فيتوريو ستورارو: ترجمة الأفكار بصرياً
ترجمة: أمين صالح
أجرت الحوار المخرجة السينمائية يونكا تالو في يناير 2017 ونشر في المجلة الأميركية Film Comment. تالو نشأت في اسطنبول، وهي الآن تعيش في نيويورك.
التأمل في أعمال مدير التصوير الإيطالي فيتوريو ستورارو هو بمثابة رحلة عبر تاريخ السينما الحديثة في صورتها الأرفع والأروع. هو صاغ مظهرَ بعضٍ من أكثر الأفلام بروزاً وأهمية في النصف الثاني من القرن العشرين، من بينها الممتثل The Conformist (1970) القيامة الآن Apocalypse Now (1976) الحمر Reds (1981) الإمبراطور الأخير The Last Emperor (1987).
من خلال تعاونه مع مخرجين بارزين مثل: برتولوتشي، كوبولا، كارلوس ساورا، وارن بيتي وغيرهم، قدّم ستورارو رؤيته في التصوير السينمائي والتي تحتفي بوحدة الأضداد أو النقائض: النهار والليل، الحياة والموت، الخير والشر. سواء في استخدامه المسرحي، المثير للأعصاب، لطريقة توزّع الضوء والظل كمجاز بصري لإيطاليا الفاشية في “الممتثل”، أو تصويره المثير للعاطفة لتطور هوية إنسان من خلال رمزية اللون في “الإمبراطور الأخير”، هو استطاع أن ينتج صوراً جريئة، مشحونة فلسفياً، من كل سيناريو قام بمعالجته.
مسلّماً جدلاً بأن السينما تمثّل تركيباً لكل الفنون، هو على نحو متواصل يهدف إلى نقل الإمكانيات الموسيقية والتشكيلية للصور المتحركة، مازجاً ومناوباً بين التعبير الباروكي والتعبير الرومانتيكي لنفسية الإنسان وعاطفته في بحثه عن السامي والجليل.
في هذا الحوار، يتحدث ستورارو عن مفهومه الفلسفي بشأن التصوير السينمائي، وتعاونه مع وودي ألين في فيلمه Café Society (2016)..
– هذا الفيلم من أكثر أفلام وودي ألين أسلبةً. تصويرك الأثيري والمترف يأسر بقوة فتنة وسحر واصطناعية هوليوود في عصرها الذهبي، في الوقت ذاته، يوجّه تحية تقدير وثناء إلى الأفلام الوفيرة، المليئة بالحيوية، التي أنتجت خلال تلك الفترة. حول ماذا دار النقاش الأوّلي مع وودي ألين؟
* في البداية، قال لي وودي: “اقرأ السيناريو، أنا واثق من أنك ستجد بعض الفرص البصرية”. لأن ذلك كان اهتمامي الرئيسي. في الواقع، عندما قرأت السيناريو، مباشرةً قمت بتحديد الفارق بين القسم الأول للفيلم، والذي يدور في منطقة برونكس العام 1935، والقسم الثاني الذي فيه بطل الفيلم ينتقل إلى هوليوود، إلى عالم مختلف تماماً. ذلك منحني احتمالين بصريين مختلفين منذ البداية، وقررت أن أوازن بين هذين العالمين.
في الحقيقة، أنا لا أحب أبداً تصوّر الأفلام اعتماداً على فكرة واحدة، لأن هذا يجعل الفيلم مسطحاً. في رأيي، للتصوير السينمائي القوة ذاتها التي تمتلكها الموسيقى في توصيل المشاعر. التصوير السينمائي، من خلال العلاقة بين الضوء والظلال، وعلاقة الألوان المختلفة على الطيف اللوني، بإمكانه حقاً أن يوصّل العاطفة. القصة لن تكون أبداً على الخط أو المجرى نفسه.. للقصة حركات، مثل الموسيقى.
إذن ذلك ما كنت على الدوام أبحث عنه: أن أصف بصرياً النوع نفسه من العاطفة كما الموسيقى. أعتقد أن السينما تغذّي نفسها من فنون عديدة، لكن الأصناف الثلاثة الرئيسية هي: الصورة، الموسيقى، الحالة النفسية. عندما يكون لديك توازن بين هذه العناصر الثلاثة، تستطيع حقاً أن تنقل رسالة جيدة إلى الجمهور، لأنهم يتلقّون معلومة بصرية وسمعية عن القصة بالإضافة إلى الذبذبات العاطفية.
لذا حالما أدركت الانقسام في السيناريو، فإن أول شيء فعلته كان محاولة فهم المرحلة الزمنية، لأن الثلاثينيات (من القرن العشرين) في الولايات المتحدة كانت مختلفة عن الثلاثينيات في إيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا. كنت أنظر إلى الكثير من المراجع: اللوحات التشكيلية، الصور، الأفلام، الموسيقى.. كل ما يمكن أن يهبني أفكاراً لتأملها. بالطبع، سوف لن تلجأ إلى تقديم تمثيل فاتر للمرحلة، إذ يتعيّن عليك دائماً أن تكون متصلاً بالقصة. كل شخصية لديها حياتها الخاصة، بالتالي أنت تحاول أن تضعها في مركز ما ضمن المرحلة الزمنية وترى كيف هي تتفاعل. عندما تذهب الشخصيات إلى مكان ما فإنها تجلب معها ليس فقط ذكرياتها بل أيضاً عاداتها، وما تعرفه. لذا حينما ينتقل بوبي إلى هوليوود فإنه يحمل معه شيئاً من منطقة برونكس.. حياته الداخلية. عندما يذهب إلى هوليوود يرى كيف يعيشون هناك، بحيث أنه عندما يعود إلى بيته فإنه يحمل ما تعلّمه. المعرفة ليست شيئاً ثابتاً أو راسخاً أو خطياً.
– إنه جرافيك متقلّب..
* تماماً. إذن تلك كانت فكرتي: أن امتلك تصوّراً لمنطقة برونكس، وتصوّراً لهوليوود. عندما تنتقل الشخصية، ذهاباً وإياباً، بين الأماكن، فإنه ينقل أشياءً، مثل الإحساس بالشمس، القمر، الإضاءة الاصطناعية والإضاءة الطبيعية، من مكان إلى آخر. كنت احاول أن أجلب هذا الجزء الجديد من المعرفة داخل كل مشهد.
إني أرغب في حثّ المصورين الشبان على فهم أن السينما لم تبدأ اليوم، إنها لا تبدأ لحظة ضغطهم على زر التسجيل في الكاميرا الرقمية (الديجيتال). هناك تاريخ طويل يربطنا بالبدايات، ومن المهم أن يفهموا من أين جاءوا. لقد التقيت بمخرجين شبان لا يعرفون شيئاً عني وعن أعمالي، وعندما ذكرت لهم اسم برناردو برتولوتشي، لم يعرفوا من يكون. قلت لهم: لحظة من فضلكم. أنتم ترغبون في أن تكونوا مخرجين، مع ذلك لا تعرفون من هو برتولوتشي؟! كيف يمكن ذلك؟ أستطيع أن أفهم عدم مشاهدتكم لكل أفلامه، وربما شاهدتم له فيلماً واحداً فقط، أو ربما سمعتم عنه، لكن يستحيل أن أتصوّر أنكم حتى لا تعرفون اسمه.
– أنا درست في معهد السينما، ومثل هذا الجهل شائع جداً هناك..
* الشيء نفسه حدث مع المصورين. إنهم يستخفّون بكل ما تم إنجازه حتى هذه اللحظة. صحيح أنك عندما تنتقل من تكنولوجيا إلى أخرى، تجد نفسك أمام أنواع مختلفة من المعرفة، لكن القاعدة تظل نفسها دائماً، وعليك أن تبدأ مع تلك القواعد أو المبادئ.
– في العام 2010 ألّفتَ كتاباً متعدّد الأجزاء بعنوان “الكتابة بالضوء”، والذي من خلاله قدّمت رؤية شاملة لمسيرتك الفنية. هل كانت عملية الكتابة، بشكل أساسي، فرصة لك لتعيين وضعك في تاريخ السينما والفنون البصرية؟
* ليس هذا فحسب. السبب الذي دفعني لكتابة هذا الكتاب هو لأنني اكتشفت، عند مرحلة ما في حياتي، بعد أن قضيت تسع سنوات وأنا أدرس في معهد التصوير، أنني على اطلاع جيد في مجال التقنية لكنني لم أكن أعرف شيئاً عن الفن. وعندما اكتشفت ذلك، قلت لنفسي: “يا إلهي، لديّ ساق واحدة فقط”. لذا شرعت في فعل كل ما استطيع – القراءة، الاستماع، المشاهدة – من أجل اكتساب الوعي بالماضي والأشكال الفنية الأخرى.. ذلك لأن السينما باستمرار تغذّي نفسها من الفنون الأخرى. وكنت شخصاً جاهلاً. لذلك قلت لنفسي: “أظن أنني بحاجة لأن أدوّن بحوثي”. الكتاب ليس عن نفسي، بل عمّا تعلمته من الفلاسفة. لذلك شرعت في الكتابة والتقاط الصور الفوتوغرافية، لأنني في النهاية مجرد كاتب بالصور وليس بالكلمات. لكن بدرجة رئيسية، كنت أجمع معاً أفكار العديد من الفلاسفة.
– مثل من؟
* فتجنشتاين، أفلاطون، أرسطو، وكل من أنجز بحثاً في الفنون البصرية. لقد خصصت كتاباً للحديث عن الإضاءة فقط، وكتاباً آخر عن اللون، لأن بعد تصويري فيلم “القيامة الآن”، شعرت بالحاجة لأن أتوقف وأفهم بالضبط ما تعنيه هذه الأشياء، هذه العناصر، التي كنت أستخدمها من دون أن أعرف شيئاً عنها. لقد توقفت عن العمل عاماً واحداً واعتكفت في البيت لكي أقرأ الكتب، وأشاهد الأفلام، وأصغي إلى الموسيقى. قراءة الكتب أخذت الحيّز الأكبر لأنني أردت أن أفهم ما يوجد داخل الضوء واللون. درست فيسيولوجيا الألوان وما يتصل بها من دراماتورجيا والتعبير بالرموز. وبذلك بدأت فصلاً جديداً في حياتي. ولقد فعلت الشيء نفسه بعد “الامبراطور الأخير”، لكن هذه المرّة بحثي تركّز على عناصر الحياة الرئيسية كما وصفها الفلاسفة الاغريق.
بالطبع يتعيّن عليك أن تكون واعياً لحقيقة أنك لا تستطيع أن تعرف كل شيء، ذلك أمر مستحيل. لكن بين حين وآخر، تأتي اللحظة التي فيها ينبغي أن تتوقف وتجدّد نفسك. وبعد ذلك، بإمكانك أن تكمل. وإلا فإنك تستخرج نسخة فوتوغرافية من ذاتك، من معرفتك الأولى. كنت محظوظاً لأنني فهمت ذلك، والعديد من الشباب يستعجلون في بلوغ النجاح. إنهم لا يعتقدون أن من الأفضل لهم تهيئة أنفسهم حتى يكونوا قادرين على التعبير عن أنفسهم بأفضل الوسائل الممكنة. عندئذ فقط ربما بوسعهم بلوغ النجاح. لكن إذا كان النجاح هو هدفك، فإن بلوغ ذلك نادر جداً.
– تصوّرك للسيناريو غالباً ما ينشأ من الشخصيات، وبما أنك أشرت إلى “القيامة الآن”، فإنني أرغب في سؤالك عن عملك في ذلك الفيلم، في رسمك لتطابق حميم بين التصوير السينمائي والشخصية الرئيسية. كيف اختبرت الدخول إلى عقل ويلارد بذلك العمق، وتمثيل انحداره نحو الجنون بطريقة تنويمية وأساسية؟
* مرّة أخرى، يتعيّن عليك أولاً أن تتوصّل إلى الفكرة الرئيسية التي تقودك إلى اتجاه واحد. في البداية قلت لفرانسس كوبولا: “لا أظن أن هذا النوع من الأفلام يناسبني”. ما الذي من المفترض أن أفعله مع فيلم من النوع الحربي في حين أنني، في إيطاليا، اعتدت أن أصوّر أفلاماً عن الفلاسفة أو أفلاماً سياسية مع برناردو برتولوتشي؟
لكن كوبولا ردّ قائلاً: “لا يا فيتوريو، هذا ليس من أفلام الحرب. إنه فيلم عن الحضارة. أرجوك اقرأ رواية جوزيف كونراد (قلب الظلام)، وسوف تفهم فكرتي”.
وكان محقاً في ذلك. قرأت وفهمت أن هناك فكرة رئيسية واحدة في رواية كونراد: حين تُخضع ثقافةٌ ما ثقافةً أخرى، وتستبدلها بثقافتها، فإنها تخلق فعلَ عنف. وهذا ما يريد الفيلم أن يقوله: الحقيقة. عندما يغزو بلدٌ بلداً آخر، معتقداً أنه سيجلب معه الحضارة والحداثة وغير ذلك، فإنه يرتكب فعلَ العنف، ذلك لأنه لا يحترم الثقافة الأخرى. هذا حدث طوال تاريخ البشرية. لقد فهمت أنه شيء أستطيع جعله خاصاً بي، لأنه مفهوم كوني. بالتالي كيف أترجم هذا المفهوم بصرياً؟ قلت لنفسي: “يا إلهي! بوسعي أن أجعل الإضاءة الاصطناعية تضع نفسها فوق الإضاءة الطبيعية، واللون الاصطناعي فوق اللون الطبيعي”. وقد خلقت هذا النوع من التصوّر لثقافتين مختلفتين: التعارض البصري يمثّل التعارض بين الثقافتين.
– هل رحلة ويلارد السيكولوجية لها دور في تعاملك البصري مع الموضوع؟
* في هذه الحالة، المبدأ الرئيسي كان حقيقة أن الحضارة تدمّر حضارة أخرى من أجل أن تنمو. لكن لا تسئ فهمي، من دون هذا النوع من تمازج الثقافات لن يكون هناك تناغم وتحوّل وتطوّر، فكل حضارة سوف تبقى كما هي، لا تنمو ولا تتطوّر. أحياناً هذا التمازج يحدث في تناغم وتوافق، مثل الرجال والنساء: يلتقون، يقيمون علاقة جميلة، وينتجون شيئاً هاماً من خلال اتحاد الأجساد والذوات والعقليات. في مرات أخرى، يكونون في حالة تعارض وخلاف. لكننا دائماً نحتاج إلى هذا النوع من العلاقة بين عنصرين مختلفين.
بعد أن توصّلت إلى هذا الإدراك، فكرت في ما تعنيه حياتي، ما هو هدفي، مفاهيمي الأساسية؟ حين نعمل في شكل فني، سواء في التمثيل أو تحقيق الأفلام، نحاول أن نضع ذاتيتنا في ما نخلقه من أجل أن نفهم من نكون. وأنا قد فهمت، خصوصاً بعد “القيامة الآن”، أن اهتمامي كان في الواقع أن أجد توازناً بين عنصرين متناقضين.
– في أفلام كارلوس ساورا، يبدو أن اهتمامك الأساسي في العلاقة بين العقل والجسد. ما هو فاتن بالنسبة لي من وجهة نظر شكلية هو تركيز بؤرتك، في “فلامنكو” (1995) و”تانجو” (1998)، على الأجساد، بما أنك تصوّر الراقصين – تحريك الكاميرا كان تقليدياً إلى حدٍ ما: تسجيل صبور لحركةٍ في لقطات ساكنة في الأغلب – لكن مع ذلك تدمج الحالة النفسية من خلال تلك الخلفيات المرسومة والمضاءة باللون، والتي حرفياً تعمل كإسقاطات للحالات النفسية الباطنية عند الراقصين. كيف توصلت إلى تلك الوسيلة الأسلوبية؟
* اللقاء الأول مع كارلوس ساورا كان في كيوتو. كنت أحد أعضاء لجنة التحكيم في مهرجان طوكيو السينمائي، وكان كارلوس يعرض فيلماً في مسابقة أخرى، لكنه زار المهرجان. خلال لقائنا الأول، عرض عليّ بعض رسوماته: كانت تحتوي على هذا العنصر المربّع، وحوله بعض الأشخاص. قال لي: “فيتوريو، أريد أن أروي لك قصة الفلامنكو من دون أن أروي القصة. أودّ أن يفهم الناس القصة من خلال الإيقاع.. إيقاع الرقص، الموسيقى، الغناء، الكاميرا، إيقاع الضوء”.
فقلت له: “كارلوس، أنا اعتدت على أن تكون لديّ قصة واضحة أستطيع استيعابها. هل يمكنك على الأقل أن تساعدني في فهم بعض العناصر الأساسية؟” قال لي: “لا أريد أن أروي، أريد أن أعرض”. قلت: “طيب، هل يمكنني الحصول على كلمات كل أغنية منفردة؟” قال: “نعم، بالتأكيد”.
أعطاني قائمة بالأغاني المختلفة التي أرادها، وتحقّقت من أن ثمة قصة جميلة تمرّ عبْر كل منها. في الفلامنكو، هم لا يقومون بالأداء خلال أوقات النهار، فقط في نهاية اليوم. قلت لنفسي: “هذه بداية حسنة. ربما يتعيّن علينا أن نعدّ كل شيء وقت الغروب”. وعادةً، الكثير من الاستعراضات الراقصة بقيادة شخصيات ذكورية. وقد طلبت من كارلوس أن يعيد ترتيب بعض المشاهد، ولم يعترض. هكذا صوّرت تلك الاستعراضات – بما تحتويه من غناء ورقص وموسيقى – مع لون الغروب. وبعد الغروب، يبزغ القمر. عندئذ نبدأ في ضم العنصر النسائي، المتصل بالجزء اللاواعي والقمر. هكذا صار لدينا ما يشبه الفسيفساء. كنت أروي القصة ابتداءً من مغيب الشمس وبزوغ القمر حتى تعود الشمس فجراً، وتكون لدينا دائرة جديدة. لقد اخترت مبدأ الحياة، المضي في دوائر. نحن نولد، نكبر، ننضج، نموت، نبعث ثانيةً. نحن جزء من الدائرة اللامتناهية من اعادة الولادة. هذا تفكير فلسفي بوذي: إننا نصبح أكثر فأكثر طاقة حتى نصير مادة. هكذا وضعت فكرة فلسفية بارزة داخل هذه الاستعراضات الصغيرة من رقصة الفلامنكو. قلت: “هل يمكننا أن نبدأ بالمربع فحسب؟”. أفلاطون كانت لديه رمزيته الخاصة، وبالنسبة له، المربّع يمثّل الأرض. لذا، فيما القصة تتوضح تدريجياً، حدّدنا موقع الشاشات بطريقة مثلثة الشكل، كما لو أن المربّع يرتفع. وفي النهاية، ننتهي بالدائرة. إذن صار لدينا الأشكال الأفلاطونية الرئيسية الثلاثة: المربّع، المثلّث، الدائرة.
– وكارلوس تركك تفعل ما تشاء؟
* في الواقع كنت أقدّم طريقة جديدة لتصوير ما كان يريد تقديمه بصرياً. تلك هي وظيفتي. هكذا حتى من دون التعبير عن القصة لفظياً، كنت قادراً على سرد القصة.
– فيلموس زيغموند، الذي صوّر ثلاثةً من أفلام وودي ألين، قال في مقابلة أن ألين يهتم بالقصة والأداء أكثر من المظاهر البصرية لأفلامه، وأنه لم يكن ينظر إلى الكادر أثناء التصوير إلا إذا شجّعه زيغموند على فعل ذلك. هل شعرت بأن ألين يتعاون معك أثناء عملكما معاً ويتحدّث بلغتك البصرية؟
* بلا شك، وودي ألين يعرف أكثر عن الكتابة وسرد القصة لفظياً. لكنه بالتأكيد مخرج جيد، خصوصاً في الوقت الحاضر، بعد كل التجارب التي خاضها مع كبار مدراء التصوير مثل: جوردون ويليس، سْفِن نيكفِست، فيلموس زيغموند، داريوش خونجي. لديه إحساس باللقطة، ويعرف بوضوح تام إذا كانت اللقطة جيدة أم لا. هو على الأرجح سوف لن يقترح عليك أو يقودك في ذلك الاتجاه. كل صباح، عندما نصل إلى الموقع، كان يقول لي: “فيتوريو، لنتحدّث عن كيفية تصوير هذه اللقطات المتتابعة، بعد ذلك سوف أدعو الممثلين وأعلمهم بما ينبغي فعله حسب خطتنا”.
أنصتُ إلى ما يقوله، وعادةً هو لديه معجم أو فكرة عامة أساسية، والتي تنبع من الثقافة الأميركية، حيث تصوّر لقطة عامة شاملة تتبعها لقطة قريبة. أحياناً هذا يكون لائقاً تماماً، لكن في مرات أخرى أقترح فكرة مغايرة، يتخيلها، ثم يتخذ قراره، غالباً بالموافقة. كمثال، إذا كان لدينا في المشهد شخصان جالسان في المقهى يتحدثان. أقترح عليه أن نبدأ من أسفل السلّم، بحيث تتابع الكاميرا ارتقاء الشخصين درجات السلّم حتى يجدان موضعاً للجلوس ثم يبدآن المحادثة. وودي شخص رائع، في ثلاثين ثانية هو قادر أن يجد طريقة لجعل سلوك الشخصية يفضي إلى ذلك الموضع. قد يجعل النادل يأخذ الكرسي أو ما شابه لأنه يحب أن يكون هناك فعل ما، والإحساس بأن شيئاً سيبدأ. هو رائع في تعامله مع هذه الأشياء. إنك تخبره عن طبيعة المكان الذي ترغب العمل فيه، حتى لو كان من المفترض أن يدور المشهد في غرفة نوم، فإنه يعيد ابتكاره في مكان آخر. إذا شعر بأن الاقتراح يمكن أن ينعش فكرته فسوف يعجب به. على سبيل المثال، هل تتذكّرين المشهد الذي فيه تأتي كريستين ستيوارت لرؤية جيسي آيزنبرغ، وهي منزعجة لأنها انفصلت عن حبيبها؟ صوّرنا مشهد المومس قبل هذا، وكان لديّ اقتراح بشأن ذلك المشهد. في الثلاثينيات (من القرن الماضي) لم يكن من الممكن التعويل على المصادر الكهربائية، إذ كانت تومض ثم تخبو أحياناً، وينقطع التيار أحياناً. اقترحت على وودي أن يدور المشهد في ظلام تام بعد نفاد الطاقة فيضطرون إلى إشعال الشموع. فقال وودي: “أحب هذه الفكرة، لكنني سوف أستخدمها لمشهد آخر”. كنت أتصوّر أن من المضحك تصوير محادثة مع مومس في ضوء الشموع. لكن وودي علّق قائلاً: “نعم، ربما سيكون مضحكاً، لكنني أحتاج إلى شيء رومانسي أكثر للمشهد الآخر، وقد يخدم هذا القصة على نحو أفضل”. وكان على حق. كان يحتاج إلى شيء لذلك المشهد، لكنه لا يعرف ما هو حتى طرحت عليه الفكرة واستخدمها بشكل مناسب.