عن لغة الصمت الرهيب فى فيلم “فرش وغطا”

Print Friendly, PDF & Email

إذا فتحت أى كتاب عن السينما، ستجد أمامك دوما مصطلح “شريط الصوت”، حيث يوصى المخرج عادة، بأن يملأه كلما استطاع الى ذلك سبيلا بالحوار والمؤثرات وبعض الموسيقى، وأن يستخدمه للتفسير والبوح والفضفضة أوالإيحاء والإسقاط، دون أن يخطر فى ذهن أحد أن المصطلح غير دقيق أصلا، وأن التعبير الأكثر صحة ودقة هو “شريط الصوت والصمت”، وأن أحدا لا يقول للمخرج شيئا عن ضرورة توظيف الصمت أيضا، وفى نفس الوقت.

مناسبة الحديث فى هذا الموضوع هى تلك الطريقة الخلاّقة التى قدم بها المخرج أحمد عبد الله السيد لغة الصمت فى فيلمه الرائع “فرش وغطا”، نحن تقريبا أمام فيلم فيه أقل قدر ممكن من الحوار، وحتى الأجزاء الحوارية لا تبدو واضحة تماما إذ تشبه حوارات الأفلام الوثائقية، ترسم حركة الشفاة أكثر مما تنقل كلمات مسموعة، وكأن كاميرا بعيدة اختلست الصورة بسرعة بكلماتها المتعثرة، الفيلم أيضا يقتصد بشدة فى مؤثراته الصوتية وفى موسيقاه التصويرية (محمود حمدى)، وفيما عدا ذلك لا شئ سوى الصمت الرهيب.

فى رأيى أن هذا الإختيار لا ينفصل على الإطلاق عن مغزى الفيلم ومعناه، هذا الصمت وتلك الحوارات المبتورة فى صميم جوهر فيلم فكرته الأساسية الأسئلة المعلقة حول معنى الثورة، وحول الفشل فى معرفة حقائق ما جرى فى أحداث خطيرة مثل فتح السجون بعد ثورة يناير، ومأساة الفتنة الطائفية فى منشية ناصر، إنه فيلم يكتفى بطرح علامة استفهام ضخمة لأنه لايملك ببساطة أى إجابة.

إختيار الصمت لا ينفصل فى الفيلم عن تجهيل اسم بطل الفيلم الهارب من السجن آسر ياسين، ثم تجهيل تهمته وتهمة صديقة المسيحى الذى سيموت بين يديه، منح الصمت والتجهيل الرحلة الشاقة مستوى أقرب الى المجاز، كأنك تقول بالضبط إن الحكاية كلها عن “المسكوت عنه” أو “اللا مسموع” بكل تجلياته سواء كان حقيقة ما جرى فى حوادث معينة، أو هؤلاء المهشمون الذين يظهرون ليحكوا عن مدافن بها 20 أو 30 جثة لسجناء مقتولين، أو رجل المراجيح الذى ينمّ مظهره على البؤس الشديد، والذى يثير الحزن رغم أنه بائع البهجة، أو تلك الأم التى تذيع “المسكوت عنه” فى حكاية ابنها الذى أصابه ضابط بالرصاص، أو هذا الطفل الذى لا يعرفه أحد، والذى يحكى عن سوء معاملة ربة منزل مسنود بالأمن تعطيه قمامة منزلها، أو ذلك الأب الذى يحمل الماء من المطافى يوميا، ويقيم لابنه أرجوحة من الحبال بين فرعى شجرة، الصمت الكثيف يكاد يعطى هنا معنى التواطؤ الذى يخفى الحقيقة، والذى يتجاهل وجود الغلابة وعالمهم.

توظيف الصمت والتجهيل فى “فرش وغطا” هما أيضا وسيلة لخلق هذه الحالة من الرهبة التى نشعر بها أثناء مشاهدة الفيلم، نحن أمام فيلم مرعب يقول بشكل غير مباشر إن السجين الهارب وزميله  ليسا فى حقيقتهما إلا “المواطن مصرى” الذى أخرجته ثورة يناير من السجن، ولكنها لم تستطع أن تخرجه من متاهة ألا يعرف الحقيقة، ولا من متاهة الفقر والتهميش، الهارب ليس سجينا بعينه، ولا هو اسم محدد، ولكنه المجاز الخطير للمواطن الباحث عن إنسانيته وحقوقه سواء فى زمن استبداد مبارك، أو فى عصر الثورة المستمرة حتى ساعة تاريخه، هذا هو معنى الفيلم بأكمله، وهذه هى فكرته اللامعة والخطيرة.

ليس صحيحا أن الشريط فارغ فى “فرش وغطا”، ولكنه “ملئ بالصمت”، وبسبب ذلك فإن أى صوت تسمعه (كلمات/ تراتيل/ أناشيد/ طلقة رصاص/ موسيقى ..الخ) تعطى تأثيرا إضافيا، إنه صمت مزعج إذا جاز التعبير لأنه يمنحك نوعا من التوجس والقلق وعدم الراحة، وانتظار المأساة التى تحدث فعلا فى مشهد النهاية، عندما يموت الهارب برصاص الفتنة، وعندما لا نسمع بقية الشريط الذى قيل وتكرر بشكل ساخر أنه سيكشف لنا حقيقة ما حدث، وموضع السخرية بالطبع هى أن أحدا لم “يسمع” أو يشاهد” أو “يعرف” أى حقيقة عن معظم الحوادث من فتح السجون الى محمد محمود ومنشية ناصر وماسبيرو  .. الصمت الرهيب يكاد يدين (بمنطق المخالفة) الثرثرة والتحقيقات والحوارات الفضائية التى لم تقل أى حقيقة، والتى يعتبر الصمت أفضل منها، الصمت فى “فرش وغطا” هو الموقف الساخر المعبر عن فشل الكلام والمعنى، وصعوبة الفهم وغياب الأدلة (كالشريط الذى لم نسمعه)، هو الهجاء الذكى ودقيقة الحداد المؤلمة على جثة الحقيقة الغائبة، بل إن الصمت يعادل أيضا فى معناه تكرار نفس العبارة ذات التأثير الساخر من الشريط ، التى تتحدث على حق الناس فى أن تعرف حقيقة نحن نعرف أن أحدا لم يذعها أبدا حتى الآن!

أتاح الصمت أيضا الفرصة لكى تتأمل الصورة شديدة الثراء، وأن تتابع الإيماءات وحركة العيون ولغة الجسد من أول الفيلم حتى آخره، ما الذى يمكن ان تقوله الكلمات العاجزة أمام مشهد عربة تحمل مراجيح لتدخل الى المقابر؟ كيف يمكن أن نعبر بالكلمات  المحدودة عن هذا المشهد الهائل لمنازل متراصة رمادية تخرج من بينها أدخنة سوداء؟ كيف يمكن أن يعبر أى حوار عن نظرات عيون البطل الهارب وفتاة تعيش فى المقابر؟ الصورة تقول أضعاف المعنى المقصود بل وربما استدعت معان أخرى، مثل ذلك العلم الذى يرقد كصورة فوق صدر أم تحمل شنطة بلاستيكية فى سيارة ميكروباص، أو ينكسه شاب عائد  أثناء فتنة طائفية، ومثل تلك الوردة الذابلة فوق مقبرة، أو هذا الفرش والغطا الذى ينتقل مع صاحبه دليلا على عدم الإستقرار، بينما هو عنوان الإقامة والبقاء فى أى ظروف عادية.

فى “فرش وغطا” لدينا النموذج الهام لمصطلح شريط الصوت والصمت معا، يذكرنا الفيلم ببراعة بأن الصمت قادر على أن يكون لغة متنوعة الدلالات، هناك صمت يصنع جوا مخيفا، وآخر يثير التأمل، وثالث يستدعى الماضى، ورابع يستدعى هدنة رومانسية، نسينا فى غمار ثرثرة الأفلام، واكتظاظ الأصوات فى الأشرطة أن الصمت هو الذى يعطى كلامنا معنى، لو هذه الهنيهة من الصمت بين كلمة وأخرى، لما استطعنا فهم عبارة واحدة، كأنك بالضبط تكتب الكلمات متشابكة بدون مساحة بيضاء، الصمت هوتلك المساحة البيضاء، وفيلم “فرش وغطا” ليس إلا التعبير الفذ عن وجود مساحة بيضاء فارغة، سواء فى مجال حقوق الإنسان، أو فى فهمنا لمعنى الثورة، أو فى نظرتنا للمهمشين فى الوطن سواء كانوا داخل السجن، أو خارجه.

ياله من فيلم عظيم ..وياله من مخرج كبير.

Visited 38 times, 1 visit(s) today