” عنتر ولبلب”.. كوميديا شعبية وطنية مدهشة

وضعتُ هذا الفيلم الظريف، الذي يبدو بسيطا للغاية وهو ليس كذلك بالطبع، في قائمة أفضل الأفلام الكوميدية المصرية في القرن العشرين، بل لعله من أذكاها أيضا، وهو مازال حتى اليوم عملا ممتعا وشعبيا، يعرفه البعض ب فيلم “الأقلام السبعة”، و”القلم” بالعامية المصرية أى الصفعة، وربما تسمى كذلك، لأنها تترك على الوجه ما يشبه شكل الأقلام الحمراء الملونة!

الفيلم هو “عنتر ولبلب” (1952)، والذي كان اسمه الأصلى “شمشون ولبلب”، وقد عرض لأول مرة في 17 أبريل من العام 1952، ثم رفع من صالات العرض، وعاد ليعرض من جديد بعد تغيير عنوانه الى “عنتر ولبلب”، بل وتم عمل مونتاج صوت للفيلم، بحيث تتحول كلمة “شمشون” في كل مشهد، الى كلمة”عنتر”، وهو أمر واضح تماما في النسخ التليفزيونية المعروضة.

قيل في تفسير ذلك إن سبب رفع الفيلم اعتراض الجالية اليهودية المصرية على اسم “شمشون”، وتقديمه كفتوة شرير وشرس، بينما هو من أبطال اليهود في التوراة، ومن قضاتهم، وفي سفر القضاة تفاصيل قوته الخارقة، وحكايته مع دليلة التي سلبته هذه القوة بحلاقة شعره، ثم قصة انتقامه بعد أن صار أعمى، وكيف هدم المعبد عليه وعلى أعدائه.

يبدو الأمر منطقيا بالطبع، وهو اعتراض شكلي على الاسم، وإن دفع ذلك البعض الى القول بأن الاعتراض يمتد الى مضمون الفيلم المعادي لإسرائيل، التي كانت وقتها دولة جديدة، أو بمعنى أدق الإسقاط السياسي في الفيلم على احتلال اليهود لفلسطين، وذلك من خلال شخصية شمشون، الذي ينجح سكان الحارة، وبطلهم الشعبي لبلب في طرده، بعد إهانته بسبع صفعات، ورقم سبعة من الأرقام الهمة في الديانة اليهودية وطقوسها.

تفسير متعسف

هذا الطرح أختلف معه تماما، صحيح أن للفيلم طابعا سياسيا واضحا، وصحيح أنه عن قدرة الضعيف على هزيمة المحتل أو الغريب وطرده، ولكن ثراء الفكرة هو الذي جعل البعض يفهمها على نطاق القضية الفلسطينية، بالإضافة الى اسم شمشون الملتبس، بينما هى بالتحديد ترتبط بشكل مباشر بأحداث سياسية مصرية هامة جرت قبل شهور من عرض الفيلم، وأعنى بذلك إلغاء النحاس باشا في 8 أكتوبر 1951، لمعاهدة 1936 مع بريطانيا، وترتب على ذلك اعتبار التواجد البريطاني في قناة السويس غير شرعى، ثم بداية عمليات فدائية ضد هذه القوات، وإجبارها على الرحيل بالمقاومة، بعد أن فشلنا في إجلائها بالمفاوضات.

الجلاء المقصود في الفيلم هو الجلاء عن المعقل الأخير للإنجليز في قناة السويس، والعبارات الموجودة على المقاهي والمحال التجارية، كما سأوضح لاحقا، لا تترك مجالا للشك في أن الفيلم عن القنال، والمقاومة للإنجليز، وفرقة الموسيقى التي  تعزف ابتهاجا في كل مرة ينجح فيها لبلب في صفع عنتر أو شمشون، يطلق عليها الفيلم اسم “الموسيقى الوطنية”، أما اسم شمشون، فلا أظن أنه اختير أصلا لدلاته اليهودية الدينية، وإنما لدلالته الشعبية، فالشخصية في الذاكرة الشعبية المصرية مرتبطة بالقوة الهائلة، وكثيرون لا يعرفون أصلا أنها شخصية يهودية توراتية، كما أن الاسم يبدو غريبا، وبالتالي يحقق فكرة أن هذا الرجل الشرس غريب شكلا واسما وسلوكا، في تناقض صريح مع مصرية وفهلوة وشكل وحداقة ابن البلد لبلب.

ولا أعتقد أن صناع الفيلم وجدوا مشكلة في حذف اسم “شمشون”، فلم يكونوا في الواقع تعنيهم دلالة الاسم الدينية، ولكن دلالته في الوجدان الشعبي، ولذلك اختاروا على الفور اسما قريبا من هذه الدلالة الشعبية، وهو اسم “عنتر”، أحد رموز القوة المفرطة الهائلة، وان افتقد الاختيار عنصر غرابة الاسم المطلوبة لرجل وافد يقوم بغزو الحارة، واحتلالها بقاعدة ترفيهية، ولكن اختيار اسم “عنتر” كان أهون الأضرار، فقد أنقذ الفيلم من المصادرة، وحقق نفس تأثير القوة الخالصة، والتي يفترض أن يهزمها في الفيلم عقل البطل وذكائه، كما تهزمها عمليات المقاومة النوعية المؤثرة على الهيبة والمكانة، وهى صفعات الفيلم السبعة، والتي تؤدى  في الى جلاء المحتل، رغم قوته وثروته،  وفوز ابن البلد بمحبوبته بنت البلد، ولم يكن ذلك ممكنا سوى باتحاد ومساعدة الكثيرين للفتى لبلب.

هذه إذن معركة واضحة الأطراف، لا تمنع من أن يسقط كل شعب تحت الإحتلال رمزيتها على حالته، وأهميتها الكبرى في رأيى، أنها أثبتت بكل ذكاء، أنك يمكن أن تقول أشياء هامة وخطيرة، سياسية ووطنية، من خلال حكاية شعبية بسيطة ومضحكة الى حد المسخرة، بل وأن تستلهم مفردات الفرجة الشعبية، والفكاهة الشعبية، والبطل الشعبي لكى تقول ما تريد بطريقة مضحكة وممتعة للغاية، ولا شك أن ذلك يعود بالدرجة الأولى الى عناصر أساسية هى القصة، والسيناريو، والحوار، وأداء الممثلين، وخصوصا محمود شكوكو في دور لبلب، وهو أفضل أدواره السينمائية على الإطلاق، وكذلك سراج منير في دور عنتر، وهو أيضا من أشهر أدوراه، رغم كثرة الشخصيات التي لعبها ، وتنوعها بل وتناقضها، مما يدل على موهبة استثنائية.

صناع الفيلم          

القصة كتبها مخرج الفيلم سيف الدين شوكت، وهو أيضا كاتب السيناريو مع ريمون قربه مونتير الفيلم، أما الحوار فهو لبديع خيرى، أحد كبار كتاب الحوار الكوميدي في السينما المصرية، وكان أيضا كاتبا مسرحيا مرموقا، قدم مع نجيب ريحاني مسرحيات عظيمة، واشترك بديع مع الريحاني في كتابة أفلام عظيمة قمتها العمل الكلاسيكي “غزل البنات””، كما كتب بديع حوار عمل كلاسيكي هام آخر هو فيلم “العزيمة” للمخرج كمال سليم.

يهمنا أن نذكر أن بديع من أوائل الذين قدموا أغنيات وطنية في ثورة 1919، لعل أشهرها لحن سيد درويش الشهير “قوم يا مصري”، والذي يدعو في أبياته الى عدم التفرقة بين المسلم والمسيحي واليهودي، وله مسرحية مع الريحاني بعنوان “حسن ومرقص وكوهين” من أيقونات زمن مصر متعددة الأديان والثقافات، وأعنى بذلك أننا أمام كاتب مخضرم وواع، له تاريخ وطني كبير، وأصدر عدة صحف صودر بعضها لموقفها الوطني، وبالتال فهو أنسب من يكتب حوار الفيلم الشعبي الكوميدي والوطني معا، بديع ابن بلد أصلا من حي المغربلين القاهري العريق، وثقافته وتاريخه ينفيان أن يختار اسم شمشمون لدلالة قد تسئ الى اليهود المصريين.

اللغز بالنسبة لى ليس بديع، وليس شكوكو، وهو المونولوجيست خفيف الظل صاحب الشعبية الهائلة، لدرجة أن أن تماثيله الصغيرة كانت تباع في الأسواق، وبالتالى فهو “ابن البلد” بشحمه ولحمه وحركاته، و”الأراجوز المعاصر” الذي يصفع الشرير مثلما كان الأراجوز يضرب من يشاء بمقرعته.

اللغر الحقيقي بالنسبة لي هو سيف الدين شوكت، فهذا الفيلم بقصته البسيطة والعميقة والواعية فريد بين أعماله، هناك معلومات متناثرة عن شوكت، أهمها أنه مخرج غير مصري، مصادر تقول إنه لبناني، ومصادر تقول إنه مخرج مجرى الأصل، ولكن هناك إجماعا على أنه عاش و درس السينما في المجر، وانتقل ليعيش ويخرج في مصر، ثم ذهب الى لبنان، وقدم أفلاما مصرية ولبنانية، منها أول فيلم إنتاج مشترك مع المجر اشترك فيه يحيى شاهين وممثلون من المجر، وأنتج في العام 1963 بعنوان ” حكاية مصرية”، وقد أسعدني أن أجد معلومات عن شوكت في أحد أجزاء كتاب ” خطابات محمد خان لسعيد شيمي”، حيث عمل معه الشاب محمد خان كمساعد في أفلام تجارية ببيروت، وكلام خان عن شوكت طيب وجيد، فمن الواضح أن ثقافة شوكت السينمائية لا بأس بها، وأفلامه تدل في معظمها على حرفة وصنعة،  سواء في السيناريو أو الإخراج، ولكنى ما زلت مندهشا من كتابته لقصة فيلم “لبلب وعنتر” بمصريته وأصالته وتفاصليه المحلية، وكان أقرب للتصديق عندي أن يكون بديع خيرى هو صاحب القصة والحوار، وليس مجرد كاتب الحوار فقط.

  نوع مبتكر

 في كل الأحوال، فإن “لبلب وعنتر” يبدو اليوم بنفس القوة والإمتاع اللذين صنع بهما، ويلفت النظر في أفيش الفيلم أنه من إنتاج حبرائيل نحاس مؤسس استديو نحاس، وأن صناعه كانوا يعلمون أنهم يصنعون شيئا جديدا وصعبا، فقد كتبوا حرفيا في تقديم الفيلم: ” إنه كوميديا من نوع مبتكر .. وفن جديد لم يسبق عرضه”، كما يلفت نظرنا سواء في أسماء الأبطال على الأفيش، أو في تترات نسخة الفيلم، أن اسم سراج منير يتصدر الجميع، وأن اسم شكوكو أضيفت أمامه كلمة “بطولة،  ولكنه يأتي في مرتبة متأخرة، سراج منير بالتأكيد كان وقتها في قمة شهرته، كما أنه ارتبط بشخصية عنتر، عندما نجح فيلمه “مغامرات عنتر وعبلة” من إخراج صلاح أبو سيف، واستعاد هذه الشخصية في صورة هزلية في فيلم “المليونير” للمخرج حلمي رفلة.

يتميز السيناريو بالتماسك رغم أن كل صفعة لها حبكة وقصة، ولكن كل صفعة جديدة تولد من  قلب الصفعة القديمة، انتهاء بأصعب صفعة في الطائرة، وهى صفعات تتدرج من الممكن الى المستحيل، بعد أن وثق ابن البلد في نفسه، وبعد أن تزايد مؤيدوه بمن فيهم زوجة عنتر السابقة، واستفاد السيناريو من موهبة الصوت الرائع حورية حسن، أو لوزة التي تحب لبلب وتشجعه، صوت رخيم، ووجه مصرى لفتاة يمكن أن تراها في أي حارة، وهى التي تحمس لبلب بأغانيها، وتجعله يؤمن بأنه يستطيع أن يحقق ما يريد، وأن القوة ليست قوة الجسد فحسب، ولكنها قوة العقل والحق ، وقوة الوحدة، وانضمام شعب الحارة له.

أما منهج المعالجة فهو الحدوتة الشعبية، ليس فيما يتعلق بالروح المرحة، أو بتعبيرات أولاد البلد فحسب، ولكن في استلهام مفردات فلكلورية شعبية مصرية ، وفي أستاذية بديع خيرى في تقديم إفيهات تشبه فن القافية المصرية، وفي استدعاء مقالب الأراجوز، لدرجة تظن معها أن الصفعات ليست إلا فصول من حيل عرائس الراجوز، وشكوكو بالمناسبة كان نجارا محترفا أحب الغناء والتمثيل، وقام بإحياء فن الأراجوز، وله في هذه العروض صولات وجولات، بل إن الزى الذي اشتهر به، يشبه الأراجوز بالجلباب والطرطور، كما اشتهر في أغنياته على المسرح، والتي استخدمها في الفيلم أيضا، بالأداء الحركي الذي يمكن أن نجد مثيلا له في عروض الفرجة الشعبية، وفي فرق التمثيل المتجولة، والتي صاحبها شكوكو في بداية حياته الفنية، كما أنه يقترب في مشاهد الكازينو بالذات من فنون السيرك الشعبي، ويظهر في صورة رجل قصير غريب الصوت.

أمثولة شعبية

هذه إذن أمثولة شعبية، لم يكن ينقصها إلا عبارة “كان ياما كان”: ذات يوم جاء الفتوى المستقوي عنتر الى الحارة الهادئة، وضع قدمه فيها بصنعة لطافة، وبقوة جسد، وبتأثير ثروة فاحشة، وكان يريد أيضا أن يخطف حبيبة لبلب الجميلة، مع أن عنتر متزوج، مطعم لبلب الفقير لن يصمد أمام كازينو عنتر، ورضوان والد لوزة، لا يمانع في أن يبيع ابنته للأقوى والأكثر ثراء، وهو المصري الوحيد المتواطئ مع الغريب، والذي لا يكره لبلب، والدور من الأدوار الشريرة القليلة التي لعبها عبد الوارث عسر.

ولكن لبلب لا يقدم هنا كرجل يبحث عن بطولة، فقد تورط أصلا في التحدي بأن يصفع غريمه سبعة أقلام (صفعات)، فإن نجح في ذلك، رحل المحتل، وحصل لبلب على حبيته لوزة، بل وحصل أيضا على الكازينو، وهو كما اتفقنا قاعدة المحتل في الحارة، أو مسمار جحا لتبرير الوجود الدائم.

زلة لسان من لبلب تتحول الى معركة، يكتشف فيها لبلب أنه أقوى بحب الناب، وبحب لوزة، وبذكائه وبفهلوته، والفيلم يوظف الفهلوة في مسارها الصحيح، ويزيد من شعبية لبلب مع كل صفعة، ثم يقيم زفة شعبية غنائية تذكرنا بطقس التجريس، الذي كان يقصد به تجريس اللصوص في الماضي، ولكنه تجريس “غيابى” لا يظهر فيه عنتر، والحقيقة أن كل عملية فدائية في القنال، وكل حفاوة وفرحة شعبية بها، كانت تقوم بتجريس حقيقي للاحتلال البريطاني، وكانت تثبت فشله في البقاء، ولذلك كان الرد على هذه العمليات عنيفا للغاية، ووصل الى حدوث مذبحة رجال الشرطة الشهيرة يوم 25 يناير في العام 1952، وفي اليوم التالي كان حريق القاهرة .

كل زفة هى تجريس وفضيحة شعبية، والهدف من الصفعات هو نفسه الهدف من عمليات نوعية تثبت القدرة الشعبية، وفشل المحتل في حماية نفسه، بل إننا نشاهد خادم عنتر، الذي لعب دوره عبد الغنى النجدي، وهو يسخر من مخدومه، الذي فضحه بتلقى الصفعات، تدريجيا يتحول شمشون الى شخص جبان، يحاول الإختباء من صفعات لبلب في قسم الشرطة، بل رضوان، المصرى المتواطئ، التفاوض مع لبلب لإيقاف صفعات المقاومة، مقابل الحصول على بعض المال.

هنا يتضح تماما هدف الفيلم، إذ يرفض لبلب تماما فكرة التفاوض، مؤكدا أنه تجربة فاشلة، ثم يقول عبارته الشهيرة: ” إما الجلاء، أو القلم السبعاء”، وهى لا عبارة لا تحتمل أى شك في أن المقاومة هى الخيار الوحيد، وهو يقصد جلاء عنتر عن الحارة، الذي، كما أوضحنا، هو المعادل الموضوعى الذكى، لجلاء الإنجليز عن معسكراتهم في قناة السويس.

ولكى لا يترك الفيلم مجالا للتأويل، فإن مطاعم ومحلات الحارة تحمل أسماء دالة على الفكرة، حيث نقرأ في الخلفية ” عصير الجلاء”، و”مطعم الحرية”، و”جزارة القنال”، و”عجلاتى الوحدة”، بينما يحمل محل تصليح الأحذية الذي يملكه رضوان، المصري المتواطئ، اسم صاحبه فقط، أو  “كوردنييرى رضوان”. والحارة  نفسها تضم خليطا من الطوائف والمهن ، بل ويلفت نظرنا تعاون صاحب محل جريجى، ابن بلد أيضا، مع المصريين، وهناك كذلك شيخ يطلق البخور، يظهر الروح الدينية، والثقة في تأييد الله لمن يقاوم، ونسمع الرجل وهو يؤكد في سعادة ” ربنا غالب”، هذه لفتات عجيبة ومدهشة في فيلم قائم على التفاصيل، ولا تفلت منه فكرته أبدا، بداية من الصفع، وانتهاء بزفة الموسيقى “الوطنية” عل طريقة أشهر فرقة  شعبية، وهى فرقة حسب الله، التي تغنى لها حورية حسن أغنية جميلة، كما تغنى لحبيبها المنتصر من كلمات فتحي قورة : ” وكل فلم عل خذه يرنّ/ يخللي القلب يا روحي يحن”، وكأن الصفعات  قد صارت مهرا، وطريقا إضافيا الى قلب المحبوبة.

فرقع لوز

ثم إن خفة ظل المواقف وحبكات الصفعات تضحكنا حتى اليوم، وشكوكو يبدو مثل فرقع لوز أو عفريت العلبة في خفته، ومثل على الزيبق في تنكره وفي هروبه، ومعاونه الأول عبد الفتاح القصرى شخصية شعبية بدورها، ومرجعيته دوما هى شخصية ابن البلد، ومثلما استفاد الفيلم من عنترية وضخامة ممثل قدير مثل سراج منير، استفاد من مرجعية شكوكو والقصرى عند المتفرج، فأصبحنا أمام “منتخب أولاد البلد الظرفاء أصحاب الحق”، لم يعتدوا ولكنهم يردون العدوان، ويثبتون أن القوة الغاشمة غباء مطلق، وينتزعون الضحكات ببراعة.

 ما زلت أضحك على كل موقف، وخصوصا عندما يصرخ لبلب من الطائرة في آخر الفيلم: ” ألقفونى .. القفونى”، متصورا أن الناس ستنقذه أيضا إذا سقط من الطائرة، وكان قد أخذ معه كتيبا بعنوان: “كيف تهبط الطائرة؟”، ولكن حالته، وحالة عنتر، لم تسمح لهما بالتركيز الكامل، وإن سمحت بأن يقوم لبلب بصفع عنتر الصفعة السابعة، فكأنها مهمة مقدسة، يؤديها حتى لو كان سيموت بعدها، والمدهش أن يرى الجمهور عل الأرض الصفعة، وكأنها منقولة على الهواء في التليفزيون، ثم يصفقون لها كما نصفق اليوم لمشاهدة أهداف محمد صلاح، لقد جعلت المقاومة بالصفع المستحيل ممكنا، وقابلا للتمرير والتصديق، بل وللتصفيق أيضا.

هذه الخفة عميقة حقا، وهذه اللعبة ملهمة، وهذه الكوميديا سلاح حقيقي للمقاومة، إنه الفن الذي يقول كل شئ، وهو يوهمك بأنه لا يقول شيئا، ضحك ولعب وجد وحب وغناء في بناء فذ، وبساطة ممتنعة، تعرف جمهورها مثلما تعرف قضيتها وأدواتها، ألم يكن فنان الأراجوز الشبعى يفعل ذلك؟

هذه هى السينما وقد صارت فرجة شعبية، تمتع الناس العادية، مثلما تمتع النخبة، فيلم يثق في جمهوره الذي لا يختلف عن لبلب، جمهور “يفهمها وهية طايرة”، وهى نفس الثقة في الناس التي أخذت تغنى ” يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح”، وهى تقصد تحية سعد زغلول زعيم الثورة، دون أن يفهم المحتل الغبي شيئا، هنا روح مصرية صميمة شكلا ومضونا، جدا وهزلا، وهنا تذوب الصنعة في الموهبة، فيصبح التأثير عابرا للأجيال.

رحل الإنجليز عن القناة، ثم احتلوها بعد عدوان 1956، ثم رحلوا عنها، واحتل اليهود سيناء بعد 67، ثم رحلوا عنها، وظلت أمثولة الفيلم حاضرة، في قدرة الناس على هزيمة الغرباء الأقوياء، وظلت فكرته لامعة في أن المصريين يفعلون كل شىئ، حتى المقاومة، وهم يسخرون ويضحكون، وأنهم أهل اللطافة والمفهومية، يصفعون بالأكف وبالنكات، يغنون ويحبون ويضحكون، ويحملون حكمة الأسلاف في الصبر والمكر، ويعرفون بالضبط طريقة التعامل مع “الجار السوّ”، وعندما يقفون معا لا يقهرهم أحد، حتى لو كان في قوة شمشون.

أعتقد أن رقابة تلك الأيام فهمت مغزى الحكاية، وأجازت الفيلم في عرضه الثاني، وتقبلت بسهولة تغيير اسم شمشمون، لكي تمرر الفيلم من جديد بعد التعديل في الأسماء.

 ظلت الحكاية كلها شاهدة على وعى ضاحك وفريد، ولذلك يستحق الفيلم مكانته في أي قائمة افتراضية لأفضل أفلامنا الكوميدية السينمائية، ليس في القرن العشرين فحسب، ولكن على مر العصور.

Visited 134 times, 1 visit(s) today