وتلك الصعوبات هي التي كنت أرغب في سبرها وتحرّيها. العالم الحديث يركّز بؤرته على النجاح التجاري. كل بلاد، كل مدينة، تنشد النمو الاقتصادي. لكن هل نجاح عدد قليل من الناس يجعل العالم مكاناً أفضل؟ لدينا مبان عالية، والمزيد من وسائل الترف في كل مكان، لكن أغلب الناس يعيشون حياة بائسة، مهجورين ومنسيين من قِبل العالم. شخصياً، لست مخرجاً اجتماعي النزعة. لا أحاول أن أحلّل الآليات الاقتصادية والاجتماعية. غير أني أميل إلى تحقيق أفلام عن أفراد هامشيين لأنهم جزء من حياتي، وجزء مما أكونه. أنا، كصانع فيلم، أعيش في الهوامش.
* الاعلان البشري صار منظراً مألوفاً واعتيادياً في كل مكان. هم أشبه بأعمدة الكهرباء، بالأشجار، بالجدران على جانب الشارع. لا أحد يلاحظ حضورهم. وهم لا يلاحظون بعضهم بعضاً. إننا نعيش في مرحلة انعدام الحضور.
في الواقع، ليس هناك حضور “حقيقي” في سينما اليوم أيضاً. الأفلام يتم إنتاجها، استهلاكها، إعادة إنتاجها، ثم تختفي.
* مع مرور الوقت، صرت ضجراً، على نحو متزايد، من مفاهيم مثل السرد أو القصة. أنا لا أعبأ برواية القصص. في “كلاب ضالة” خلقت السيناريو من خلال التصوير، وقد تخليت عن الحبكة. ليس ثمة أي رابط بين المشهد والمشهد الذي يليه، وهذا يُحدث انقطاعاً في الزمن. أساساً ليس للفيلم بداية أو نهاية. كل مشهد هو حدث في زمن حقيقي، وهو يأسر دفقاً مختلفاً من الضوء والظلال والأصوات المتغيّرة. أحب ذلك. بأفلامي حاولت أن أعيد ابتكار لغة السينما، وإعادة اكتشاف الأشياء التي كانت منسية، بحيث يمكن للجمهور تركيب أو اختراع ما هو مفقود باستخدام مخيلتهم الخاصة.
* عادةً يعمل المخرجون وهم يواجهون الكثير من القيود مثل: مدّة العرض، لوحة رسم القصة، الحبكة.. إلخ. أنا لا أخضع نفسي لمثل هذه القيود. بالطبع، نتيجة ذلك أواجه نوعاً مختلفاً من التحدي. العملية التي أحتاجها من أجل الوصول إلى النتيجة تبدو أحياناً بلا غاية.. على سبيل المثال، مشهد وقوف رجل وامرأة متجاورين لفترة طويلة من الزمن. في موضع ما، يبدو لي هذا المشهد فارغاً. لكن هل ينبغي أن أقبل هذا الفراغ؟ برغم كل شيء، الفراغ جزء من الحياة. هذه هي الأسئلة التي يتعيّن عليّ أن أفكر فيها قبل أن أتّخذ قراراً. لذلك أسمح بأن يتخلل الغموض في عملي من حين إلى آخر. في الواقع أنا أميل إلى هذه الخاصية الغامضة.
* الجمهور يستجيب إلى فيلم كهذا على نحو مختلف عن الطريقة التي يشاهد بها الدراما التقليدية، حيث يعرف متى يضحك أو متى يبكي. هنا، كل متفرج سيكون له رد فعله الخاص. وبالنسبة لي، ذلك هو برهان على العمل الخلاق الحقيقي.
* عندما قررت جعل البيت الموقع الرئيس، برزت المشاكل للعيان. أي نوع من الأثاث ينبغي أن نستخدمه في هذا الموقع؟ لهذا السبب يبدو الفيلم وكأنه فيلم عن الأشباح. لا شيء يبدو واقعياً. بل يبدو أشبه بصور من الذاكرة. لكن ذاكرة من؟ الشخصيات، أم ذاكرة البيت؟
* في “كلاب ضالة” كنت محظوظاً جداً في عثوري مصادفةً على الجدارية التي رسمها جون هون كاو. هي لم تكن ضمن مخططي الأصلي. ليس قبل رؤيتها أثناء بحثنا عن المواقع. وعندما وجدناها، قررنا توظيفها. في الواقع، حاولت أن احتفظ بكل ما كان متروكاً هناك، كل ما يتصل بذلك المكان، حتى الأشياء المبعثرة بغير نظام، لا شيء تم نقله من المكان. أردنا أن يبقى كل شيء على حاله. عندما انتهينا من تصوير المشهد، تركنا كل شيء كما كان. في ما بعد، تم هدم المبنى. غير أننا استطعنا أن نحافظ على جدارية كاو في فيلمي.
* هدفي كصانع أفلام ليس تحقيق دراما، بل خلق صور. لذا فإن المشهد الجميل ذو أهمية قصوى بالنسبة لي. عندما يحدث هذا، سيكونون قادرين على التعبير عن أي شيء يمكن التعبير عنه.
* كنت أبتغي من كل لقطة أن تكون مثل لوحة تشكيلية، وكان الضوء بمثابة الصبغ، المادة الملونة.
* بفضل الديجيتال، المجال المتاح لك لتعديل إضاءتك هو أوسع مما يتاح لك مع كاميرا 35 ملي. في “كلاب ضالة” كرّست عناية فائقة لكل تفصيلة تتعلق بالإضاءة. أظن أن كل أعمالي الأخيرة هي تقديم للصور على الشاشة. هو أشبه بالرسم، بالطريقة التي بها يرسم الفنان لوحته بالألوان. طوال سيْر تحقيق الفيلم، أدركت شيئاً فشيئاً أنني أرسم بالضوء. تحقيق الأفلام هو أشبه بالرسم.
* “كلاب ضالة” فيلم تجريدي ومتشظي أكثر. وهو بلا حبكة. يمكن أن يكون حلماً. بل يمكن أن يكون ذاكرة. ربما ليس ذاكرة شخص. ربما ذاكرة مكان. ذكرى عائلة عاشت في هذا المكان.
المصادر:
– حوار أجراه هوْوِي يِن شين، ونُشر في مجلة Film Comment، 6 أبريل 2015]
– حوار أجراه ناندو سالفا.
– حوار أجراه نيك بنكرتون، ونشر في Reverse Shot، 17 أبريل 2015.
– حوار أجراه شو نينغ سو، ونشر في مجلة The Film Stage، 21 سبتمبر 2015.