فيلم “الكونت” لبابلو لارين: تاريخ الجنرال كمهزلة


في فيلمه الأخير “الكونت”
El Conte قدم المبدع والمخرج التشيلي “بابلو لارين” معالجة فنية بالغة العمق من حيث ابتداعه لتوليفة سينمائية مستحدثة، بارعة، لنجد أنفسنا أمام لغة سينمائية تقوم بما يشبه الانقلاب السينمائي على نحو يتيح إعادة قراءة واحدة من أهم سرديات التاريخ الإنساني المعاصر.

إنه يقفز إلى إعادة صياغة السردية التاريخية ذاتها في إبداع ذكى يقدم قراءة أكثر عمقا لجوهرها، بل يجعل مشاهده على حافة الكشف عن القوانين التي تحرك تلك السردية عبر رؤية جسورة وعميقة لظواهرها استطاع لارين من خلالها إنتاج ما وراء حقيقة واحد من أشهر وأفظع الطغاة في التاريخ الإنساني الحديث وهو الجنرال التشيلي اوجستو بينوشيه الذى حكم شيلى في الفترة من عام 1973 إلى عام 1990 بانقلاب عسكرى دموى دبرته ودعمته الولايات المتحدة الأمريكية.

هنا نجد أنفسنا أمام سردية لا تلتزم برؤية تقريرية لأحداث التاريخ بل تتجاوز واقعية أحداثه لتضعنا أمام مهزلة سردية تمت بجذورها إلى أحداث ماض سحيق، وتواصل خلودها الحاضر على شكل مهزلة تحلق نذرها كالوطواط الطائر متجسدة في شخص الجنرال بينوشيه الذى سيطل علينا تكرارا عبر شريط الفيلم وهو يحوم في السماء بأجنحة الرداء العسكري المرصع بالأوسمة والنياشين والرتب العسكرية الفخمة.

الجنرال بينوشيه، أو “الكونت”، كما يناديه المقربون، طبقا لفيلم بابلو لارين، ليس إلا مصاص دماء في استلهام ذكى لكلاسيكية مصاص الدماء التي ظهرت في السينما العالمية منذ الفيلم الألماني الصامت “نوسفيراتو” عن رواية “دراكولا” للكاتب برام ستوكر، وأخرجه فريدرك مورناو عام 1922، ثم تكررت موتيفة مصاص الدماء كثيرا على مدار تاريخ السينما العالمية وإن كان لارين قام بإعادة تشكيلها ودمجها في موتيفات أخرى كموتيفة “بات مان” أو هتلر، ومن ثم أعاد توظيف الناتج في خلق نسخة شديدة الخصوصية والحداثة لمصاص الدماء من طراز نوعى فريد هو بينوشيه مصاص الدماء الخالد الذي لم يولد في 1915 كما تقول الوثائق الرسمية التشيلية، بل ولد في الفيلم عام 1766 في فرنسا، أي منذ مائتين وخمسين عاما، وقبل قيام الثورة الفرنسية بعقدين ونصف تقريبا، وقد حملت فيه والدته العاملة الزراعية البريطانية التي تعمل في حقول العنب الفرنسية  مارجريت هيلدا روبورتس سفاحا من مصاص الدماء ومهرب العبيد الإنجليزى “ستروجوى” الذي عقرها في عنقها أثناء اغتصابها في فرنسا، لتصبح هي الأخرى مصاصة دماء في استخدام محدث.

إذن فبينوشيه قد ولد كمصاص دماء وفقا لتلك الجينات التي ورثها كطبيعة متأصلة يتصرف بمقتضاها طوال الوقت ولكنه مصاص دماء مختلف في كونه لا يحمل أي جوهر إنساني، ولا يحمل في داخله أي عقدة إنسانية مستحدثة دفعته ليكون مصاص دماء، أو أى دافع من الكراهية أو حتى الشر الأخلاقي الذي يبرر نهمه اللامحدود في اقتلاع القلوب الآدمية من ضحاياه وأكلها ليظل قادرا على امتلاك القدرة على البقاء والتمتع بالحيوية والخلود معا.

يبدأ الفيلم بكادر مظلم تماما تنطلق في خلفيته موسيقى مارش عسكري، ثم  يفصح الكادر عن اسطوانة تدور على جهاز الفينوجراف مطلقة تلك الموسيقى التي نستمع إليها وتذكرنا عادة بتلك اللحظات السابقة للإعلان عن بيان عسكري هام أو الإعلان عن حادث حربي مفجع أو ضخم، كشاشة افتتاح للفيلم تتدفق في مقدمتها أسماء صناع الفيلم وأبطاله والمشاركين فيه وبقية عناصره الفنية، ثم تستعرض صور ومقتنيات الجنرال الطاغية بينوشيه أي أنها تركز على شخص يصحو من نومه كتوطئة لظهور اسم الفيلم “الكونت” وسط كادر يحدد المكان الذي هو أقرب لمنزل ريفي في منطقة جرداء تماما تحت سماء غائمة تنذر بأحداث مأساوية، دلالة على أن شريط الفيلم لا ينتظر حتى تبدأ أحداثه بعد الانتهاء من تترات الفيلم، بل أن التترات هنا تتجاوز وظيفتها في كونها أداة تعريف بصناع الفيلم إلى وظيفة خلق مجال حيوي يدخل بنا مباشرة إلى أجواء الفيلم الذي اختار لارين أن يعتمد فيه على الأبيض والأسود حتى قرب بلوغ أحداث الفيلم نهايتها بقليل لتكون المشاهد الأخيرة بالألوان في لحظة تحول تقتضيها الطبيعة السردية للفيلم.

وطوال الفيلم لا يوظف بابلو لارين اللونين الأبيض والأسود ثم بالألوان في المشاهد الأخيرة ببراعة فقط، بل يوظف ويحرك على نحو سحري مبهر ثائر الأدوات السينمائية سواء في إعادة استخدامه للموتيفات الكلاسيكية التي أعاد تركيبها وإنتاجها وتوظيفها كأدوات شديدة الحداثة، أو بباقى الأدوات السينمائية، كشريط الصوت الممثل في استخدام مقطوعات الموسيقى العسكرية أو مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية أو مقطوعات الإنشاد الكنسي أو الجنائزيات، ومن الواضح أن تلك المقطوعات مجمعة من مؤلفات لـ “فيلفالدي وفيردي” وغيرهما، وقام بابلو أبالو واضع الموسيقى التصويرىة للفيلم بوضعها في سياق موسيقاه التصويرية البديعة، والتي تعد من أبرز العناصر الفنية الناجحة في شريط الصوت.

هناك أيضا صوت الراوية، مارجريت تاتشر، الذى يتدفق بنغمية متواترة، وتروي الفيلم من خلف مشاهده وتتجاوز ذلك إلى توصيف بعض الأحداث، وتقديم تفسيرات ذات مستويات مختلفة لها، كما لو كانت هناك يد مايسترو مقتدر تقود طبقاته في مستوياتها المتعددة بحيث يبدو أن استخدام “الراوية” في شريط الصوت يماثل العزف السيمفوني المتعدد والمتضافر النغمات في أداء صوتي مبهر للممثلة “ستيلا جونيت” يفوق آدائها التمثيلي في المشاهد التي أعقبت  خروجها لتجسد دور “مارجريت تاتشر” لتحكى حكايتها التي تفك بها ألغاز الفيلم وشفراته، وتفجر بها دلالاته التي تقدم جزءا رئيسا لقراءة الفيلم السياسية والفلسفية للتاريخ.
على نفس المستوى لا يحاول لارين أن يولد لدى مشاهده مشاعر رعب أو خوف تجاه هذا المصاص للدماء، ذلك لأن جميع المشاهد التي تظهر ما يمارسه الجنرال من قنص لضحاياه من البشر، قدمت لتفجر لدى المشاهد مشاعر السخرية لا الخوف، ليتأكد له طوال وقت شريط الفيلم أنه سردية على شكل مهزلة أو بمعنى أدق كوميديا سوداء.

إنه يستخدم موتيفات الخيال السينمائي لا لصنع فيلم رعب بل لإعادة تدويرها بحيث تنتج عنها أدوات شديدة الحداثة والنجاعة لتقديم سيرة فريدة للجنرال التشيلى ولتلك المكونات التاريخية والتحولات الإجتماعية وتياراتها العالمية المصاحبة لسيرته الطويلة عبر مائتين وخمسين سنة، كمصاص دماء، أي ككائن ضحل وأجوف تقدمه أحداث ومشاهد الفيلم.

سيتضح لنا بمتابعة السردية، من نقطة بدء في عام 2006 حيث تاريخ إعلان وفاة الجنرال رسميا، ومن ثم تكشف المعالجة السردية أن بينوشيه “الحقيقى” ، بعد أن نجح في خداع التشيليين وأفلت بجميع ثرواتهم التي نهبها من دمائهم دونما عقاب، قد خدع العالم بإعلان وفاته لنكتشف أنه قد اختلق قصة رحيله ليقوم بعدها بنشاطه الإعتيادي كفاشي ومصاص دماء.

إنه يحلق كغراب أسود في السماء، ويهبط على الأرض بكامل هيئته العسكرية لينقض على ضحاياه بخنجره في رحلات وانقضاضات متتابعة يصطاد خلالها القلوب البشرية وينتزعها من الصدور التي يشقها بخنجره، ليضعها وهى لاتزال طازجة ترجف بنبضاتها في خلاطه الكهربائي، ومن ثم يقوم بشربها بانتشاء ونشوة تشبه تماما لذروة الانتشاء الجنسي.
لا يعتمد لارين التسلسل المنطقي للسرد ففي هذه الكوميديا السوداء لا يوجد مجال لتسلسل الأزمنة، بل أن أزمنة الأحداث في الفيلم ستسير كما لو كانت تمر من خلال منشور كاسر للضوء يكسر سياقاتها وتراتبياتها وفقا للتسلسل الزمنى التقليدي.

الفيلم لا يبدأ من بداية ويصل إلى عقدة فتصل إلى ذروتها إلى أن ينفك حرجها مع النهاية وفقا للخط الدرامي التقليدي، فبعد تدفق المشاهد الأولى للفيلم ، في مكان ما من منطقة ريفية على ساحل المحيط هي مكان إقامة بينوشيه وزوجته لوتشيا هيرهارت في سنواته الأخيرة في شيلي بعد أن أصدر وزير داخليتها في عام 2000 قرارا بعدم جواز تسليم الديكتاتور للقضاء الأسباني الذى اصدر مذكرة التوقيف الوحيدة له.

تدور معظم الأحداث الرئيسية للفيلم في هذه المنطقة التي بدا فيها منزل بينوشيه ، كأحد منازل العصور الوسطى بأرضياته الخشبية وحوائطه التي تتكون هي الأخرى من ألواح خشبية متراصة عرضيا ومثبتة بقوائم خشبية رأسية تتوسطها نوافذ زجاجية تطل على أرض خالية تطل على المحيط الهادي ولا يغادر الجنرال هذه المنطقة إلا ليلا حيث يحلق في السماء لاصطياد ضحاياه فضلا عن انتقاله لمشاهدة القصر الجمهوري في مشهد سينمائي بارع حيث لا يجد الجنرال لنفسه تمثالا بين تماثيل قادة شيلي السابقين فيرى أن هذا غير عادل ومن ثم يختار لنفسه موضعا بين التماثيل ليقف منتصبا مزهوا بنفسه في كامل حلته العسكرية.

واللافت للنظر أن المنطقة المحيطة بمنزل الجنرال بينوشيه، منطقة جرداء إلا من مقصلة من طراز عصر لويس السادس عشر شبيهة بتلك المقصلة التي شهدت قطع رأس ماري أنطوانيت، تنتصب فيها ومجموعة من الشواهد والقبور في الطريق إلى مرفأ يشبه مرافئ قرون عصر الكشوفات الاستعمارية.

غير أن ذلك المنزل يحتوي على ثلاجة ذات فاترينة زجاجية ضخمة بعرض الحائط تتراص فيها القلوب البشرية المثلجة، كناتج عن اصطياد فائض عن قدرة مصاص الدماء على الاستهلاك، رغم أن راوية شريط الصوت، تسجل في أحد المشاهد ملاحظة أن بينوشيه لا يفضل إلا القلوب الطازجة المصطادة توا في لحظة قنصه للضحية.

ولكن هذه القلوب المثلجة قد تمثل قوتا يوميا لخادمه الروسي “فيدور كراسنوف” أو لأمه مصاصة الدماء مارجريت، عندما تقرر التوقف عن رواية أحداث الفيلم من شريط الصوت في مرحلة التجسد في الفيلم بصفتها “مارجريت تاتشر مصاصة الدماء” التي تقرر التدخل لإنقاذ ابنها من براثن الراهبة “كارمين” التي أرسلتها الكنيسة لحصر الثروات المهولة لحاكم شيلى المتقاعد بينوشيه والتي قد لا يتذكر بعضها.

وسنرى “تاتشر” تأتى فيما بعد محملة بمشاعر الغيرة كأم تجاه تلك الراهبة الكنسية التي دخلت بيته فاجتذبته جنسيا وصارت عشيقته، والفيلم في هذه المنطقة يقدم إشارات رمزية عن العلاقة التي كانت تربط بينوشيه بالكنيسة التشيلية، حيث ظلت الكنيسة التشيلية شريكة بالتواطؤ مع بينوشيه.

كارمين أو كارمينا أو “كارمينستا” كما كان يحلو لـ “بينوشيه” أن يناديها، هي فتاة ذات عينين حادتي الذكاء تطل منهما الجاذبية الأنثوية، رغم مظاهر الرهبنة التي تتجلى في ملابس الراهبات البيضاء والشعر المقصوص بدرجة كبيرة كشعر ناعم لصبى صغير، وقد جسدت دورها الممثلة التشيلية “باولا لوكيسنجر” ، وتقيم كارمين كراهبة في الكنيسة الكاثولوكية التشيلية التي ترسلها إلى منزل بينوشيه لمتابعة حصر ثروته المزمع توزيعها على أسرته.

ومن أول وهلة يقع الجنرال في عشقها للدرجة التي تصل به إلى أن يقرر بعدها، إقامة علاقة حميمية معها على سريرها في غرفتها المخصصة لها في منزله، وأن يلبسها باروكة شعر مماثلة لشعر مارى أنطوانيت ملكته الأثيرة التي حفظ ولاءه لها مدة مائتين وخمسين عاما، بل لم يتوقف عند ذلك فقام ليخرج رأس ماري انطوانيت التي احتفظ بها منذ أن كان الكونت كلود بينوش، ونبش قبرها في فرنسا وسرقها واحتفظ بها طوال عمره الممتد عبر هذه الفترة، ليهديها إلى الفتاة الراهبة كدليل على تقديم مشاعر الولاء لمليكته ومعشوقته الجديدة.

لكن الفتاة تنزعج معتبرة إياها نذير شؤم ، وهو الشؤم الذي سيتحقق بالفعل عندما تأتى أم “البينوشيه الكبير” وتعيد ترتيب حياة بينوشيه ويقطع خادم بينوشيه الروسى فيدور كراسنوف الطريق على احتمالات ابتزاز الكنيسة لأسرة بينوشيه بعد أن أصبحت الأوراق والعقود والمستنتدات والحوافظ المالية التي تمتلكها العائلة بين يدي الراهبة كارمين، ليجرها فيدور محملة على عربة اليد الحديدية الخاصة به إلى المقصلة التي تطل على الطريق إلى مياه المحيط، فيضع رقبتها تحت شفرة المقصلة التي ينزلها بحسم وهدوء فتقطع رأسها، ويقف ممسكا بها في مواجهة بينوشيه، فتكون تلك هي اللحظة التي يقرر فيها بينوشيه قتل خادمه الروسي في مذبحة عائلية تنتهى بقتل زوجته “لوتشيا هيرهارت” بالإضافة لمقتل فيدور الخادم الروسى.

وبغض النظر عن أن فيدور الخادم الروسي الذى نراه دائما في خلفية اجتماعات أسرة بينوشيه على مائدة الطعام أو اجتماعاتها التي تناقش فيها مع الجنرال كيفية إيجاد حصر معقول للثروات الطائلة التي تتوزع ما بين سندات وأموال وسبائك ذهبية وتحف وعقارات منتشرة في بقاع العالم لا يستطيع الجنرال تذكرها بمفرده، ففيدوركراسنوف الروسى هو خط درامي من اختراع المخرج بابلو لارين وشريكه في كتابة السيناريو الكاتب التشيلى “جويرلمو كالديرون” إلا أنه يعد أحد أبرز الشخصيات المحورية في سردية الفيلم، وتصفه راوية الفيلم في شريط الصوت المصاحب لمشاهد ظهوره في الأحداث كالتالي:

( فيدور كرسنوف .. إنه من الفصيل الروسي الأبيض، وقد قام بقتل الكثيرين من البلاشفة الروس انتقاما من الثورة البلشفية التي نفت أسرته .. كان معلما للمختصين بالتعذيب في تشيلي، وكنوع من الشكر والتقدير لخدماته وإخلاصه عضه بينوشيه في ساقه ليمنحه الخلود كمصاص دماء).  

وفي مشهد آخر وضمن حوار بين إحدى بنات بينوشيه والراهبة كارمين مبعوثة الكنيسة الكاثوليكية التشيلية تقول ابنة بينوشيه لكارمين: (لكنك تدركين أن كراسنوف رجل متوحش لديه خصية واحدة فقط مثل هتلر).

وفي مشهد آخر عندما تحقق معه الراهبة كارمن في مجريات حصرها لثروة بينوشيه لحساب الكنيسة، يدور بين الفتاة الراهبة كارمن وفيدور الحوار التالي كجزء من ابتزاز الكنيسة لعائلة بينوشيه، ليكشف هذا الحوار عن المزيد للمشاهد عن طبيعة فيدور كراسنوف كأحد أدوات الطاغية بينوشيه في قتل وتعذيب الآف المسجونين من ضحايا حكمه في شيلى ..  

تقول كارمن: (انك اتهمت بقتل أكثر من 300 سجين، لابد أنك فخور بذلك).

فيرد الخادم فيدور: (أنا برئ تماما).

فتقول له: (حكم عليك بالسجن بمجموع أحكام 865 عاما، أجهل كيف تكون هنا .. لابد أن هناك شخصا يشبهك تماما ويحمل اسمك يقضى عقوبتك في السجن الآن بدلا منك).

وهنا إشارة لا تخلو من دلالة بليغة للمفارقة الهزلية المتمثلة في نجاح بينوشيه وأقرب أعوانه في الإفلات تماما من العقاب عقب انتهاء حقبة حكم بينوشيه.

فيدور كراسنوف الذي جسد دوره الممثل التشيلى البديع “ألفريدو كاسترو” هو خادم بينوشيه الأثير وكاتم أسراره وأسرار أسرته، وتصل مجريات سردية كراسنوف لدرجة أن يصبح عشيقا لزوجة بينوشيه التي تستنفد محاولاتها لحمل الزوج بينوشيه على عضها لتحصل على الخلود وتستمتع بحياة الرفاهية والبذخ الملكي إلى ما بعد مائتين وخمسين عاما كمصاصة دماء، كما يعيش الجنرال العجوز.

وتنجح “هيرهارت” في إقناع فيدور بطل علاقتها الغرامية السرية التي لا يجهلها الجنرال في أن يعضها في رقبتها، بعد أن تشكو له رفض مصاص الدماء الأكبر بينوشيه أن يمنحها تلك العضة، بمبرر أنه برفض منح أى من افراد عائلته تلك العضة التي تؤدي إلى حياة خالدة يعيشها صاحبها كمصاص دماء تتجدد حيويته، طالما يعيش على اكل وشرب الدماء البشرية.  

انتقالا إلى مشاهد الجنرال وهو يرتدي حلته العسكرية المرصعة بالرتب والنياشين العسكرية، نراه وهو يقنص عامل نسيج ويلقيه على بلاط المصنع غارقا في دمائه ليشق صدره وينتزع قلبه الذي ينبض في قبضة يده، فيأخذه إلى الخلاط الكهربائي ليهرسه ويحوله لعصير يتجرعه بنهم ونشوة مصاص الدماء، وهنا يتجلى إقتدار “لاراين” في تلك اللقطة التي تتحول فيها الكاميرا إلى “اكستريم كلوز آب” (لقطة كبيرة للغاية) لنشهد تعبيرات وجه بينوشيه وعينيه اللتين تملؤهما لمعة من مشاعر النهم المختلطة بأحاسيس الإنتشاء في حين تنزلق الدماء من حافة دورق العصير المنكفئ بحوافه على كل منطقة فمه، بينما ينزلق شلال رفيع من الدماء على ذقنه الذي لا يبالى، في ظل لحظة نشوة عارمة يصورها لاراين في إبداع وبراعة استثنائية.

أو حين يهبط على مطعم مغلق لم يبق فيه مخلوق سوى عاملة النظافة التي تدرك قدوم الجنرال فتجحظ عيناها من الذعر وادراك القدر المحتوم، ثم ذلك المشهد الغارق في المأساوية للجنرال وهو يجر ضحيته الذبيحة على أرضية بلاط المطعم إلى أن تقترب الكاميرا في لقطة “كلوز آب” لنرى يديه المختبئتين في فردتى جوانتيه الأبيض تنتزع قلبها الراجف من صدرها الذي شقه في خنجره، ثم في لقطة كلوز آب تالية، وهو يلتهم القلب ويلوكه ماضغا ما تحت أسنانه في فمه المغلق من النشوة، حيث يقرر أن يلوكه ويمضغه على مرة واحدة، هذه المرة دون هرسه وعصره في الخلاط الكهربائى من فرط وحشيته وشغفه الذى تجدد إلى امتصاص الدماء بعد أن اقام علاقته الغرامية بالراهبة كارمين التي منحها عضة الخلود.

يفسر لنا السياق السردي علاقة تاتشر ببينوشيه، ولكنه في نفس الوقت يشير إلى دلالة عميقة، وهى أن سردية مصاصي الدماء تبدأ منذ بدايات التاريخ الاستعماري الرأسمالي، فعام 1766 هو العام الذى انتصرت فيه القوات الإنجليزية على اتحاد قبائل الهنود الحمر لتخضع امريكا للهيمنة الأنجلو سكسونية منذ هذا التاريخ.

وتتضح عبقرية لارين في جعل تاتشر مصاصة دماء وهى الأم التي أورثت ابنها بينوشيه، “قبل أن يذهب إلى شيلى”، جينات مصاص الدماء، أي أن  لارين يرى أن بينوشيه الذي أقام نظاما متوحشا من حيث السياسات النيوليبرالية التي طبقها في تشيلى بعد انقلابه الدموي على سلفادور الليندي هو امتداد طبيعي لمارجريت تاتشر التي أسست لبداية حقبة الرأسمالية المتوحشة بضربها للنقابات العمالية “عبر التشريعات التي قضت على الكثير من صلاحياتها وأفقدت بذلك العمال حقوقهم”.

 هنا يشير لارين إشارة دالة في عمقها ذلك أنه لا فارق بين نظام متوحش يأتي بصندوق الاقتراع وبين نظام يأتي بانقلاب عسكري، طالما كان التوحش الرأسمالي هو السمة الأساسية للنظامين، فكلاهما مصاص دماء على طريقته.


وفي المشاهد الأخيرة يتحول الفيلم نحو الإفصاح والصراحة اللونية من خلال التخلي عن الأبيض والأسود، فيظهر بينوشيه الطفل خارجا من انبوب حلزوني يبدأ معه تلوين الصورة، إيذانا بفاصل النهاية التي تحمل مفاجأة فنية ليست فقط في الألوان أو التلاعب بها بدءا من ظهورها الباهت إلى ظهورها بطريقة بنفس طريقة تلوين الأفلام الكلاسيكية القديمة، بل بمشهد متخيل لمارجريت تاتشر مصطحبة ابنها الطالب كلود بينوشيه، لتقف به أمام مبنى مدون عليه باللغة الأسبانية “اسكويلا دى لاس أمريكاس”.

ونستطيع من خلال البحث أن نستدل على أن هذا المبنى يعنى “مدرسة الأمريكتين” التي أسستها المخابرات المركزية الأمريكية في عام 1946 في بنما كمدرسة يديرها ويتولى التدريب فيها مدربون من البنتاجون “وزارة الدفاع الأمريكية” وقد تحول اسمها فيما بعد إلى “معهد نصف الكرة الغربي للتعاون الأمني” وكانت تتولى تدريب العسكريين في بلدان أمريكا اللاتينية على الإرهاب والاغتيالات السياسية، وتنفيذ الانقلابات ضد الأنظمة الشعبية المناوئة للولايات المتحدة الأمريكية في القارة الأمريكية الجنوبية.

ولنترك هذا الهامش الذى لابد منه ولنذهب لمشاهد الأبيض والأسود الأخيرة التي تنتهى بخروج أولاد بينوشيه على متن مركب تجر مركبتين محملتين بالتحف والأثاث الثمين والمقتنيات الفاخرة التي جمعوها من ثروة بينوشيه، بينما تتواجد تاتشر مع بينوشيه في قبو المنزل العامر بثروات لم تدركها بصيرة الأولاد الجشعون السذج.

وتقول تاتشر “فضل ابنى البقاء في هذا البلد المحطم “تشيلي” لم يكن لدى خيار فأطفال هذا العصر يفعلون ما يحلو لهم”!

Visited 10 times, 1 visit(s) today