فيلم “الجريمة”.. إعادة اكتشاف لأحمد عز ومفهوم الجريمة
بالرغم من إمكانياته التمثيلية الكبيرة اختار أحمد عز، منذ فيلم ملاكي اسكندرية، طريق النجومية لا طريق التمثيل، والفرق بين الاثنين كبير، فالممثل هو الفنان الذي تتوارى شخصيته الحقيقية خلف الشخصية الفنية التي يؤديها، أما النجم فهو، على العكس، الفنان الذي تطغى شخصيته الحقيقية على الشخصية الفنية بحيث يجد المشاهد نفسه أمام النجم الذي يحبه بكل صفاته ولزماته الذاتية التي يتوقعها وينتظرها منه باستمرار. وإدراك النجم لهذه الحقيقة يجعله حريصا على التواصل مع جمهوره بنحو مباشر، يحدث في كثير من الأحيان أن يأتي خارج السياق، حدث ذلك حتى مع النجوم القدامى الكبار مثل فريد شوقي وإسماعيل ياسين، اللذين كانا يتوجهان، في بعض المشاهد، بالحديث مباشرة إلى الجمهور.
ومن أبرز أمثلة النوع الأول كان أحمد زكي، ومن النوع الثاني كان عادل إمام، وهناك طائفة ثالثة نجحت في الجمع بين النجومية والتمثيل مثل نور الشريف. وفي الجيل الحالي يندر أن تجد هذه التوليفة، فالفنانون السينمائيون منقسمون إلى نجوم، وهم نجوم الشباك الذين يحتلون الصف الأول ويحققون الإيرادات مثل أحمد السقا وكريم عبد العزيز وأحمد عز، وممثلين، وهم غالبا نجوم الصف الثاني مثل فتحي عبد الوهاب وخالد الصاوي وماجد الكدواني.
والمفارقة أن نجوم الصف الثاني، الذين يتمتعون بقدرات تمثيلية عالية لا يتألقون إذا انفردوا بالبطولة بالقدر نفسه الذي يحدث حال اشتراكهم في العمل مع نجوم الصف الأول. والأمر يختلف بالنسبة لبعض النجوم الذين يمتلكون القدرة التمثيلية بجانب النجومية غير أنهم يمتنعون عن خوض مغامرة التمثيل حتى لا يخسرون جمهورهم ويفقدون نجوميتهم، ومن هؤلاء محمد سعد الذي فقد الاثنين معا وخرج من السباق منذ سنوات، وكريم عبد العزيز وأحمد عز اللذان مازالا يحتفظان بنجوميتهما، وفي الوقت نفسه هناك وعي منهما بأهمية التغيير والتحول من النجومية النمطية إلى النجومية المعتمدة علي التمثيل. وقد فعلها كريم في “واحد من الناس” و “الفيل الأزرق” وفعلها عز مؤخرا في “الجريمة”.
والحقيقة أن رصيد هؤلاء النجوم عند الجماهير يسمح لهم بالتغيير دون خوف، لأن المشاهدين لديهم الوعي لاستيعاب المختلف، كما أنهم يتعاطفون مع نجومهم ويحرصون على تشجيعهم في تجاربهم الجديدة، تشهد بذلك الإيرادات التي حققها كريم من قبل ويحققها عز في فيلمه المعروض بدور العرض الآن.
وفيلم ” الجريمة”، خلافا لكونه تجربة مختلفة لعز ولمخرجه شريف عرفة، يصعب على التصنيف، فهو يجمع بين الدراما البوليسية والنفسية، التي تدور في أجواء ليلية مقبضة، ما يحقق قدرا كبيرا من الإثارة والتوتر التي تصل إلى درجة الرعب في بعض المشاهد، فلا يمكن اعتباره فيلم رعب بالمعنى الدقيق، ولا يمكن اعتباره بالمنطق نفسه فيلم بوليسي، وإن كان يقترب أكثر من الدراما النفسية، خاصة أن عقدة الفيلم التي هي أساس الصراع بين الشخصيات تكمن في الوعي المضطرب لعز، الذي لا يميز بين الحقيقة والخيال.
تدور الأحداث، في السبعينيات، حول جريمة قتل يرتكبها رجل الأعمال عادل ( أحمد عز) ضد زوجته اللعوب نادية ( منة شلبي) ويظل شبحها يطارده طوال الفيلم حتى أنه يفقد صوابه ويدخل مصحة عقلية للعلاج، في الوقت نفسه يتتبع الضابط أمجد الحسيني ( ماجد الكدواني) خطوات عادل في محاولة لكشف غموض الجريمة. يعتمد السيناريو كثيرا على الفلاش باك، فمعظم التفاصيل الغامضة والملتبسة تحتاج إلى العودة للوراء لإلقاء الضوء على حقيقتها، فضلا عن أن أحداث الفيلم كلها يرويها رجل الأعمال المسن لابنه الشاب الذي جاء لزيارته في المستشفى عن طريق التذكر.
نجح عرفة، بصريا، في تصوير الأجواء الليلية المرعبة في كثير من المشاهد، خاصة تلك التي كانت تدور داخل المستشفى، أو في السراديب التي تحت الفيلا أو في البحر، فكلها مشاهد تحمل قدرا كبيرا من التوتر والغموض الذي يتسلل إلى نفس المشاهد فيجعله جزءا من الأحداث. ويحسب له أنه لم يزد من جرعة الرعب أو مشاهد الحركة، لأن القصة كانت معنية أكثر بالبعد النفسي لعادل، ومحاولة فك شفرات الفيلم دون تشتيت.
جاءت الملابس والديكورات معبّرة عن فترة السبعينيات، وإن كان اختيار هذه الحقبة الزمنية تحديدا لم يضف شيئا ذا أهمية كبيرة للأحداث عدا انتشار تجارة الهيروين، وهى تفصيله غير ذات دلالة، وكان يمكن أن تدور في أي زمن دون أن يؤثر ذلك علي الخيوط الأساسية للحبكة. وربما كان الاختيار راجعا لشيء ما حميمي في نفس شريف عرفه يربطه بالستينيات والسبعينيات، سنوات طفولته وصباه، فقد أخرج ” الممر” الذي تدور أحداثه أثناء حرب الاستنزاف في الستينيات، ويقدم الآن ” الجريمة” الذي يدور في السبعينيات. وربما الاختيار يرجع لضبابية الرؤية السياسية في هذه الفترة، وهي رؤية تتناسب والجو العام للفيلم الذي يرسخ للشك في كل شيء ويهدم كل محاولة تسعى إلى أن تصل لليقين!
الوقائع الغريبة التي امتلأ بها الفيلم وانتقالات السيناريو من مفاجأة لأخرى جعلت المشاهد يتوقع التواءه في نهاية الأحداث، وهو ما تحقق بالفعل غير أنها التواءه لا تمس صلب الأحداث ولا تؤثر في النتائج التي حصل عليها المُشاهد، لكنها تجعلك تعيد النظر في مدى مصداقية الوقائع التي سردها عادل لابنه.
لم تتطرق كاميرا شريف عرفة إلى تفاصيل الحياة في فترة السبعينيات، فلم نشهد طوال الأحداث سوى شخصيات الفيلم التي تدور في فلك الجريمة الغامضة التي ارتكبها عادل، ومنظر الفيلا الواقعة في مدينة “القصير” فوق أرض خلاء تحيطها الظلمة من كل جانب، وهو منظر أيقوني متكرر يرمز إلى شخصية عادل الغامضة المضطربة، الذي يشعر بالوحدة بالرغم من وجوده بين الناس.
يلعب الماضي دورا مهما في تعقيد شخصية عادل، ويفسر الكثير من تصرفاته العنيفة، وكذا الأشباح التي كانت تطارده في الصحو وفي المنام، فالأم كانت خائنة والجد كان قاسيا، وبين هذين القطبين مضت حياته، فقدان الثقة فيمن حوله من ناحية واستخدام أدوات القهر في تعذيب المخطئ في حقه ( الزوجة وخادم المنزل) من ناحية أخرى.
للماء والنار حضور قوي في الفيلم في جدلية رمزية تذكرنا بفيلم “جزيرة شاتر” لسكورسيزي، الذي كان يدور حول شخصية شبيهة تعاني من المرض النفسي المصحوب بالهلاوس، ولا يمكنها أن تميز بين الحقيقة والخيال. وعادل يتأرجح ما بين الصمت البارد والسلوك العنيف، ويقف في منطقة رمادية يرى فيها الدنيا من منظور مزدوج يجمع بين النور والظلمة.
نظريا يمكن أن نفهم الفيلم من أكثر من زاوية، لعل أبرزها أن الجريمة الأكثر بشاعة ليست تلك التي نرتكبها بأيدينا، لكن ما نورّثه لأبنائنا من كراهية تدفعهم لمواصلة الشر وارتكاب الآثام ضد الآخرين. ومن زاوية أخري يمكن أن نفهمه باعتبار أن الحقيقة ليست فقط ما يحدث في الواقع، لكن ما ندركه بحواسنا حتى لو كانت عليلة، وما نستشعره في نفوسنا حتى لو كانت مريضة، فالحقيقة اعتقاد قبل أن تكون واقعا فعليا.
على مستوى الأداء، كان الفيلم بمثابة مباراة في التمثيل بين الثلاثي أحمد عز وماجد الكدواني ومنة شلبي، وقد أجاد عز في لعب دور عادل في مراحله العمرية المختلفة، وكان الدور المعقد فرصة لإبراز قدراته التمثيلية التي ظلت متوارية لسنوات خلف أدوار الحركة التي لم تضف إليه كثيرا، وإن ساهمت في تحقيق النجاح والشهرة الجماهيريين حتى بات متربعا على عرش النجومية خاصة بعد انسحاب محمد رمضان والتوقف المؤقت للسقا وكرارة وقلة أعمال كريم عبد العزيز. وكان ذكاء من عز أن أختار دورا فيه تمثيل، ولا يخلو في الوقت نفسه من التشويق الذي اشتهرت به أعماله منذ بداياته الأولى.
وعن ماجد الكدواني لا يمكن لأحد أن ينكر موهبته التمثيلية الكبيرة التي نمت تدريجيا حتى اختمرت وصار لها ألقا خاصا يستشعره المُشاهد في كل أدواره بفضل أدائه الواثق وكاريزمته الجذابة التي حفرها في وجدان الجمهور. وفي هذا السياق، نجح الكدواني في أداء دور الضابط الذي يجمع بين حدة الذكاء وخفة الظل، ويكفي أن المُشاهد كان ينتظر مشاهد الكدواني حتى يخرج من ضغط الصراعات التي كانت بين عز ومنة شلبي، فيلتقط أنفاسه من ناحية ويمنح نفسه الفرصة للتفكير مع الضابط في خفايا الأحداث الملغزة من ناحية أخرى.
أجادت منة شلبي في دور الزوجة القوية اللعوب، والتي كشفت الأحداث أنها ليست لعوب على مستوى الرغبة والجسد فحسب، لكن على مستوى الطموح والتفكير كذلك، بحيث ظهر في النصف الثاني من الفيلم أنها كانت العقل المدبر للكثير من الأحداث والمواقف، وأن الشخصيات الأخرى، الأب والأخ والزوج، كانت تدور في فلكها بنحو غير واع. وفي كل الأحوال، لا يمكن أن نغفل دور شريف عرفة وقدرته على إدارة الممثلين واستخراج أفضل ما فيهم، ولن ننسى الشكل الذي قدم به السقا في “الجزيرة” وشريف منير في “أولاد العم” ومحمد هنيدي فى “الإنس والنمس”.
وبهذا المعنى، يُعد فيلم “الجريمة” بمثابة إعادة اكتشاف للممثلين، ولمعنى الحقيقة، ولمفهوم الجريمة، كما يعد تجربة سينمائية مبشّرة ونحن علي أعتاب عام جديد.