عبقرية “المواطن كين” في مئوية الأسطورة أورسون ويلز

Print Friendly, PDF & Email

” ليكن نور، مثل الله عند خلقه للعالم ” بهذه الكلمات عرف المخرج الأمريكي أورسون ويلز 1915(-1985) فيلمه “المواطن كين” في الإعلان التجاري الموجز الخاص به ، لكن ويلز الذي مرت الذكرى المئة لميلاده  في السادس من مايو لم يكن مخطئاً في تقديره الذاتي الكبير تجاه فيلمه هذا رغم المعنى الضخم للكلمات التي عرفه بها كضخامته هو نفسه، والذي اعتبره كثيرون أنانياً ذا اعتزاز كبير بنفسه، ففيلم “المواطن كين” الذي صنعه ويلز الفتى الذي لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره في عام 1941 والمستوحى عن قصة حياة امبراطور الإعلام الأمريكي في حينها (وليام راندولف هيرست ) كان بمثابة البداية الحقيقية لمفهوم الفيلم السينمائي، ومنعطفاً ثورياً ونهضوياً لفن السينما ككل الذي كان في حينها فناً حديثاً لم يكن قد مر بعد نصف قرن على مولده، حيث كانت أبواب هذا الفن لاتزال  مشرعة على كل أنواع التجريب البصرية والفكرية.

بداية الأسطورة

لم يأت الفتى المعجزة (جورج أورسون ويلز) من عالم السينما والتصوير كمعظم سينمائيي عصره، وإنما جاء من عالم الصحافة والإذاعة والمسرح الأمر الذي ظهر تأثيره جلياً عليه من خلال توظيفه الجميل لتقنيات تلك الفنون التي عمل بها سابقاً في فيلمه المواطن كين، كاستخدامه المميز للصوت والتعليق السردي في الفيلم الوثائقي الذي روى قصة فوستر كين في افتتاحية الفيلم، ففي عام 1936 قدمَ أورسون إبن الحادية والعشرين في هارلم مسرحية “ماكبث” لويليام شكسبير، ولم يعط الأدوار فيها لممثلين محترفين بل لقارعي طبول سود من هاييتي كان قد تعرف عليهم في إحدى رحلاته ، ثم قدم الفتى المشاكس في العام التالي مسرحية “سوف يهتز المهد”عن أوبرا مارك بلتزشتاين التي تصور الحكام الفاسدين والمضطهدات في منطقة صناعية نائية إسمها ستيل كاون، والذي منعت الشرطة عرضها الأمر الذي دفع ويلز لقيادة مظاهرة جماهيرية منددة بهذا المنع وصل بها حتى مسارح برودواي،  ثم استأجر قاعة صغيرة وارتجل بها عرضاً انفرادياً.

ولعل علامات التمرد وتحطيم كل ماهو سائد بدأت تظهر منذ ذلك الحين عند الشاب الجديد جورج المؤمن بأفكاره وتصوراته إيماناً جماً، ولم تكن  تلك المسرحية سوى بداية لسلسلة متوالية من المشاكسات والمفاجآت التي سوف يقدم عليها ذلك العبقري لاحقاً، ففي عام 1938 أراد ويلز أن يفاجئ جمهوره الإذاعي فقدم لهم على الأثير مسرحية “حرب العوالم ” وجعل سكان المريخ يحولون ناطحات سحاب نيويورك إلى ذرات من الغبار فدب الرعب في قلوب مستمعيه ليفاجأهم ويلز في نهاية المسرحية ويقول لهم أنه أحب أن يمازحهم في ليلة عيد جميع القديسين.

كل تلك البدايات لم تكن سوى مناوشات فنية من ذلك الشاب العشريني ولم تظهر إلا أجزاءً صغيرة جداً من الموهبة الكبيرة المتميزة والطاقات الفكرية الإبداعية اللامنتهية التي كان يملكها، إلى أن جاء عام 1941 وصنع َ تحفته الخالدة “المواطن كين” الذي كتب نصه ُ ويلز – بمشاركة هيرمان مانكويكز– وأدى بطولته وأخرجه، ليأخذ في تجربته الرائدة هذه الشريط السينمائي على عوالم بصرية جديدة لم يسبقه أحد إليها، ومصقولة بحرفية شديدة خلقتها موهبته النادرة لاخبرات العمل السابقة.  

دفءُ العالم في زلاجة

بنيت قصة فيلم “المواطن  كين” على فكرة مميزة هي البحث عن سر كلمة “روزبد”، وهي  الكلمة الأخيرة التي نطقها رجل الإعلام الأمريكي الثري فوستر كين قبل مماته ، تلك الكلمة التي حيرت الصحافي “ثومبسون” الذي صنع تقريراً اخبارياً مصوراً عن كين لصالح المجلة السنمائية التي يعمل بها، لكن رئيس تحرير المجلة لم يكتف بالمعلومات الواردة بذاك الريبورتاج المصور الذي شاهده مع ثومبسون وباقي فريق العمل بل أراد للشريط أن يحمل طابعاً تشويقاً عن حياة امبراطور الإعلام الأمريكي الذي امتلك سادس ثروة في العالم، فطلب من ثومبسون أن يبحث له عن معنى آخر كلمة نطقها، لتبدأ رحلة بحث ثومبسون عن هذه الكلمة الغريبة التي كانت آخر كلمات فوستر كين ابن المهاجرين الأمريكيين الفقراء الذي قررت أمه في يوم شتائي بارد أن تبيعه إلى أحد أصحاب البنوك حين لم يكن يتجاوز العاشرة من عمره أملاً منها بأن ينعم في حياة هانئة من المستحيل أن يحياها في كنفها.

وقد قدم ويلز ذاك المشهد- الذي مازال يُدرس حتى يومنا هذا- بجمالية بصرية ذات عمق فكري كبير حيث يظهر كين الطفل من نافذة المنزل وهو يلعب بزلاجته على الثلج خارج المنزل بفرح وسعادة غامرة لتتراجع الكاميرا بحركة كرين انسيابية وتظهر لنا والدة كين تجلس مع ثاتشر مالك البنك الثري الذي يشرح لها الامتيازات والثروة التي سيحصل عليها ابنها يوما، ما ويطلب منها أن توقع العقد ليبين لنا ويلز أن سعادة الطفل الغامرة التي ظهرت في أول لقطة بالمشهد ينتظرها خلف الكاميرا حدث جلل وقرار قدري اتخذته والدة الصبي سيجعل ابنها من أتعس الكائنات الأرضية يوماً ما رغم الثراء المادي الهائل الذي كان ينتظره، وحين يرفض  كين الصغير الذهاب مع ثاتشر ويضربه بزلاجته ويوقعه أرضاً يركض والده ويتقدم من ثاتشر ويقول “الأولاد يجب أن يضربوا باستمرار” فتنظر زوجته إليه نظرة عاتبة وتقول “هل عرفت الآن لماذا لا أريده أن يبقى هنا ” ثم تطلب من صغيرها الذهاب معه وتخبره أنه سيكون سعيداً هناك فيرضخ الصبي في نهاية الأمر ويرافق ثاتشر للبدء برحلة الثراء ، تاركاً وراءه زلاجته الخشبية التي بقيت وحيدةٌ في الخارج وقد بدأت الثلوج تغمرها، زلاجته ُ هذه التي ستبقى ذكراها ولحظات اللعب بها على الثلج وهو صغير رمزاً وحيداً للحب والدفء في حياته، ومصدر السعادة الوحيد الذي حرمهُ منه ثاتشر الثري حين انتزعهُ من أحضان أمه ليزجه به في عالم المال والغنى الفاحش.

لقطة من الفيلم

هذا المشهد يكشف لنا في النهاية أن كلمة “روزبد” آخر الكلمات التي نطق بها كين واللغز الذي حير ثومبسون وفريق تحرير المجلة المصورة ولم يستطيعو فك طلاسمه أبداً هو إسم زلاجة كين التي تركها مرمية فوق الثلوج ساعة غادر مع ثاتشر، حيث يصورها لنا ويلز في المشهد الأخير وهي تدخل إلى المدفأة ليتم إحراقها كغرض ليس لهُ أدنى قيمة وكأنه يقول أن السر زال بزوال صاحبه ، فإذاً فوستر كين الشاب الثري، الطموح المتسلط الذي كان يسيطر على معظم صحف الولايات المتحدة وإذاعاتها، صاحب (زانادو) تلك القلعة التي جلب العالم كله ووضعه داخلها، كان في الحقيقة يفتقد لأهم شيء في الوجود وهو الحب، ونرى ليلاند يؤكد هذا للصحافي ثامبسون حين زاره الأخير في دار العجزة ليعرف منه سر كلمة روزبد بقوله له: “كان لا يريد سوى الحصول على الحب، ومن أجل هذا أراد أن يحبه الجميع “، لأن الحب والدفء كان لا يستيقظان في قلب كين البارد إلا حين يتذكر لعبه على الثلوج برفقة زلاجته وكان حنينه الوحيد هو تذكر تلك اللحظات الحميمة يوم كان قريباً من أمه، فزانادو وتماثيلها الضخمة وحدائقها المليئة بكل أنواع الحيوانات والطيور لم تشعره يوماً بالسكينة والسلام الذي كان ينعم بهما أثناء لعبه على الثلج، فالثلج كان بالنسبة لكين مصدراً للدفء والحنان على عكس الآخرين، ولحظة موته نراه يحمل بيده كرة زجاجية بداخلها ثلوج، ويتأكد هذا الحنين في المشهد الذي التقى فيه كين الكهل لأول مرة بزوجته الثانية سوزان المغنية – التي لاتمتلك موهبة الغناء – أثناء ذهابه إلى متجر ابتاع أغراض والدته بعد مماتها بقوله : “كنت ذاهباً لاستعادة صباي” ذلك الصبا الذي حرمهُ منه ثاتشر يوماً ما حين انتزعه منه قسراً، لذلك نرى أن انتقام كين من ثاتشر بمجرد استلامه لأمواله وللصحيفة لم يكن عبثاً أو لهواً وإنما كان نابعاً من شعور عميق بالكره تجاه هذا الرجل: “أحب أن أفعل كل مايزعجك “، ولاحظنا كيف أن ثاتشر لم يكن بالنسبة لكين مارد المصباح الذي حقق له كل مايتمنى أي إنسان، بل كان في حقيقة الأمر لعنةٌ نزلت عليه وحرمته الحب والحنان الحقيقيين والذي ظل تواقاً  لاسترجاعهم حتى مماته.

كين يتماهى مع ويلز

لم تكن شخصية فوستر كين في الفيلم سوى انعكاس لطموحات أورسون ويلز نفسه أو كما كان يشتهي أن يكون مستقبلاً، ومن يطلع على سيرة ويلز الذاتية أو السير الكثيرة التي رويت عنه يكتشف هذا، ويؤكد بيتر كونراد هذا في كتابه “أورسون ويلز وقصص حياته” – ترجمة عارف حديفة من إصدارات المؤسسة العامة للسينما في سوريا – حين قال: “كان “المواطن كين” إحدى سير أورسون ويلز التي روت سلفا قصة حياة لم يكد يبدأ في عيشها “، فالحقيقة أن أورسون ويلز كان يحب كين ومتعاطفاً معه ولم يصنع فيلمه هذا المستوحى كما قيل من قصة حياة رجل الإعلام الأمريكي هيرست للإساء إلى هيرست الذي ظل يحارب الفيلم عاماً كاملاً ويسيء إلى ويلز في صحفه لدرجة أنه حاول كثيراً أن يقنع شركة RKOالمنتجة للفيلم أن تقوم بإحراق الشريط وإتلافه كي لا يعرض في الصالات لكن محاولاته كلها باءت بالفشل ليعرض فيلم “المواطن كين” في أواخر عام 1941. وحين التقى ويلز بهيرست أهداه بطاقة لحضور العرض لكن الأخير رفضها بفظاظة الأمر الذي أثار استغراب أورسون وجعله يقول “لو كان كين مكانه لقبلها”.. مما يؤكد  لنا من جديد محبة ويلز لكين وتماهيه معه، أما هيرست فقد يكون غضبه واستياؤه من الفيلم  مبرراً إن كان سببه تلك المعلومات التي وردت في وثيقة اكتشفت ولا نعلم مدى مصداقيتها تقول إن “روزبد” هو إسم الدلع الذي كان يطلقه هيرست على فرج عشيقته!

أسطورة سينمائية

كان ويلز المثقف العتيد والفنان الجامح صاحب الفكر الخلاق والموهبة الاستثنائية، يمتلك كماً هائلاً من الطاقات الجمالية قام بتوظفها كلها في فيلم “المواطن كين”، تلك التحفة السينمائية التي خلدت إسمه وأسست لمدرسة ويلزية مازال أسلوبها يدرس حتى يومنا هذا في كافة معاهد السينما في العالم ، فمن ناحية النص السينمائي للمواطن كين كان ويلز رائداً في هذا الأسلوب السينمائي الجميل من حيث تعدد الأزمنة السردية والبناء المتميز ، أما من الناحية البصرية فقد قدم ويلز صورة بديعة وأسلوباً مميزاً في حركة الكاميرا والإضاء لم يقدمه أحدً قبله فكان نموذجاً يحتذى لمفهوم الكتابة بالصورة.

وسبق ويلز عصره  بأشواط في هذا الفيلم مما حير كل من شاهده في حينه، ومنهم أعضاء الأكاديمية فاحتاروا بنوع الجائزة التي سيمنحوه إياها فأعطوه أوسكار أفضل سيناريو وقد صنفت مجلة “سايت آند ساوند” البريطانية الفيلم في سبعينيات القرن الماضي واحدا من أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما، وكثيرون صنفوه على أنه أهم فيلم في تاريخ السينما لأنه كان الركيزة السينمائية الأولى لكل الأفلام التي انطلقت بعده بوضعه أسساً علمية للفيلم السينمائي لم يسبقه أحداً فيها، فأورسون الساحر والمتعدد المواهب والطفل العابث المرح والذي احتفى مهرجان كان 68 هذا العام بمرور مائة عام على مولده، بعرض ثلاثة أفلام له (المواطن كين، سيدة من شنغهاي، الرجل الثالث) وفيلم وثائقي عنه للأميركي تشاك روكمان بعنوان “الساحر” أنهى حياته بالظهور في إعلان لنوع من الويسكي الياباني حيث قدم نفسه في الإعلان قائلاً : “مرحباً أنا أورسون ويلز، أخرج أفلاماً وأمثل فيها “.. و تلك النهاية لم تكن مستغربة لشخص متعدد المواهب مثل ويلز والذي قال عن نفسه يوماً “كنتُ دائماً أطمح أن أكون أكبر من الحياة، وهذا خطأ في طبيعتي”.

* ناقد من سورية

Visited 34 times, 1 visit(s) today