“كارمن” ترقص مع من تريد
فيلم “كارمن” (1983) لـكارلوس ساورا، عالمٌ ساحرٌ تتسارع فيه ضربات القلب مع ضربات الأقدام في رقصات الفلامنغو الآسرة طوال الفيلم، إذ يأخذنا المخرج ساورا في رحلة إلى عمق جمال الهويّة الإسبانيّة الطاغية بموسيقاها ورقصاتها، إلى درجةٍ نصبح فيها كمشاهِدين شركاءَ في لعبةٍ داخل لعبةٍ أخرى، برعَ في حبكهما ومزجهما مع بعضهما البعض.
تتلخّص حكاية اللعبة الأولى في قيام “أنطونيو” المخرج والكريوغراف بالبحث عن راقصةٍ “تتمتّع بنظرة غجرية، ذات طابع ذئبيّ، وشعر أسود لامع”، لتؤدي دور البطلة في عرضه الراقص المقبل، فيتفحّص أداء راقصات فرقته بتمعّن، دون أن يقع اختياره على أية واحدة منهنّ في النهاية، ليعود إلى صديقه الموسيقيّ طالباً مساعدته في البحث عن كارمن: بطلة العرض المرتقب.
وهكذا يبدأ رحلة البحث هذه في مدارس الرقص في شتى أرجاء إسبانيا حتى يجدها أخيراً، ويقع في غرامها منذ الوهلة الأولى، لم تعجبه راقصات الفرقة رغم أنهن محترفات، إنه لا يبحث عن راقصة بقدر ما يبحث عن قصة عشق جامحة توازي قصة عرضه المسرحيّ تمرداً، قصة لا تنفصل فيها ذاته ومشاعره عن ذات ومشاعر “خوسيه” الضابط العاشق.
لندخل معه تدريجياً إلى عوالم اللعبة الثانية، حيث البروفات على العرض الذي يلعب فيه مع كارمن دور خوسيه الضابط العاشق الذي يسمح بفرارها من السجن بعد ارتكابها جريمة قتل بحقّ إحدى زميلاتها في مصنع التبغ، إثر عراك نشب بينهما، فهي – أي كارمن – ذات طبعٍ حادٍ، ولا تسمح لأحد بالتعدي على سلطتها في المصنع.
لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ مصدر حكاية العرض المسرحيّ داخل الفيلم هو قصة “كارمن” للكاتب الفرنسي ميرميه والتي تم إخراجها أيضاً كأوبرا كارمن الشهيرة لبيزيه.
ما يميّز ويغني الفيلم هو التمازج والتشابك في أحداث وشخصيات كل من الحكايتين، أي حكاية الكريوغراف أنطونيو مع كارمن/ الراقصة، وحكاية بطل العرض المسرحي خوسيه مع بطلته كارمن/ عاملة المصنع، فتكمل إحداهما الأخرى وتؤثر وتتأثر بها، فنتتبع بعض أحداث الحكاية الأولى وتطوراتها خلال سير الحكاية الثانية وبالعكس، إذ يمكن فهم سيرورة العلاقة بين أنطونيو وكارمن/ الراقصة بالتزامن والتداخل مع العلاقة بين خوسيه وكارمن/ عاملة المصنع في بروفات العرض المسرحي.
إنّ ما يغذّي لذّة متابعة الفيلم هو صعوبة تتبّع مسارَي الحكايتين، ومحاولتنا فصلهما عبثاً، وما يثير هذه اللذة أكثر هو تماهي أنطونيو المخرج مع دور “خوسيه” في العرض المسرحي إلى أقصى حدود التماهي، لدرجة لا نستطيع فيها أحياناً أن نميز بين أحداث اللعبتين أثناء البروفات على العرض، ففي المشهد الأخير الذي تنادي فيه كارمن/ عاملة المصنع عشيقها خوسيه باسم أنطونيو تقول له: “لم أعد أحبك يا أنطونيو”، فرغم كونه مخرج العرض، لا يقوم بتصحيح جملتها لتكون “لم أعد أحبك يا خوسيه”، إذ يشعر في هذه اللحظة أن سهامها النارية قد نفذت إلى قلبه، وأنها تقصده هو بذاته (أنطونيو)، فيُقدم على قتلها بطريقة مسرحية تأسر الألباب لبراعتها وإتقان تمثيلها لوجهَيّ العاشقَين الولهانيَن بحبّ كارمن.
وما من شك أنّ إعطاء ساورا اسم (كارمن) لبطلته في الفيلم، كما هو اسمها في قصة ميرميه، هو ما ولّد شرارة الالتباس الممتع في الحكايتين.
تلعب الموسيقى دوراً بارزا ومهماً في السرد كأهمية الأقوال والأفعال نفسها، إذ تترافق مع الأغاني والرقصات الخلابة والإيقاع الذي يرسمونه بضربات أقدامهم طوال فترة التدريب على العرض، لتبدو وكأنها ناطقة تروي ما يجري أمامنا بأدق التفاصيل وأعذبها.
ترقص كارمن/ عاملة المصنع مع زميلتها لتقتلها في نهاية الأمر، ومن ثم ترقص مع خوسيه فيهيم في عشقها ويساعدها على الهروب، وأخيراً ترقص مع أنطونيو/ خوسيه ليقتلاها غيرة وولعاً.
هذا الخليط المتجانس بين اللعبتين من جهة، وبين الموسيقى المقتبسة من أوبرا بيزيه مع الموسيقا الغجرية من جهة أخرى، يضع المشاهد في أعماق روح الحكاية، كتناوب بين اللعب والجد في هذا الإبداع الذي صمّمه ساورا الشهير بلقب حامي جماليات الموروث الإسباني.
ومما هو جدير بالذكر أن فيلم “كارمن” لكارلوس ساورا، قد حاز على تسع جوائز عالمية منها (الجائزة الكبرى التقنية وجائزة أفضل مساهمة فنية للمخرج بمهرجان كان، وجائزة الفيلم الشعبي بمهرجان مونتريال 1983، وجائزة بافتا لأفضل فيلم بلغة أجنبية 1985)، وترشح لثمانية أخرى منها (السعفة الذهبية للمخرج بمهرجان كان 1983، وأوسكار وجولدن جلوب أفضل فيلم أجنبي 1984)
وينضوي فيلم كارمن ضمن ثلاثية ساورا التي جمع فيها بين المحتوى الدرامي وأشكال رقص الفلامنغو في ثمانينيات القرن الماضي، وهي عرس الدم (Bodas de Sangre) وساحر الحب (El Amor Brujo) وكارمن (Carmen).