في مهرجان برلين: “كونتننتال 25”.. فساد الأمكنة

أمير العمري– برلين
يؤكد الاختيار الدائم لأفلام المخرج الروماني المجدد “رادو جود” للعرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي (البرليناله)، الطابع التجريبي الذي يطغى عادة على أفلام هذا المهرجان، الذي يهتم بالسينما الأوروبية، أكثر كثيرا من اهتمامه بالسينما الأمريكية حتى في نسخها الفنية الجريئة، أو ربما أن اختياره الانعزال عن هذه السينما الكبيرة الراسخة، يعزز هجرانها له، أي تفضيلها تقديم أفلامها الجديدة الجريئة لمهرجاني “كان” و”فينيسيا”، وهما المنافسان الرئيسيان لبرلين الذي ربما لا يعيش أفضل أيامه حاليا، لأسباب كثيرة.
المهم، أن رادو جود يأتي هذه المرة بفيلم يختلف كثيرا عن أفلامه التي نعرفها والتي تكسر المألوف عادة من حيث الشكل والبناء الفني، وتميل عادة إلى الفوضوية والعبث من خلال الاحتجاج الصارخ والسخرية من كل شيء والتشكيك في قدرة الكائنات البشرية على اختيار الصائب”، وربما أيضا إدانة الجميع ووصمهم بالتواطؤ أو على الأقل اللامبالاة، كما رأينا على سبيل المثال في فيلمه السابق “لا تتوقع الكثير من نهاية العالم”Do Not Expect Too Much From the End of the World أو فيلمه الأسبق “مضاجعة سيئة الحظ” Bad Luck banging
إلا أن هذا الميل إلى التمرد على ما هو مألوف، يتجه هذه المرة إلى “المألوف” من خلال الشخصية الرئيسية التي نراها في قلب الفيلم، وتكاد لا تغيب عن أي مشهد من مشاهده باستثناء الـ15 دقيقة الأولى، كما أنها شخصية تميل هذه المرة إلى القيام بـ”الأمر الصائب”، ومن خلال بناء فني تقليدي إلى حد كبير، لا مجال فيه للشطحات الفنية التي تصبغ أسلوب هذا المخرج عادة، ويكثر فيه الحوار كعنصر أساسي لرسم ملامح الشخصيات، خصوصا الشخصية الرئيسية، أو كتعليق ساخن وساخر على التحولات التي تشهدها رومانيا من خلال أكثر مدنها تألقا وتطورا وثراءً مفترضا، أي مدينة “كلوج” الواقعة في إقليم بنسلفانيا الشهير.
الفيلم الجديد هو فيلم “كونتننتال 25” Kontinental 25 وهو يطرح سؤالا أخلاقيا، سرعان ما يجرنا إلى تداعيات تتعلق بطبيعة المنظومة الجديدة التي ورثت النظام الاشتراكي المنهار الذي سيطر على البلاد لعدة عقود. هذه المنظومة التي فرضت “أخلاقيات”، أو بالأحرى “لا أخلاقيات” شرسة، كونها تقاعست عن تحقيق أي قدر من العدالة أو تقديم أي نوع من الضمانات الاجتماعية للفئات الضعيفة، بل ساعدت في دفعها أكثر، بكل شراسة، خارج الهامش الاجتماعي.
ورغم أن هذا يتضح بصورة لا شك فيها في الفيلم إلا أنه ليس فيلما سياسيا عن الظلم الواقع على الطبقات الأدنى في السلم الاجتماعي، فهو يطرح سؤالا أخلاقيا يتعلق بالذات، بالفرد، بالتناقض بين القيمة والعمل، الشعور الإنساني الطبيعي والوظيفة الاجتماعية، كما يطرح تساؤلات أخرى كثيرة عن قيمة التعاطف والتضامن “الرمزي” البعيد عن التأثير في مجريات الأمور على أرض الواقع.
من حيث الشكل أو التقنية الفنية، يعتبر هذا الفيلم مثالا على جنوح مخرجه إلى التمرد على قيود التقنية والشروط الصعبة للإنتاج وتحرير فيلمه من طغيان الصنعة وتكاليف الإنتاج، عن طريق استخدام كاميرا الأيفون في تصوير الفيلم، ولكن ربما تكون المفارقة أن رادو جود كان في الوقت نفسه، وهو يختار التصوير بهذه التقنية “الثورية”، يكرس فعالية تكنولوجيا الاحتكارات الرأسمالية الكبرى المستبدة التي يوجه لها النقد الشديد في فيلمه. كيف؟

هناك أولا رجل صعلوك يدعى “إيون”، يهيم على وجهه في الشوارع، ينتقي بعض الأشياء الملقاة في صناديق القمامة، يسب ويلعن العالم، يتسول من المارة، بعضهم يمنحه القليل، والكثيرون يتجاهلونه، يتسلل إلى حديقة الملاهي المفتوحة التي تمتليء بنماذج من الديناصورات الضخمة أقامتها الاحتكارات الجديدة التي تريد جعل المدينة مقصدا سياحيا، وهذه النماذج تتحرك بين آونة وأخرى، تفتح فمها، يتحسس هو عيونها، كأنه يسخر منها، لكنها لا تكف عن الرغبة في التهامه!
صورة كوميدية لمأساة رجل سنعرف أنه عاطل، يعيش في غرفة السخان الكبير الذي يغذي مبنى صغير قديم بالمياه الساخنة، وهذه الغرفة تقع في الطابق تحت الأرضي. ورغم أن البلدية أنذرته أكثر من مرة بضرورة إخلاء المكان، إلا أنه ضرب عرض الحائط أو ربما نسي الأمر كله، فليس له مكان آخر يمكنه الذهاب إليه، وسنعرف فيما بعد، بعد أن تقع الواقعة، أن “إيون” كان في الماضي أحد أبطال سباقات الجري “المارثون” الرياضية، وحقق انتصارات بارزة في بعض البطولات الدولية، إلا أنه أدمن احتساء الخمر وانتهى عاطلا، يعيش على هامش المجتمع، محروما من أي دعم من جانب الدولة التي تبنت السياسة الليبرالية الجديدة، لتتيح للاحتكارات الكبيرة التحكم في مسار الحياة في رومانيا ما بعد تشاوشيسكو.
ما سيحدث هو أن “أورسوليا”- التي كانت في السابق، أستاذة في القانون، ثم فقدت وظيفتها، تعمل حاليا مساعدة في مكتب عمدة المدينة، وتباشر تنفيذ قرارات البلدية، وهي الآن تطرق باب إيون المسكين، مصحوبة بعدد من رجال الشرطة، تطالبه بضرورة إخلاء المكان لأن الشركة الألمانية التي اشترت العقار ترغب في هدمه وتشييد فندق سياحي كبير باسم “كونتننتال”.
الرجل يقاوم ويتضرع ويتوسل ثم يوافق مرغما، لكنه يطلب فقط منحه مهلة بعض الوقت لجمع أغراضه. تمنحه أورسوليا 20 دقيقة، وعندما تعود مع رفاقها بعد تناول القهوة معا، تكتشف أن الرجل قد انتحر بواسطة سلك لفه حول رقبته بعد أن ربطه في الرادياتور!
الصدمة تكاد تقضي على أورسوليا المسكينة، فهي لم تتوقع أبدا أن يؤدي تدخلها الإداري، إلى هذه النهاية المأساوية، وستصبح من هذه اللحظة في قلب الفيلم حتى نهايته، فمع شعورها بالذنب ترفض الذهاب في رحلة متفق عليها مسبقا، مع زوجها وطفليها إلى اليونان، وتفضل البقاء حتى تتعافى من صدمة الشعور بالذنب، وربما أيضا تجد طريقة للتكفير عن الذنب.
أورسوليا إنسانة طيبة، كاثوليكية هاجرت منذ سنوات بعيدة مع أمها من المجر إلى بنسلفانيا الرومانية، حيث تعيش مع أقلية تعاني بالطبع من عنصرية الرومانيين شأن أقليات أخرى كثيرة، وهو ما يعبر عنه جود في مشاهد عديدة، بل إنه يجعل شابا كان فيما سبق، أحد طلاب أورسوليا، يقوم حاليا بتوصيل الطعام بدراجته حسب الطلب، يعلق فوق ظهره لوحة تقول “أنا روماني” لكي يتفادى أن يدهسه سائقو السيارات من الرومانيين العنصريين، كما يفعلون مع أمثاله من اللاجئين من بنغلاديش وأفغانستان وغيرهم، الذين يمتهنون مثل هذه المهنة!
تذهب أورسوليا تعبر عن شعورها المأساوي بالذنب جراء ما وقع للرجل الذي فقد حياته، ستتكلم مع رئيسها الذي يسخر مما يعتبره مبالغة في الأمر ويصفها بأنها تريد أن تكون مثل “مايكل شندلر” بطل فيلم سبيلبرج الشهير. وستتحدث شبه باكية، مع صديقتها التي تروي لها بدورها قصة عن رجل متشرد كان يقيم في جراج قريب وكانت تنبعث منه رائحة نتنة، وكيف أنهم كانوا في الحي يتضررون كثيرا بسببه.
وعندما تتحدث مع القس الكاثوليكي يطيب خاطرها ويهدئ من روعها ويبرئها من الخطيئة التي يرجعها إلى المنتحر نفسه، فالانتحار ضد مشيئة الله- كما يقول. والوحيد الذي ربما يتعاطف معها بعض الشيء هو طالبها السابق الذي يأخذها إلى السينما لمشاهدة فيلم من أفلام التسلية الحديثة، وتحت تأثير الخمر يمارس الاثنان الجنس في الحديقة العامة ليلا. وهو مشهد زائد عن حاجة الفيلم، ولم يكن له ضرورة فنية من وجهة نظري.. بل إنه يجعل من أورسوليا خائنة لزوجها الذي يحبها. لكن هذا النزوع للسقوط راسخ في أفلام رادو جود.
وإذن ما الذي يرمي إليه جود من وراء هذه القصة التي تتكرر مشاهدها بشكل حرفي، كما يتكرر الحوار والتعبير عن الشعور بالذنب والرغبة في التكفير؟

يقول المخرج في مقابلة معه، إن الفكرة جاءته من فيلم روسيلليني “أوروبا 51” الذي نرى ملصقا له معلقا فوق الحائط في أحد المشاهد، وكان يروي قصة سيدة أرستقراطية تلعب دورها انجريد برجمان، تعاني بسبب الشعور بالذنب بعد وفاة ابنها، فتلجأ للأعمال الإنسانية، لكن التشابه يبدو بعيدا بين العملين. فأساس تكوين شخصية أورسوليا هنا، هو أنها وجدت نفسها تلعب دورا مباشرا من داخل “النظام” الظالم، في حين أنها ضد الظلم، أي أن وجودها في الوظيفة، وقناعتها بأنها تؤدي عملا، تنهار بعد أن ترى كيف أن هذا “الإخلاص” في أداء الدور الوظيفي، يضر بالآخرين، يتسبب في طردهم، بل يمكن أن يؤدي أيضا إلى الانتحار يأسا- كما حدث. ومن جهة أخرى، فقد أصبحت من حيث لا تدري، تعمل في خدمة الاحتكارات الكبيرة التي لا يهمها سوى التوسع وتحقيق الأرباح على حساب أي قيمة إنسانية.
أورسوليا تعاني أيضا من الشعور بالغربة، إنها تقطن على هامش المدينة في أحد الأحياء الجديدة التي نتجت عن التوسع الرأسمالي الجديد، أي أنها منفصلة عن الطبقات الشعبية، كما أنها مصنفة غريبة عن الواقع باعتبارها تنتمي أصلا إلى الأقلية المجرية، تصفها الصحافة بعد الحادث بعناوين تدينها مثل “موظفة مجرية تدفع بطلا رياضيا رومانيا إلى مصيره”.. ولكنها رغم ذلك تتشبث بانتمائها الجديد وترفض التعصب العرقي الذي تبديه أمها تجاه الرومانيين الذين تصفهم بالكسالى والأغبياء.

المأزق الأخلاقي لأورسوليا هو أساس الفيلم، ولكنه لا ينفصل عن المأزق العام في رومانيا اليوم، التي سقطت في أيدي النيو- ليبرالية المتوحشة.
والفيلم، شأن غيره من أفلام مخرجه، يجمع بين الكوميديا والتراجيديا، بين المواقف الدرامية الشديدة التأثير، التي تصبح تدريجيا بعيدة عن ذلك التأثير الدرامي لتبدو أحيانا أقرب للكوميديا، خصوصا مع بعض التعليقات الساخرة التي تأتي من خارج المشاهد منها بعض التعليقات على أفلام السينما التجارية الشائعة، وغيرها.
إن بحث أورسوليا عن “الخلاص” لن يتحقق، فكل من تتحدث إليهم، يمنحونها نفس الجواب تقريبا، وهو أنها لم ترتكب أي خطأ، وأن الذنب ليس ذنبها، وبالتالي فالتعاطف المؤقت معها لن يغير من الأمر شيئا، فالأمر أكبر من أن يتغير بفعل المشاعر الإنسانية النبيلة. ولذلك يصبح فيلم “كونتننتال 25” فيلما عن التدهور، عن مدينة في طور التغيير، ودولة في طور الانحدار، وما تدهور القيم سوى أحد مظاهر التدهور العام.
من ناحية الأسلوب السينمائي، يركز رادو جود على بناء المشاهد من خلال اللقطات المتقاطعة التي تنتقل بين الشخصيات أثناء الحوارات المكثفة، يصور الشخصيات حينا من الخلف وحينا آخر من الأمام، مع الاقتصاد في تحريك الكاميرا كما يكثف في مشاهد الليل، عزلتها عن المحيط الذي يبدو فارغا، أو فضاء بعيدا، كما يجسد في النهاية، في لقطات متداخلة متعاقبة سريعة الإيقاع، تراكم البناء الحديث التجاري وطغيانه على الطابع التاريخي الرصين للمدينة.
حصل الفيلم على جائزة “الدب الفضي” لأفضل سيناريو في مهرجان برلين السينمائي.
