“فرش وغطا”.. البحث عن الإنسان فى مولد الثورة!

Print Friendly, PDF & Email

فيلم “فرش وغطا” الذى كتبه وأخرجه أحمد عبد الله السيد، دون مبالغة، تحفة جديدة من صانع فيلم “ميكروفون”، وأضيف، وقد شاهدت كل أفلام موسم 2013 المصرية المعروضة، إن “فرش وغطا” هو الأفضل فى هذا الموسم حتى ساعة تاريخة، وحتى إشعار آخر.

يمثل الفيلم الجديد خطوة ناضجة فى مشوار مخرجه، وفى طريقته التى تمزج التسجيلى بالروائى، كانت لى ملاحظات أساسية على فيلم “هليوبوليس”، وجاء “ميكروفون” أكثرقوة وتكاملاً، ولكن “فرش وغطا” لا يقدم فقط درجة أعلى من تماسك البناء، ولكنه يختار أيضا أن يرى الثورة من زاوية أشمل وأعمق من معظم الأفلام التى اقتربت منها، إنه لا يفهم الثورة باعتبارها إطاحة بحاكم (ليس فى الفيلم المشهد التقليدى لفرحة الميدان بعد إعلان تنحى مبارك)، ولكنه قرر أن يبحث عن الإنسان فى أيام الثورة الأولى، وأن يفتح حوادثها الغامضة والمسكوت عنها، وكأنه يذكرنا بذكاء بأن الثورة الفعلية هى أن نعرف ما حدث، وأن يتغير حال الغلابة، وأن تحترم إنسانيتهم، هذه هى ثورة “فرش وغطا” وليس أى شئ آخر، لا الميدان، ولاالمظاهرات، ولا الأعلام المرفوعة.

كل هذه الأشياء موجودة، ولكن فى الخلفية، ليست هى اللوحة، ولكنها الإطار، أما قلب الحكاية فهى الناس، بطلها الشاب لم يشارك أصلا فى الثورة، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن الهروب من السجن بسبب الثورة مشاركة فيها، يقوم السيناريو البديع بتجهيل سبب دخول بطلنا (آسر ياسين) السجن، بل إنه يجعله بلا اسم، فيحقق بذلك هدفين فى صميم معنى الفيلم ومغزاه: استدعاء شاهد من خارج الصورة تماما وكأنه مراقب للمولد كله، فيكون بذلك أكثر حرية فى التأمل والدهشة وصولا الى الغضب فى النهاية، أما الهدف الثانى فهو اختيار النموذج الأبعد والأكثر التباسا دفاعا عن الإنسان: هذا سجين، لاتعرفون تهمته (جنائية أم سياسية)، يشهد على الثورة، ويدافع عن حقكم فى أن تفهموا ما جرى، وأن تغيروا هذا الواقع المزرى، الذى لا يختلف فيه المسحوقون خارج السجون، عن الهاربين منها.

رحلة شاقة

يبدو تجهيل البطل متسقا مع فيلم يقول عبر رحلته الشاقة إن هناك ملفات كثيرة ما زالت تحمل علامات استفهام حقيقية. “فرش وغطا” فيه أقل حد يمكن أن تتخيله من الحوار فى فيلم مصرى، وكأنه يكفر بالثرثرة واللت والعجن والضجيج الذى لم يفرز حقيقة متماسكة، الصورة هنا أبلغ من لغة الكلام التى تعطلت وفقدت دلالتها،  أما بطل الفيلم الهارب، فهو يحمل معه أمانتين: رسالة من زميله المسيحى الذى مات بين يديه إثر إطلاق النار عند فتح السجون، وفيديو مصور على الموبايل نسمع طوال الوقت أنه يتضمن “حقيقة” ما جرى عند فتح السجن، ويجب أن يشاهده الناس لكى يعرفوا ما حدث بالفعل.

سبب الرحلة ليس شعارات ضخمة، ولا مشاركة فى الثورة أو سخرية منها، السبب إنسانى بحت، ومن خلال ذلك سيتسع الكادر الى أقصى درجة، وسيتحول ذلك المصرى الهارب من متأمل الى غاضب، وستندمج مقاطع تسجيلية فى بناء الفيلم الذى يحمله خط درامى رفيع، وبدلا من حوار المفهماتى الشهير فى الفيلم المصرى، سيمتلئ شريط الصوت بالصمت المهيب، وبأناشيد المتصوفة، وبتراتيل الجنائز، وبأغنيات لأم كلثوم ومحمد منير، وبتعليقات قناة الجزيرة على مشاهد من أحداث الثورة (المظاهرات واعتصام ميدان التحرير وموقعة الجمل .. الخ)، بينما تبدو الصورة شديدة الثراء فى كل مكوناتها من تعبيرات وجوه وإيماءات وحركات الممثلين الى مكونات بعض الديكورات والمظهر الرمادى الدائم الذى يهيمن حتى على مشاهد الصباح والظهيرة.

بعد زيارة قصيرة الى منزل أمه وشقيقته، وبعد أن أفلت بأعجوبة من أيدى لجنة شعبية أقرب ما تكون الى البلطجية، يتأمل الغائب حقيبته، يتذكر صورته مع فتاة محجبة، يترك منزل عائلته حاملا الأمانتين: الخطاب، والفيديو داخل جهاز المحمول (استعان مخرج الفيلم بفيديو حقيقى مصور لاقتحام سجن القطا بالفيوم كما تخبرنا بذلك عناوين النهاية)، ومرة أخرى يصبح سجين هارب هو الباحث عن الإنسان، ونسمع قبلها من يشهد بأنه حتى السجين لا يجب أن يُقتل قتلا مجانيا، يقول أحد الشهود إن هناك مقابر أعدت على عجل دفن بها 20 أو 30 سجينا، ثم إنه: “إذا كان المساجين مش مهمين عند الحكومة.. فلازم يكونوا مهمين عند أهلهم”.

ستظل هذه الزاوية الإنسانية الواسعة هى منهج الفيلم من بدايته حتى نهايته، سواء فى محاولة السجين إنقاذ زميله (محمد ممدوح) من الموت، أو فى النماذج التى يلتقيها السجين بعد هروبه، وكلها تقدم تنويعات على فكرتين لم يفلتا أبدا: ضرورة أن يعرف الناس “حقيقة” وقائع غامضة (يتكرر كلام شريط الفيديو المطلوب إذاعته ليقوم بدور التذكير بهذا المعنى)، ومأساة الغلابة التى لم تتغير من استبداد مبارك الى مولد الثورة، وينقل شريط الصوت فى تكامله مع الصورة حالة خالصة مصرية بكل مكوناتها وتفاصيلها، كما يتم تكثيف بعض الأحداث الحقيقية، وإعادة ترتيبها لخدمة الفكرة، ولخدمة الزمن الدرامى للرحلة.

 اكتشاف البشر

فى مسجد يستمع الهارب الى منشد صوفى، يدخل بعض الجرحى، تقبض عليهم الشرطة العسكرية، بعد قليل يكتشف أحد الشباب (عمر عابد) مهارات الغريب فى مجال الكهرباء، يصطحبه الى المقابر حيث أصحاب الموالد الذين تراجعوا الى جوار الموتى بسبب موجة تحريم سلفية، يقوم الغريب العائد بإصلاح أجهزة الصوت للمنشدين، يطلب مساعدة كبيرهم فى العودة الى المكان الذى ترك فيه جثة صديقه المسيحى، عندما يصلون لايجدون شيئا، يحفر فى التراب، فلا يجد جثة.

يقرر الغريب العائد أن يزور أسرة السجين لتسليمهم خطابه الأخير، نذهب معه الى منشية ناصر، عائلات مسيحية بأكملها تقوم بجمع القمامة، تتسلم زوجة السجين الخطاب، يشارك الهارب فى جنازة صديقه، يحاول أن يصل الى عنوان موقع جريدة يبث لقطات الفيديو المصورة، ابن صديقه السجين يقوده الى مركز للكمبيوتر والبلياردو، خدمة النت غير موجودة.

عندما يذهب الهارب بنفسه الى  الجريدة، ويسلمهم فيديو الهروب من السجن، يشاهد مذهولا فيديو أحداث العنف الطائفية فى منشية ناصر، صورة زميله السجين الميت يتم إحراقها، ينفجر المصرى الهارب من سجنه، يعود الى منشية ناصر، تحاصره زجاجات المولوتوف، نسمع صوت رصاصة، يخفت شريط الصوت مع سقوط الهارب، وتظل عبارة الفيديو الذى لم نره كاملا معلّقة ومؤكدة بشكل يكاد يكون ساخرا أن الحقيقة على هذا الشريط، وأن الناس لابد أن تعرف ما حدث بالفعل.

يبدأ “فرش وغطا” بلغز فتح السجون الذى لا نعرف عنه شيئا، ثم نتساءل عن هوية البطل وسبب سجنه، فلا نجد أى إجابة، ثم تذهلنا الفوضى ما بين لجان شعبية بلطجية وأخرى من الأهالى، فلا نجد تفسيرا، بعد قليل ستقفز علامة استفهام جديدة عندما نجد المراجيح وسط المقابر، وعلامة أخرى حول أحداث منشية ناصر الدموية، وقبل أن نرى الفيلم الذى سيكشف لغز السجون، تصيب رصاصة البطل الهارب الذى يسقط على صوت الفيديو المبتور، تتراكم وقائع الرحلة لتنتهى الى كارثتين هما مغزى الفيلم كله: غياب الحقيقة، وغياب الإنسان سواء كان خلف القضبان أو خارجه.

الصمت الصاخب

ما يجعل من “فرش وغطا” عملا عظيما أنه عمل سياسى خطير يقول ما يريد دون أى هتاف أو شعارات، ولكن من خلال التفاصيل الإجتماعية والإنسانية البسيطة، نحن تقريبا أمام فيلم له صمت صاخب إذا جاز التعبير، اللمسة والإيماءة والنظرة هما وسيلة التعبير، الشهادات الوثائقية المباشرة عن مقبرة للمساجين، أو أم ضًرب ابنها بالرصاص، أو طفل زبال مسيحى يشكو من سوء معاملة ربة منزل لها أقارب من الضباط، أو عامل مراجيح بائس يشكو طرده من الموالد لأسباب دينية، أو رجل فى منشية ناصر ينقل الماء من المطافى، ويصنع لابنه أرجوحة من الحبال على فرع شجرة بما يجعلها أقرب الى المشنقة، كل هذه المشاهد الوثائقية تندمج مع حركات وإيماءات الممثلين: نظرة عيون متبادلة بين الغريب وفتاة وسط المقابر، حركة أم تمنح بطلنا كيسا تحمله داخل الميكروباص حتى لا يلتفت إليه كمين الشرطة العسكرية، أعلى صدر الأم صورة مغلفة لعلم مصر وعبارة 25 يناير، بطلنا يركب ميكروباص الى حيث كارثة منشية ناصر، بينما يسير شاب فى الإتجاه المعاكس حاملا علم مصر المنكس،  بطلنا عائدا محبطا من البحث الفاشل عن جثة زميله فنسمع من مسجل السيارة الميكروباص أغنية “حبيبى يسعد أوقاته”، نظرة خائبة يودع بها الهارب حبيبته القديمة التى نراها وقد ركبت الموتوسيكل خلف رجل ملتح بجلباب أبيض ، ودائما لقطات الفرش والغطا اللذين يحملهما البطل بحثا عن حلم الإستقرار على برّ.

تستطيع تقريبا أن تقدم نماذج لهذا التعبير الصامت الصاخب والمؤلم فى كل مشهد من مشاهد الفيلم، يبدو أحمد عبد الله  السيد هنا وقد امتلك فكرته وأدواتها معا، لديه نفس ثنائى فيلم “ميكروفون” التقنى الرائع، هشام صقر (مونتاج)، وطارق حفنى (تصوير)، هناك مسحة تسجيلية واضحة، واختيار مدهش لأماكن التصوير، واقتصاد وتوظيف متقن لموسيقى محمود حمدى التى منحت الفيلم شجنا يليق به، الممثلون ظهروا أيضا كما لو كانوا جزءا من المكان، قدم آسر ياسين أداء مميزا يعتمد على التعبير بالوجه وبنظرات العيون المندهشة أو المكتشفة أو الحائرة، تعثرت خطوته ورحلته، خرج من سجن صغير الى سجن أكبر، وهرب من خوف الى مخاوف، وانطلق من متاهة الى متاهات، لم يمت برصاص السجن، ولكنه مات برصاص الفتنة، تضاءل لغز الهروب من الزنزانة أمام ألغاز الوطن.

“فرش وغطا” فيلم خطير وكبير بحجم تعبيره السينمائى صوتا وصورة، وبحجم أفكاره وأسئلته التى لم تجد إجابة حتى الآن، وبحجم جوهر فكرته اللامعة: لايمكن أن نتحدث عن ثورة وقعت بدون شفافية تكشف الوقائع الغامضة، وتقتص للضحايا، ولا يمكن أن تكون هناك ثورة حقيقية بدون احترام إنسانية الإنسان.

Visited 35 times, 1 visit(s) today