“فقراء لا يدخلون الجنّة”.. ولكن من يدري!

   يبدو عنوان المقال، الذي هو عنوان أحد الأفلام المصريّة، على درجة من الغرابة، خصوصًا مع يقين العقل الجمعي العربي بأنّ “الفقراء لهم الجنّة”، بعدما أكّدها، مرارًا، الخطاب الدّيني المُعاصر، والموروث الثّقافي. غرابةٌ تدفع بالعقل الحائر أن يُثير العديد من التّساؤلات: هل الفقر، حقًّا، سببٌ لدخول الجنّة؟ وإن كان كذلك، فلما نجد فقراءً لا يدخلون الجنّة؟ ثمّ ما المقصود بالفقر هنا: أهو الفقر الماديّ، أم هناك فقرٌ آخر؟

   ونظرًا لكون الفنّ أحد القوى الناعمة التي تعمل على تشكيل الوعي الجمعي، وبالتالي، لا يُمكن إغفال دوره في طرح ومُعالجة العديد من قضايا المُجتمع، فنقترح أن نُعالج قضيّتنا، والإجابة عن التّساؤلات المطروحة وما ينبثق عنها، من خلال قراءة فلسفيّة لأحداث الفيلم ـ لا ترمي لإرباك عقل المُتلقِّي، بقدر ما تُحاول الوصول إلى إجابات منطقيّة للتّساؤلات الماثلة..

   تدور أحداث فيلم “فقراء لا يدخلون الجنّة” (1984م)، لمدحت السِّباعي، حول أحمد (محمود عبد العزيز) ـ الذي كان شاهد عيانٍ على حادثة مقتل والدته الخائنة على يد والده حسن (عبد الغني ناصر)، لينتقل للعيش في إحدى دور رعاية الأيتام، ولمّا يخرج يُقيم في غرفة مُنفردة أعلى بناية يمتلكها المعلم ياقوت (محمد رضا)، وهناك تنشأ بينه وبين جارته الفقيرة سلوى (آثار الحكيم) قصّة حبّ، وأحلام مُستقبليّة مُتواضعة كأيّ شخصين تجرّعا مرارة الفقر والشّقاء، ولكن تأبى أوضاعهم البائسة، ومُحيطهم المُنحطّ قيميًّا، أن يُتوِّجها زواجٌ مُبارك.

   مع تتبُّع الأحداث من بدايتها، نجد نبويّة (شروق)، أمّ أحمد، التي ما إن غادر زوجها، حتى استعدّت، وصعدت إلى جارها؛ لفعلةٍ شنعاء لوّثت بها شرف الجميع، وحطّمت أسرة بكاملها. وفيها، بدت نبويّة تنتمي لأسرة متوسّطة، وفعلتها لم تكن بدافع المال، وبالتّالي لم يكن فقرها فقرًا ماديًّا، بل فقرٌ قيميّ افتقرت فيه للإخلاص وللشّرف والعفّة.

   ويأتي المعّلم ياقوت، المنبوذ من جيرانه المُنافقين له؛ لغروره وتكبُّره، ولجشعه المستمرّ رغم حاله الميسور، مُطالبًا أحمد التّوقيع على سند أمانة بالإيجار المُتأخِّر عليه، أو يطرده من الغرفة، ويقبل الأخير لقلّة حيلته.

   وأمام جمالها وأطماعه الدّنيئة، يرفض ياقوت أن يأخذ جزءًا من إيجار شقّة أم سلوى، المُتراكم بسبب مرض زوجها ثمّ وفاته، وينتهز فرصة خروجها ويتهجّم على سلوى، ويكون من نصيبه كفًّا على وجهه وطرده. ومع اقتناعها بعدم إنصافها من سكّان المنطقة لخوفهم منه، أخبرت أحمد الذي قرّر الانتقام منه. ومع تأخُّر أحمد عن موعده معها لإحضار المبلغ، وصعودها لغرفته بحثًا عنه، فقد التقاها ياقوت أمام شقّته، ومع تجاذب أطراف الحديث والاعتذار وخلافه، أقنعها بالدّخول معه كي يكتب لها إيصالات السّداد لتقديمها صباح باكر خلال الجلسة بالمحكمة، بعد أن كان قد رفع دعوى قضائيّة ضدّها جرّاء القلم الذي رصّع خدّه، لتخرج من عنده محطّمةٌ مجروحةٌ وقد نهشها بمخالبه السوداء.. وبعد أن انتهى منها، واستلذّ بسيجارته، أعطاها الإيجار المُتراكم لتدفعه في المحكمة، ومعه عشرون جنيهًا حلاوة الصحبة.

   وها هو عرفان بك (حسين الشربيني)، أكبر عميل لدى الشّركة التي تعمل فيها سلوى، يبذل جهده للاستئثار بها كمُوظّفة مُتفرِّغة للعمل المُشترك بينه وبين الشّركة التي تعمل بها، وبتزكيةٍ من رئيس مجلس إدارتها، تنتقل سلوى لعملها الجديد، وهناك يُجيد عرفان بك حياكة خيوطه المسمومة حولها، إلى أن حظي بفريسته.

   لقد وقعت سلوى تحت أنياب ياقوت حينما دخلت لشقّته مع علمها المُسبق بنواياه الخبيثة، وبالتّالي فقد وأدت عقلها بذلك القرار، وأخفت الحادثة عن أحمد. ولاحقًا، وقعت مُجدّدًا في شرك عرفان بك الذي بتعبيره لها: “زمان كنت بفكّر في المثل والقيم والأخلاق وبعدين عقلت..” وهو يُخبرها عن حبيبته السّابقة التي لم يتزوّج بها قائلًا: “رجعنا تاني أصحاب وحبايب أكثر من الأوّل..” وسألته: “إزاي وهي متزوجة؟” أجاب “دفعت الثّمن.. واللي ما قدرتش أخذه زمان بالحبّ أخذت أكثر منه لمّا بقى عندي ثمنه..”. وهنا، بدت سلوى فقيرة من ناحية الحكمة ورجاحة العقل وتقييم الآخرين..

   أمّا أحمد، فبرغم وقوفه مع سلوى في محنتها، وترك عمله بمكتب المحامي، عائدًا إلى الذّل والهوان؛ لتجهيز مبلغ الإيجار لها، إلّا أنّه قتل ياقوت انتقامًا لسلوى. وقد أجاد التّلاعب مع رشدي بك (يوسف شعبان) وكيل النّيابة، وحرص على ألّا تبدو عليه علامات الإدانة، لكنّه، عندما علم بأنّ النيابة قد قبضت على فلفل (مظهر أبو النجا) ـ العامل لدى ياقوت؛ بتهمة القتل، بعدما عثرت بحوزته على خاتم وساعة يدّ ياقوت، استيقظ ضميره، واعترف بجريمته.

   بل لقد رفض أحمد الاستمرار في لعبة الكذب مع سلوى، وقرّر الابتعاد عنها رغم صعوبة قراره، مُلقيًا أسباب ذلك على الدّنيا: “مش أنا اللي حكمت، الدّنيا هي اللي حكمت.. الزمن هو اللي غدر بينا”، ليُصبح حلمهما كابوسًا، وضحكهما على الدّنيا بكاءً، وغدوا لعبةً في يد الزّمن.

   ومن هنا تتجلّى رسالة الفيلم الوجوديّة والقيميّة: أنّ الإنسان ما هو إلّا خليطٌ من الخير والشرّ، وأنّه يمتلك حريّة الاختيار، وهو إذ يختار يُصبح اختياره قيدًا عليه، يجب أن يدفع ثمنه؛ فنعيمه أو شقاءه مرتبطٌ بقيمه التي اختارها..


[*]) باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية ـ مصر

Visited 156 times, 1 visit(s) today