في مهرجان أبوظبي السينمائي: حلم العودة

ضمن عروض برنامج “آفاق جديدة” في الدورة السادسة لمهرجان أبو ظبي(11-19 اكتوبر) وبدعم من صندوق سند لتمويل الأفلام قدمت المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر فيلمها الروائي الطويل الثاني “لما شفتك” وذلك بعد اربع سنوات من فيلمها الأول “ملح هذا البحر” 2008.

مساحة الاتصال الأكيدة بين التجربتين هي هاجس العودة الذي يلح على آن منذ فيلمها الأول. وفي فيلمها الثاني يعتبر مفتاحا اساسيا لاستيعاب رغبة بطلها الطفل الصغير طارق في ترك معسكر اللاجئين على الحدود والعودة إلى منزله حيث يتصور ان كل شئ لا يزال كما كان وان اباه ينتظره هناك.

الأب

في”ملح هذا البحر” قدمت ماري محاولة جريئة مع بطلتها الفلسطينية التي عادت إلى الأرض المحتلة بعد أوسلو، وقررت أن تطالب بحقوقها التاريخية في كل شئ تركه والدها عندما طرد من فلسطين ابان 1948.

إنها تذهب إلى البنك لتطالب بـ 16 جنيها فلسطينيا قديما هي إرث أبيها، وتذهب إلى منزل أبيها على البحر لتقيم فيه مع مواطنة اسرائيلية منحت البيت من قبل الوكالة اليهودية، وعندما تفشل في هذا تحاول أن تقيم مع حبيبها- الذي ينساق بحماس لهذا الشغف الفانتازي لمقاومة أمر واقع ومتجذر- في الخلاء محل احدى القرى الفلسطينية القديمة التي دمرت وقت النكبة.

في “لما شفتك” يبدأ الفيلم من عيني طفل صغير ينتظر الشاحنة التي تقل لاجئين جددا دون أن يدرك أنهم مطرودون مثله حيث تمثل له الشاحنة وسيلة المواصلات التي سوف تقل أبيه إلى حيث يقيم هو وأمه في المخيم.

يتماس هنا حلم فتاة “ملح هذا البحر” في اعادة بعث إرث والدها مع انتظار طارق لقدوم والده. شخصية الأب في الحالتين هي رمز متعدد التأويلات سواء للإرث التاريخي أو المخلص المنتظر أو الرابط العضوي مع الأرض المسلوبة.

مع طارق تهبط آن ماري بالكاميرا لتقدم لقطات قريبة ومتوسطة للطفل الفلسطيني وهو قريب من الأرض، مسطح عليها او نائم او يلعب. هناك ارتباط عضوي بصري تتمكن ماري من انجازه بين طارق والأرض منذ المشاهد الأولى، ورابط آخر يتصل بفكرة قدوم الأب من أرض البيت البعيدة التي لا يستوعب طارق كيف أنه ممنوع من العودة إليها.

رغم حنينه الشديد للأب فإن طارق لا يقبل اسلوب المعاملة التي يعامله بها المدرس في مدرسة المخيم، انه لا يعوضه الأب الغائب بل يثقل على ذاكرته بالحنين إلى مدرسته “هالة” في مدرسته القديمة بفلسطين.

وطوال رحلة طارق داخل الفيلم منذ يترك المخيم متجها إلى معسكر تدريب الفدائيين ثم إلى الحدود يبحث طارق عن بديل للأب ولا يجده ولا يقبل بغير ابيه بديلا ليصبح الأب رمزا للوطن في صورته الذكورية وهي عكس صورة الوطن/ الأم النمطية المعروفة.

تحول الأب الغائب في “ملح هذا البحر” إلى شكل من اشكال الوطن المفقود الذي تحاول البطلة استعادته رغم استحالة ذلك بحكم الواقع السياسي والتاريخي الحالي.

وتفرق آن ماري بين شخصية الأب الغائب وشخصية الفدائي الراغب في تحرير وطنه وبين فئة ثالثة من الرجال هم رجال المخيم الذين يجلسون على المقهى يلعبون الطاولة وينظرون لنساء المخيم العاملات في كد من أجل استمرار الحياة.

من خلال لقطات كثيرة في الفصل الأول من الفيلم تدين آن ماري بشدة هذه الفئة خاصة عندما تعرض احدى خطابات ياسر عرفات التليفزيونية وهو يتحدث عن تحول الفلسطينين بعد انطلاق حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية من لاجئين إلى مقاتلين، تاركة المتلقي يسخر من جلوس هذه الفئة على المقهى تستمع إلى حديث عرفات وتلتزم بأضعف الإيمان وهو الرغبة في التحرر وليس الفعل عليه.

في كل مشاهد المخيم لا نجد سوى النساء هم الذين يعملون بكد سواء في تربية الأطفال او في مشغل الخياطة او طبخ الطعام بينما الرجال يأكلون فقط ويجلسون على المقهى بلا عمل او نشاط حقيقي.

تتنوع احجام اللقطات بحسب قصدية السرد في طرح واقع المخيم أو تشكل رغبة طارق في المغادرة. هناك مشاهد كثيرة في لقطات واسعة تصور وجود طارق داخل المخيم وخلفه المساحات الباهتة من الجبال والسماء، حتى ليبدو شكل المخيم انعكاسا لشعور الطفل بأن هذا المكان ليس مكانه وانه مجرد كيان باهت هش سوف ينهار عما قريب بمجرد مغادرته او قدوم الأب ليعود بهم.

لا تتحرك الكاميرا داخل المخيم بشكل تسجيلي ركيك لتستعرض واقع اللاجئين آنذاك وإنما يظهر المخيم دوما في خلفية طارق وأمه كجزء من واقعهم النفسي والسياسي المرفوض من قبل طارق والذي يجعله يرغب يوما بعد يوم في المغادرة.

الذاكرة الخصبة

كطفل صغير لا تملك ذاكرته سوى مساحات قليلة من الزمن المعاش يتصور أنها كل الحياة وكل التاريخ، لكن المخرجه بحكم هاجس العودة المتجذر في افكارها ترسم ذهن طارق كعبقري صغير في الحساب والرياضيات.

ان طارق الذي نراه لا يتمكن من القراءة بشكل جيد وربما لا يجيدها على الاطلاق لكنه يملك ذاكرة رقمية وعين حاسبة غير طبيعية، حتى انه يتمكن من عد وحساب عدد طلقات المدفع سريع الطلقات او عدد مرات التمارين الرياضية مما يجعل قائد معسكر الفدائيين الذي ذهب إليه في طريقه للحدود يعتمد عليه في تدريبات المجموعة المقاتلة.

هذا الذاكرة الرقمية الخصبة تنضح بدلالة سياسية وتاريخية وانسانية هدفها تأصيل فكرة العودة في نفوس الأجيال التي لم تعش النكبة وانما انكوت بنارها، وكأن المخرجة تقول ان اصحاب القضية يجب أن يتعلموا الحساب جيدا لكي يحصون كل شئ ولكي لا ننسى ونظل نفكر في العودة ولا تطمسنا الاستحالات أو تفت من عزمنا.

ان هذه الميزة الرقمية تأتي كصفة تدعم مركز طارق النفسي والاجتماعي داخل المخيم وتقدمه كأمل في جيل جديد لا ينتظر العودة بل يسعى إليها.

صحيح ان عودة المخرجة لعام 67 او عام الأمل والحسرة كما عرفته في احد حواراتها عن الفيلم يمثل نوستالجيا سياسية وتاريخية عن حقبة لم تعد ملامح القضية الآن كما كانت وقتها، لكن هذه العودة للوراء لا شك تحمل الكثير من السخط والرغبة في المقارنة التاريخية بين وضع سابق في ظروف اصعب ووضع حال تخسر فيه القضية لا بسبب تواطئ العالم بل بسبب نزاعات اصحابها انفسهم، حتى لم يعد الجيل الجديد يتربى على فكرة العودة وأنما فقط البقاء على قيد الحياة او الخروج من الحصار.

الأم والفدائي

تفقد الأم في فيلم جاسر الكثير من ميزاتها النمطية كمعادل للأرض المفقودة او الوطن المحتل وتتحول إلى عنصر جذب للخلف يثبط من عزيمة طارق ويفرض عليه الأمر الواقع طوال الوقت.

يرفض طارق رغبة امه في البقاء الآمن داخل حدود المخيم او معسكر الاجئين ويرفض تلك العلاقة الحميمية التي تتجلى أمامه بين أمه وبين الفدائي الشاب “صالح بكري”، وبعد ان كان طارق يرغب في التحول إلى فدائي من اجل الحصول على اعجاب صديقته الطفلة في المخيم ثم من أجل العودة لفلسطين عندما علم أن الفدائيين يعبرون كل يوم إلى هناك يرفض طارق ان يحل هذا الفدائي الشاب محل ابيه.

إنه يغار على أمه ويتهمها بأنها كانت السبب في غياب أبيه وعدم رغبته في القدوم اليهم، وتنتاب طارق مشاعر”هامليتيه” تجاه أمه، في لقطات واسعة ينظر إليها وهي تجلس مع الفدائي الشاب بينما يده تقوم بالتحويل المستمر في مؤشر الراديو كدلالة صوتية على تشوش ذهنه وانفعال افكاره الصغيرة بما يرفضه ولا يقبله سواء على أمه أو على ابيه الغائب.

هذه المشاعر الهاملتية تصبح جزءا من التراكم النفسي لدى طارق، فبعد ان ينصاع لأوامر القائد بعدم الذهاب مع احدى المجموعات القتالية العابرة للحدود يقرر ان يترك المعسكر كما ترك المخيم، فالمعركة الحقيقية هناك وهاجس العودة تحول إلى شهوة لا يمكن اشباعها سوى بالتوحد مع الأرض وليس مجرد مراقبتها عبر الأسلاك الشائكة.

ترفض آن ماري فكرة البقاء الآمن لحين العودة (في صورة الأم) وترفض حتى المعركة عن بعد (في صورة معسكر تدريب الفدائيين) وكما ذهبت بطلتها في ملح هذا البحر إلى الأرض المحتلة وحاولت استعادة الإرث المادي والمعنوي والإجابة على سؤال “ماذا لو عدنا الأن” تذهب ببطلها الصغير نحو الحدود مقررا العودة دون انتظار الأم أو الفدائي.

وتنحاز ماري إلى بطلها انحيازا كاملا وذلك في لقطة معبرة عندما تقع عينا الأم للمرة الأولى منذ هروبها على “لبلاد” -كما يطلق عليها في اللهجة الدارجة الفلسطينية- تمنح المخرجة بطلتها في لقطة قريبة وقتا كافيا للتشبع بالأرض والتلال والتراب الفلسطيني الحبيب، ويتقاطع المونتاج بين استلاب الأم امام لحظة الحنين الجارف للأرض والوطن وبين طارق الصغير في تصميمه على اجتياز الأسلاك الشائكة والعودة.

هذه اللقطة تصبح ذروة القرار الذي تتخذه الأم بناء على شهوة العودة التي نجح طارق الصغير بكل براءته وفطريته واسقاطه لكل الحسابات السياسية والعسكرية في ان يعدي الأم بها، لنراها تمسك بيده وبدلا من ان تمنعه من المجازفة باجتياز الحدود اذ بها تجري به نحو العودة في لقطة واسعة ترسم لوحة تعبيرية شديدة التأثير حيث الأم في الزي العسكري تمسك بيد طفلها جارية نحو السلك الشائك بكل طاقتها لتعود إلى الأب/ الوطن في اصرار وقوة.

خطوة للامام.. ولكن

يمثل هذا الفيلم خطوة للأمام على مستوى الطرح الفكري او السينمائي بالنسبة للمخرجة، لا شك انها تطورت على مستوى عناصر تحريك الممثلين والتعامل مع بيئات بصرية مفتوحة مثل معسكر التدريب والمخيم.

في فيلمها الروائي القصير “كأننا عشرون مستحيلا” اثبتت أن لديها قدرات جيدة والذي كان عن مجموعة سينمائيين يرغبون في التصوير داخل الأرض المحتلة فيتعرضون لتحرش السلطات الأسرائيلية كانت جريئة وتجرب دون خوف, ولكن في افلامها الطويلة تبدو آن اكثر تحفظا على المستوى البصري ربما بحكم المضامين والأسلوب الواقعي الذي تنتهجه في التعامل مع افكار افلامها.

لكن هذه الخطوة لا تعني انها لم تتخلص بعد من الكثير من عوامل المراهقة السياسية والسينمائية على حد سواء، فليس معنى ان نصنع فيلما سياسيا ان تتحدث الشخصيات في السياسية ولكن أن يعبر الفيلم من خلال واقعه وشخصياته وتأويلاته البصرية والصوتية عن الفكرة السياسية، وليس الرمز معناه النمذجة ولكن تشكيل الشخصية الدرامية بما يوحي بالرمز، وليس ان تتحدث الشخصية بما تحمله من رموز فتصبح أشبه بمقال أو فقرة ايديولوجية في كتاب تنظيري.

من اضعف عناصر الفيلم شخصية القائد الصارم الذي لم تتمكن ماري من رسمها بشكل متوازن فهناك فرق بين الصرامة الطريفة او الضاحكة وبين الكاريكاتورية الهزلية، للأسف بدت شخصية القائد اقرب للشخصية الكاريكاتورية في تعبيرات وجهه والفاظه وافيهاته منها لشخصية الصارم الساخر صاحب الحكمة العميقة والنظرة الثاقبة، حيث افقدت الهزلية الكثير من مصداقية الشخصية وحولتها لمصدر تسلية وليس لعنصر فكري مكمل لمضمون الفيلم.

كذلك الأغنيات المتعاقبة في المعسكر التي لم نعرف ماذا أرادت بها المخرجة حين تعاملت معها بمنطق الفيديو كليب سواء مونتاجيا او اخراجيا! هل ارادت التعبير عن واقع الحياة داخل المعسكر الجاف ام ارادت بث حالة انفعال عاطفي وتعاطفي مع هؤلاء الشبيبة الذين على وشك الموت فداء لتحرير وطنهم؟

وحتى مع وجود اصوات جميلة بين مجموعة الفدائيين فإن الأسلوب الواقعي والخشن في التعامل مع التفاصيل الفيلمية لا يسمح بافراد شريط الصوت وزمن الفيلم لهذه الأغنيات سواء كانت عاطفية او حماسية.

كما اننا لم نستوعب فكرة ان يكون الفدائيون من اشكال تعطي انطباعا بأنهم من اجناس مختلفة، فلا يوجد شاب يشبه الأخر لا في الشكل ولا اللون ولا تسريحة الشعر الخاصة بالحقبة، هل ارادت المخرجة أن تقول لنا ان جنسيات كثيرة اغلبها من الملونين –المقهورين- اتت لتحارب من اجل قضية فلسطين! ولكنها-اي المخرجة- تعاملت معهم على انهم جميعا فلسطينيين سواء في اللهجة او الايديولوجية, ولم نسمع من احدهم لهجة او لغة مختلفة باستثناء لقطة عابرة لشاب افريقي لا ندري ماذا يفعل معهم؟

هذه المبالغة الشكلية في اختيار عناصر ملونة ربما للتعبير عن مناصرة القضية تناقضت اولا مع اسلوب الفيلم الواقعي ولم تضف جديدا او تصب في تيمة هاجس العودة او الحبكة الخاصة برحلة طارق بل صار تأويلها يمثل ثقلا على ذهن المتلقي, خاصة ان زمن وجود طارق وأمه في المعسكر يستغرق ثلثي الفيلم تقريبا.

كما لم تتمكن ماري من التخلص من الطنطنة السياسية التي هي آفة الفيلم السياسي العربي فهي تريد ان تصور ان المعسكر يحتوي على مختلف التيارات الفكرية والأيديولوجيات السياسية فقط عبر جمل حوارية ساذجة وطنطات شعاراتيه لا تعلق في ذاكرة المشاهد وأنما تشكل حالة من المباشرة والسطحية تفقد عمق الرحلة والازمة النفسية للطفل الراغب في العودة الكثير من بريقها.

لما شفتك

تبقى الإشارة إلى ان عنوان الفيلم يتخذ دلالات كثيرة على طول المسار الدرامي والبصري للفيلم يمكن ان نلمسه في المشاهد الأولى عندما كان طارق ينتظر العربة المحملة بالقادمين ثم احباطه بأن أباه ليس على متنها أي “لما شافها “خالية قرر هو الذهاب لأبيه.

وفي المشهد الأخير عندما رأت الأم البلاد الحبيبة فأقتنعت برغبة ابنها بالعودة اي”لما شفتك يا لبلاد” اسرتني الرغبة في العودة.

وربما يتخذ العنوان ايضا دلالات معنوية اكثر من مجرد الفعل البصري فلسان حال طارق يقول “لما شفتك” اي حين ادركت انك لا ترغب في العودة قررت العودة بمفردي أو “لما شفتك” تحارب عن بعد قررت أن اخوض المعركة في الداخل.

وحتى على لسان احد الفدائيين يأتي الفعل ماديا ومعنويا حين يعود مصابا فيقول لزملائه “شاهدنا انوار القدس” مما يصيب البعض بالحنين والبعض الأخر بالسخط لأنه لا يوجد شئ اكثر ايلاما من ان يرى أحدهم وطنه او بيته او بلاده ولا يستطيع ان يعبر إليها، وهي الحالة التي جسدتها المخرجة في كلمتها القصيرة عن الفيلم بكتالوج المهرجان عندما قالت ان الفكرة بدأت عندما استقرت في الأردن وراحت تنظر إلى فلسطين عبر النهر وتعرف انها لا تستطيع العبور اليها او زيارتها ابدا.

Visited 26 times, 1 visit(s) today