فيلم “المَصرفيّ” والنضال الإنسانيّ للسُّود الأمريكيِّين

Print Friendly, PDF & Email

إذا رأى طفل لمْ يتشكَّلْ وعيه بعد بمُشكِّلات الوعي من الثقافة المُحيطة، والديانة، والعادات والتقاليد طفلاً آخر أسود البشرة فقد يلحظ هذا الاختلاف في اللون، لكنْ سرعان ما سينسى هذا الاختلاف وسيبدأ في ممارسة الجانب غير المُختلف وهو الثابت الإنسانيّ أو المُشترك الإنسانيّ. لكنَّ الطفل نفسه إذا رأى مجتمعه يفرِّق بين الإنسان وأخيه، ويفتِّت هذا المشترك الإنسانيّ على أساس قشرة خارجيَّة فلا يكون اللوم عليه وحده بل على المجتمع كلِّه. فيلم The Banker يناقش تلك المسألة مناقشة جادة، تمتاز بعمل إخراجيّ مُتقن، وبصورة سينمائيَّة ممتعة ومريحة في تجربة لا تكرر كثيرًا.

فيلم “المَصرفيّ” من إنتاج عام 2020، اشترتْه شبكة “آبل” لتقدِّمه لجمهورها مُنافسة به “نتفلكس”. كتب له السيناريو براد كين، بمشاركة مُخرج الفيلم جورج نولفي. وقام بأدوار البطولة النجم الكبير صمويل آل جاكسون، أنتوني ماكي، نيكولاس هولت.

تدور قصة الفيلم المُستقاة من الواقع في ستينات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة؛ حيث دارت مضايقات عديدة، بل جولات حرب بين الاتحاد الائتمانيّ الفيدراليّ وبين اثنين من ذوي البشرة السمراء هما جو موريس (صمويل آل جاكسون)، وبرنارد جاريت (أنتوني ماكي). هذه الحرب التي صعدت إلى أعلى مستويات التداول في الكونجرس الأمريكيّ؛ لمْ يكن سببها أنهما اقترفا جرائم أو احتالا على البشر بل أنها أسودا البشرة ولا يصح أن يكونا على قدم المساواة مع بِيض البشرة المستولين على عالم المال والأعمال، بل على جميع القطاعات الأهمّ في الدولة الأمريكيَّة.

بدأ الأمر كله حينما حاول طفل صغير يدعى “برنارد” أن يحلن بأن يكون إنسانًا! .. إنسانًا يمارس حياته ويدير أعمالاً خاصة به، ويدخل إلى عالم العقارات والأعمال. مؤمنًا أنَّ هناك حُلمًا أمريكيًّا يعطيه الأمل في ذلك؛ رغم تنبيه الجميع حوله بأنَّ الحلم الأمريكيّ الذي يعيشه مجرد هُراء لن يساعده على أرض الواقع، فالواقع ضدّ الحلم حتى لو كان حلم الدولة التي كانت تسيطر على جزء كبير من العالم آنذاك (صاحب النفوذ الأكبر ساعتها كان عدوها الاتحاد السوفيتيّ). يبدأ برنارد في تدبير الأموال مع تعلمه أصول المال والحسابات والمصرفيَّة يبهر أباه بقدرته على التعلم حتى يصعقه بكلمة هادئة وقاسية في الآن نفسه: لقد ولدتَ باللون الخطأ!

يستطيع أن يعقد اتفاقًا هو الأول في حياته، ثم يشارك جو موريس. ويبدآن سويًّا في الاستيلاء على أجزاء واسعة من بنايات “لوس أنجلوس”، ويستدعيان الشابّ الصغير مات شتاينر (نيكولاس هولت) ليكون واجهتهما في التعاقد لسبب واحد فقط أنّ بشرته بيضاء. وينجحان نجاح البرق في السيطرة العقاريَّة حتى بنايات البنوك العُظمى. ثمَّ تطرأ فكرة على عقل برنارد هي العودة إلى موطنه في “تكساس” لشراء بنك هناك، يحاول صديقه الوقوف أمام رغبته مُحذرًا؛ لكنَّ طموحه يدفعه إلى التقدم. ويرينا الفيلم الصعوبات التي مرَّتْ بها التجربة من لحظة البدء إلى لحظة التفكير في استثمار “تكساس”، وما الذي ستؤدي إليه هذه الخطوة الخطرة.

الفيلم تأليفه يمتاز بتعدد في الأزمان، وعدم استواء في السرد. حيث يبدأ بلحظة من لحظات المحاكمة في الكونجرس، ويظلّ يتأرجح بين الثلاثينيات والخمسينيات والستينيات. لكنَّ المؤلفين استطاعوا تضمينه مجموعة من المواقف التي تدلُّ على ما يريدون التعبير عنه وقوله. لكنَّ أميز ما في تأليف الفيلم عنصران الأول هو الجُمل الحواريَّة المؤثرة بل بالغة التأثير في المشاهد، والتي أجراها المؤلفون كثيرًا على ألسنة شخصياتهم. والعنصر الثاني هو قدرة الفيلم على بثّ روح الفكاهة والكوميديا في تلك الدراما المعقدة التي تتناول موضوعًا مأساويًّا بالأساس، بل لولا هذه الروح لعُدَّ هذا الفيلم من تمثيليَّة مأساويَّة بامتياز.

لكن قد نلحظ في مراحل كثيرة أنَّ الفيلم يتحرك أسرع مما قد يحتمل السياق، وكذلك أسرع مما قد ينفعل به المشاهد. فهناك ميزان دقيق به نُفرِّق صانع الدراما الجيد من الأقلّ جودةً أحد معالمه الأساسيَّة هو إيقاع الأحداث. لا أقصد به إيقاع الإخراج الذي يتحكم به المخرج ولا يتعلق بعمل المؤلف وإنْ كان مؤثرًا عليه جدًّا. فقد يُظلم مؤلف بإيقاع المخرج الذي اختاره أو وقع فيه بالرغم عن إرادته. وهذا الفيلم أسرع من اللازم خاصة في لحظات الانتقال التي يُرينا فيها ما حدث. ومما قد يُلحظ أيضًا أن الفيلم ذو أحداث متوقعة تمامًا؛ فمَن اعتاد على مشاهدة الأفلام أو متابعة الدراما سيتوقع توقعًا تامًّا ما سيحدث وسيأتي توقعه على ما كان بلا اختلاف. ولمْ يبذل المؤلفون جهدًا في ذلك لأنَّه فيلم دراميّ مقصود منه المعاني، وأيضًا لأنهم أودعوا فيه جرعات لا بأس بها من الكوميديا والمرح.

وقد يسأل عقل المشاهد العربيّ -البعيد عن سياق الأحداث- عن خصوصيَّة ولاية “تكساس” في مسألة لون البشرة. ولا خصوصيَّة لها إلا أنَّها من ولايات الجنوب في الدولة؛ ومنذ قرنين وأكثر قبل الأحداث هنا خلاف شديد بين ولايات الجنوب وولايات الشمال في مسألة الرِّق أو العبيد. فولايات الشمال كانت تحاول القضاء على مسألة الرق، وولايات الجنوب كانت مُصرِّة على استرقاق ذوي البشرة السوداء، على أساس نظريات مُرسَّخة في العقليَّة الغربيَّة عامةً منذ قديم الزمان، والتي دعَّمتها بعض النظريات الحديثة مثل نظريَّة “التطور”. فكيف يكون هذا المُلوَّن (الأسود، أو غير الأبيض مثل الهنود) مساويًا لنا نحن البيض الأمريكيين؟!! .. وقد كان هذا السبب أحد الأسباب التي ألهبت الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة.

وقد ظلَّت مسألة تميُّز البيض على السود حتى يومنا هذا. ونرى جميعًا أنَّ الإنتاج السينمائيّ يشجع على الأعمال التي تقاوم هذه الفكرة، بل إنَّها سبب يتدخل في حسم قرارات الجوائز السينمائيَّة لصالح الأعمال التي تنتصر للمساواة والتطبيع (إنشاء علاقات طبيعيَّة) بين البيض والسود. وهذا يدلُّنا أشدّ الدلالة على عدم تجاوز العقليَّة الأمريكيَّة حتى يومنا هذا مسألة اختلاف لون البشرة، ومسألة اعتقاد الأمريكيّ -والغربيّ عامةً- أنَّه أفضل البشر جميعًا، وأنَّ كل البشر دونه في الحقوق والواجبات، بل له أن يقهر الجميع وأن يجور على حقوقهم؛ لأنَّهم أصلاً -في نظره- لا يتمتعون بهذه الحقوق.

عمل المخرج في الفيلم لمْ يقتصر فقط على أساسات مهنته الإخراجيَّة التي كانت على خير ما يُرام. فقد امتاز الفيلم بإدراك كامل لمتطلبات المرحلة الزمانيَّة، واختيار بارع لمحلات التصوير، وتنويع في زوايا التصوير، وتحريك ممتاز للكاميرا بل إنّ بعض المشاهد ذات تنفيذ بالغ الصعوبة، وإخراج يعزز المعاني لا ينقل فقط الصورة للمشاهد، وغيرها كثير من تلك الفنيات التي يتميز بها عمل المخرج.

لكنَّ أبرز ما أضافه الإخراج للفيلم هو عنصر الإبهار الذي قلَّما يُركِّز عليه مخرج فيلم الدراما. فمخرج الدراما دائمًا يعتمد على قوَّة الدراما نفسها، وينقاد لها مُكتفيًا بها عنصر جذب رئيس لانتباه المشاهد ولعينه. في هذا الفيلم أضاف المخرج عنصر جذب آخر هو الصورة السينمائيَّة المُبهرة. وهذا ما قد لا يختلف عليه اثنان، بل قد تشاهد العين هذا الفيلم وتشعر بأنَّ شيئًا غريبًا جديدًا فيه يجذبها إليه غير سير الأحداث.

صنع المخرج هذه الصورة السينمائيَّة من عنصرين؛ أحدهما أثناء تصوير العمل وهو اعتماد الكاميرا المتحركة لا الثابتة في المشاهد، وثانيهما -وهو الأهمّ- بعد التصوير هو تلوين المشاهد. ولعلَّ النظرة الذكيَّة لهذا الأمر ستذهب إلى أنّ الفيلم أصلاً يتناول قضيَّة التلوين وذوي البشرة السوداء، كما أن غالب الممثلين في الفيلم ذوو بشرة سوداء. وبالقطع محلّ التصوير (الشيء الذي يتم تصويره) له دور الأكبر في اختيار منظومة الألوان التي ستعتمد أثناء عمليات معالجة الألوان بعد التصوير (التي تُسمَّى عندنا بعمليَّة التصحيح اللونيّ). وقد لعب به المخرج دور الإجادة في الإشراف على تلوين المشاهد؛ والذي أمتع به العين الناظرة إلى أيَّة لقطة في الفيلم. وليست الألوان فقط هي العنصر الأكيد في التأثير، بل درجة التشبُّع اللونيّ كذلك كان لها دور كبير في إكمال الصورة السينمائيَّة المبهرة.

الممثل الصغير في السنّ “نيكولاس هولت” استطاع خطف الأضواء من الأكبر منه سنًّا “أنتوني ماكي”، والذي أدّى بدوره أداء مبهرًا. لكنْ لا أحد يستطيع خطف الأضواء من “صمويل آل جاكسون” الذي هو وحده يستحق الدراسة والتدقيق كحالة سينمائيَّة فريدة. فهو من نوع الممثلين الذين إنْ ظهروا عرضًا في آخر كادر الشاشة فسيترك تأثيرًا عميقًا، إنَّه هذا النوع الذي يمكن تصنيفه تحت اسم “الأشدّ تأثيرًا”، ولا شكّ في تأثيره البالغ الذي أضافه للفيلم. الذي هو بالعموم فيلم يستحق احترامك ومشاهدتك؛ لقيمته المعنويَّة والتمثيليَّة أيضًا.

Visited 91 times, 1 visit(s) today