فيلم “حياة آديل”.. الحب والجنس والحرية باللون الأزرق

Print Friendly, PDF & Email

“لا شك أن تبادل الحب بين امرأة وأخرى أقوى وأشد من الحب المتبادل بين الرجل المرأة. ومعرفة المرأة للأماكن الحساسة في جسدها تجعلها أبرع في مداعبة رفيقتها عند الإجابة لنداء العاطفة”،.

هكذا وصفت “سيمون دي بوفوار”، الفيلسوفة الوجودية الفرنسية والأديبة الشهيرة، العلاقة المثلية بين النساء في كتابها “كيف تفكر المرأة”.

دراما عن الحياة وبقدر الحياة

كان خيار المخرج الفرنسي من أصل تونسي عبد اللطيف كشيش، أن يعتمد على الأدب كمادة للعمل السينمائي؛ فنجد في بداية فيلمه “آديل” الطالبة المراهقة التي تدرس الأدب الفرنسي تجلس في صفها بينما يطلب المعلم من زملائها أن يقرأوا مقاطع من “حياة ماريان” النص الروائي غير المكتمل للأديب الفرنسي بيير دي ماريفو، ويؤكد على الفتاة التي تقرأ بأن تمنح لكلماتها “الصدق” والحرارة، فهي تتلو حياة امرأة تروي قصتها، هي قصة حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وليست مصادفة أن يحمل النص الروائي والفيلم السينمائي ذلك التشابه في الاسم، إذ كشف لنا كشيش– وهو مشترك في كتابة النص السينمائي أيضًا-  أوراقه مبكرًا، ليعلن بكل تلك البساطة، أن فيلمه عن “حياة” ككل حيوات البشر العادية، لها تقاطعاتها وتشابكاتها المختلفة والمثيرة مع القدر الذي يلعب بها ويحرك مصائرها. انعكس ذلك في مدة شريط الفيلم الممتدة لثلاث ساعات كاملة، فهي فعلًا دراما بقدر الحياة واتساعها وتواتر أحداثها وإيقاعها البطئ أحيانًا. يختم المعلم درسه بسؤال هو المحور المحرك لكل ما سيليه من أحداث، تلك المصادفة القدرية التي تجمع بين اثنين تبادلان من خلالها نظرات سريعة في الطريق، كالحب من أول نظرة، ماذا يترك ذلك الشعور في القلب؟!

إن تبادل النظرات بين “آديل” و”إيما” تلك الأخيرة اللغز المغري بتتبعه واكتشافه بشعرها الأزرق المتوهج اللافت للنظر تحيط بذراعها فتاة أخرى تعبران الطريق، في تلك الساحة التي التقيا فيها بغير ميعاد، سوف تشتعل بينهما علاقة الغرام بمباركة قدرية دفعت كل منهما في حياة الأخرى دون أي ترتيب مسبق. بيد أن “آديل” لن تكتفي بتلك الصدفة التي زارتها بعدها “إيما” في أحلامها الجنسية، بل سوف تذهب بخيارها الحُرّ للبحث عنها في مقهى للمثليات، فقد انتابتها حالة من الصراع النفسي الداخلي لتحديد ميولها الجنسية، وستقطع علاقتها بالشاب الذي أقنعت نفسها لوهلة أنها تستطيع أن ترتبط به ومارست معه الجنس هروبًا من حالة الهيمنة التي فرضتها “إيما” على مخيلتها، لكنها سرعان ما شعرت بالافتعال في علاقتها بالشاب وعدم الصدق في مشاعرها نحوه ، فقد حسمت أمرها.

فيلم عن الحرية

الفيلم قدم دعوة مكثفة للحرية تلخصت في فكر “إيما” المستمد من “الفلسفة الوجودية” للفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر”، في أول لقاء جمعها بـ”آديل” بعد لقاء المقهى فسرت لها فلسفتها في الحياة التي استمدتها من جاذبية أفكار سارتر لها، والذي رأته قد بدأ ثورة فكرية غيّرت وحررت جيلًا كاملًا بأفكاره التي يمكن تبسيطها في أن الإنسان يولد ويوجد، ثم أفعاله هي التي تحدد ماهيته، وتلك الفكرة تضع على عاتق الإنسان مسؤولية كبيرة، فالإنسان هو مَنْ يحدد حياته، فعندما لا يوجد مصدر أعلى للقيم يصبح كل إنسان مرجعية ذاته، ويحدد لنفسه معايير الصواب والخطأ،  ومن ثم تتشكل ماهية وجوده من إرادته واختياراته الحُرّة.

استطاع كشيش أن يجسد، من خلال مقارنته الواضحة بين عائلتي الفتاتين، مدى اتساع الهوة بين فكر الطبقتين المثقفة والعاملة في فرنسا وطريقة تعاطي وتقبل كل منهما لفكرة ميول ابنتهما الجنسية. في مشاهد مائدة الطعام تفاصيل كل شئ، المائدة الأولى لدى عائلة “إيما”.. الرسامة التي تنحدر من عائلة منفتحة متحررة حيث تستقبل الأم صديقة ابنتها بترحاب وهي على علم بطبيعة العلاقة بينهما.

اللوحات المعلقة على جدران المنزل تنم عن شغف تلك الأسرة بالفن والثقافة وهو ما سينعكس في اختيار “إيما” التي ستصبح رسامة ، يعزز زوج الأم حرية “آديل” في اختيار ما تحب أن تعمله في المستقبل ومدحه لها على تحديد هدفها ورسم طريقها، فهي تعرف جيدًا ماذا تريد، تطبع “إيما” قبلة على خد “آديل” أمام أسرتها في حرية دون خوف، نوع الطعام المقدم كان نوعًا غاليًا من السمك والنبيذ الأبيض الفاخر الذي احتسوه جميعًا في نخب “الحب”. بينما مائدة أسرة “آديل” بسيطة تخلو من الترف، مقدم عليها طبق من الباستا بسيط والنبيذ الأحمر المحلي الموجود على مائدة كل الأسر الأوروبية البسيطة.

لا يعني الفن للوالدين كثيرًا فالمهم هو كيف ستستطيع “إيما” أن تدفع فواتيرها، وإذا أرادت أن تصبح فنانة فعليها أن تجد لها من يلبي احتياجاتها المادي، فالفن في نظرهما مهنة غير مستقرة لن يجني صاحبها من ورائها ربحًا. نجد لهذا التفكير التقليدي صداه المؤثر في تفكير “آديل” في بحثها عن العمل الروتيني المستقر الذي سيوفر لها راتبًا شهريًا يؤمن لها متطلباتها، ما جعل الفتاتين تختلقان كذبة مؤداها أن “إيما” لها صديق، رجل أعمال.

وقد تبع كل مشهد من مشهدي مائدة الطعام لدى كل من الأسرتين، مشهد جنسي، واستطاع المخرج بحق أن يبرز بأدواته، من إضاءة وزوايا الكاميرا، حجم الاختلاف بين الأسرتين، فبعد لقاء “آديل” بأسرة “إيما” تمارس الاثنتان الحب في مشهد مضئ على فراش باللون الأزرق –اختير من البداية كلون الحب والدفء والحرية طبقا للعنوان الفرعي للفيلم “الأزرق هو اللون الأكثر دفئًا” ، بينما بعد المائدة الثانية تمارس الفتاتان الجنس في منزل “آديل”، في حجرة مظلمة، في مشهد محفوف بالخوف تحاول كل منهما كتم نفس الأخرى خشية أن يصل صوتهما إلى الوالدين المتحفظين، وتضحكان على اعتقاد الأم الواهم بأن “إيما” تنام بمفردها في حجرة أخرى.

الحرية السياسية

الفيلم الذي انحاز لقضية الحرية من البداية نجد في أثنائه مظاهرتين، الأولى تخرج فيها “آديل” تهتف ضمن الجموع المتظاهرة مطالبة الحكومة بإلغاء قرارت الخصخصة، والثانية تخرج فيها الفتاتان في مظاهرة للمثليين تتبادلان القُبَل ونظرات الحب، فاقترنت بذلك الحرية السياسية بالحرية الجنسية في شخص “آديل” التي كانت تتوق للحرية. وسنجد في مشهد المظاهرتين الإضاءة مبهرة أثناء النهار في ساحات عامة، والموسيقى صاخبة تضج بالحياة، وابتسامة “آديل” الطاغية على الشاشة لا تستطيع سوى أن تقع في غرام برائتها، فهي تبتسم دائمًا، عندما تحب، وعندما تتظاهر، وكأن الحرية لديها هي فعل ابتسام.

الفيلم عبّر أيضًا عن قضية حرية الفن والتعبير، عندما اختارت “إيما” أن توجه لوحاتها لرسم الأوضاع الجنسية المثلية، ونجدها في مشهد تتجادل على الهاتف حول شخص لا يريد إقامة معرض لها، فقط لأنه يحمل نزعة عدائية ضد المثليات، وتؤكد في هذا المشهد أن لها كامل الحرية في اختياراتها الفنية. وقد عبرت سيمون دي بفوار في كتابها “الجنس الآخر” عن فكرة اضطهاد المجتمع لكل مَنْ يخالف تصوراتهم عن المرأة – إذا ما اتفقنا مع وجهة النظر القائلة بأن المرأة المثلية هي امرأة متحررة مستقلة في مجتمع ذكوري تريد أن تتحرر من خضوعها له – إذ تقول: “الناس يعتبرونه طبيعيًا بالنسبة للأنثى أن تجعل من نفسها امرأة بكل معنى الكلمة كما يعرفها المجتمع، فلا يكفيها أن لا تولع سوى بالجنس الآخر أو حتى أن تكون أمًا لكي تحقق صورة المرأة المثالية، بل إن المرأة الحقيقية ليست في الواقع سوى منتوج اصطناعي صنعته الحضارة السائدة. وإذا ثارت المرأة على هذه المفاهيم أو شعرت بنقصها فاختارت أن تكون فردًا كاملًا، فإنها تعد متحررة عن مجتمعها وجنسها ،واتهمها الناس بالاسترجال ،لأن الطبيعة الأنثوية في عرف المجتمع تعني النقصان والخضوع.”

فيلم عن الحب

لم تنمُ علاقة الفتاتين في غرف مظلمة، بل اختار المخرج الحدائق المفتوحة على الشمس والهواء والنسيم والطبيعة بكل مكوناتها، ومفتوحة كذلك على الحياة والحرية، فكانا كجزء لا يتجزأ منها في لقاءاتهما الأولى، وبينما كانت تحرك الرياح أغصان الأشجار، كانت أيضا تحرك قلبيهما.

وكأي علاقة يعتريها التغير وتتخذ أشكالا من منحنيات الصعود والهبوط، نشاهد في النصف الثاني من الفيلم “إيما” تغير لون شعرها إلى الأشقر البارد معلنة بذلك انتهاء “الحقبة الزرقاء” في علاقتهما الحميمية، وتبدأ “إيما” تستعمل “آديل” كموديل يوحي لها برسم لوحاتها. يستخدم المخرج المونتاج بطريقة جعلتنا نستشعر ذلك التحول والتبدل وكأن شريطه انشطر إلى نصفين، وأن مرحلة جديدة في العلاقة قد تشكلت، فتستعرض لنا الكاميرا جسد “آديل” العاري الممدد على شيزلونج، وتعلو عينيها نظرة باردة خالية من التعبير، بينما تخط “إيما” على لوحتها منحنيات جسدها البارد المستلقي، فأصبحت مجرد مادة للوحاتها، وبدت كأنها علاقة قائمة على المنفعة ولم يعد للولع والشغف الأول مكانًا بينهما، ويسود الملل والفتور والروتينية التي سوف تقود “آديل” في النهاية للشعور بالوحدة والخيانة ثم الانفصال.

المخرج عبد اللطيف كشيش مع بطلتي فيلمه بعد فوزه بالسعفة الذهبية في مهرجان كان 

ويثير الفيلم قضية الفارق الثقافي في العلاقة العاطفية التي تجمع بين فنانة بكل تقلبات شخصيتها، وفتاة متوسطة الحال والثقافة تعمل بعد ذلك مدرسة في حضانة، فلم تقبل “إيما” عدم حماس “آديل” تجاه مستقبلها وتحثها على أن تنشر ما تكتبه في خواطرها ولو في شكل قصص قصيرة، ربما لأن “إيما” شعرت بالخزي عندما قدمت شريكتها لأصدقائها المثقفين ولم تستطع “آديل” مجاراتهم في مناقشاتهم، وظهرت بمظهر الخادمة التي تقوم بأعمال الطهي وتقدم الطعام والشراب، وهذا ما أثار في نفس “إيما” الخجل من رضاء “آديل” وتسليمها بحياتها. كل الحميمية والحرارة ستختفي، ونجد “إيما” تضن على شريكتها بقبلة صادقة وتعتذر لها عن ممارسة الحب معها بدعوى أن لديها الدورة الشهرية وبدأت هوة تباعدهما تتسع.

الفيلم مفعم بالمشاهد الحميمية ما يثير التساؤل، هل كشيش ينتمي لمدرسة الإيروطيقا السينمائية وقدم لنا فيلمًا برنوغرافيًا؟!. على الرغم من طول مدة الفيلم لا تستطيع أن تضبط المخرج متلبسًا بتهمة الملل أو التكرار، فكل مشهد كان ضروريًا وموظفًا لصالح الفكرة. وعلى الرغم من امتداد مشاهد الجنس على الشاشة التي بلغ أقصاها تقريبًا مدة الست دقائق، إلا أن مشاهد الجنس كانت رائعة بقدر روعة الفيلم، وامتدادها لم يكن استطرادًا بلا معنى، وإنما ليبين مدى التناغم الجسدي بين البطلتين، الذي لن تجده بعد ذلك “إيما” وسوف تفتقده مع رفيقتها الجديدة مثلًا بعد انفصالها عن “آديل” التي أصبحت حياتها خاوية وروتينية، ومشهد عزوف “إيما” عنها في الفراش بعد كل المشاهد التي سبقتها في النصف الأول من الفيلم يعطي مؤشرًا عن التحول الذي اعترى العلاقة الجسدية والعاطفية معًا.

استطاع الفيلم أن يقدم شخصيات مفعمة بالحياة، وكان الأداء صادقًا. فالممثلة ذات الحادية والعشرين عامًا “آديل أكزاركوبولوس” والتي كان دفعها والداها دفعًا وهي طفلة لدروس التمثيل كي تتغلب على خجلها، انفجرت على الشاشة تؤدي بحرارة وتلقائية لم نألفها من قبل في السينما الهوليوودية أو غيرها، فأعطت درسًا في التمثيل استحقت عليه كل ما نالته من جوائز دولية؛ إذ قدمت لنا دورًا من أصدق وأجرأ الأدوار، حتى في مشاهد البكاء كان المخاط يسيل من أنفها ممتزجًا بدموعها. لقد أعطت كل ما في وسعها أن تعطي لمخرج رفع من البداية شعار الصدق وانحاز له كخيار فني حتى أنه كان يصور “آديل” في أوقات نومها الحقيقية. كما أنها مارست علاقات جنسية حقيقية على الشاشة سواء مع زميلها الشاب في بداية الفيلم، أو في علاقتها المثلية اللاحقة مع “إيما” الممثلة المبدعة “ليّا سيدو” التي لم تبخل بكل إمكاناتها وطاقاتها الفنية كدور مساعد أن تلهم وتساعد البطلة الرئيسية في أداء مشاهدها بصدق، فلم تظهر ذرة افتعال في أيّ من أدائهما الذي جعل من هذا الفيلم حالة نوعية فريدة.

نهاية الفيلم كانت هادئة، مضت “آديل” تحمل بين جنباتها الحب الخائب تاركة وراءها مشروع الحبيب المحتمل، مضت في طريقها لا تلوي على شئ، ربما إلى حياة أخرى جديدة.

نجح الفيلم في توظيف الأعمال الفنية من أدب وفن تشكيلي وإدماج كل الفنون ليؤكد على خصوصية الفن السينمائي وعبقريته وقدرته على استغلال وتوظيف أدوات التعبير المستمدة من روح فنون أخرى يستطيع أن يمتزج بها ويتقاطع معها ويستمد بعض مادته منها، إلا أنه مفارق لها وله خصوصيته وجماليته وسحره الخاص.

من اللافت أيضًا شريط الصوت المصاحب لشريط الصورة، فقد عمد المخرج إلى “الصمت” أحيانًا كمؤثر صوتي، كذلك اختار أن يتوقف شريط الصوت في المشاهد الحميمية ليعلو صوت اللهاث والأنفاس المحتدمة لينجح في تجسيد الواقع بكل تفاصيله دون زيادة عليه.

اعتمد الفيلم على قصة الفيلم من كتاب كوميكس ناجح لمؤلفته وراسمته “جولي مارو” وكتب نصًا سينمائيًا رائعًا وهب الحياة وبثها في الشخوص الكارتونية فنجح في أن يقدم لنا فيلمًا عن الحب والحياة والحرية باللون الأزرق، الأكثر دفئًا.

* ناقدة وصحفية من مصر

Visited 238 times, 1 visit(s) today