“صديق الكلاب”.. سردية لوك بيسون عن الوحدة والعزلة وأشياء أخرى

بعد أن أمضى الشاعر الفرنسي “ألفونس دو لامارتين”، حياة اجتماعية وسياسية صاخبة، سواء بالصعود المتدرج في سلالم السلطة، أو بين الصفوف الخلفية للمعارضين، توارى في انزواء ووحدة، ولم يساهم سوى تدفق الأبيات الشعرية، في التقليص من التداعيات المحتملة لهذه الوحدة القسرية التي يُعبر عنها بقوله “كلما كان هناك تعيس حظ، يرسل الرب كلباً”.

ومؤخراً استعار المخرج الفرنسي “لوك بيسون”، هذا الشطر الشعري السابق ذكره، حيث يُفتتح بكلماته فيلمه الأحدث “صديق الكلاب” أو DogMan إنتاج عام 2023، والذي قد يبدو من النظرة الأولى مُغايراً عن السائد في مسار أفلامه، حيث يبرز الاتكاء على القوة الكبرى للخيال اللا محدود، لكن بقليل من التأمل، يُمكن إدراك، أنه على الرغم من الابتعاد الظاهري للفيلم عن العوالم المألوفه لمخرجه، والإنطلاق نحو ما هو أرحب وأكثر إتساعا، بما يحوي بين طياته وجبة دسمة من الأفكار الوجودية، إلا أن بصمات الخيال الجامح لا تزال حاضرة بطريقة أو بأخرى.

فنحن أمام شخصية تكتلت ضدها الظروف المحيطة، ودفعتها نحو تعويض الغياب الإنساني، بالحضور الحيواني، أو بمعنى أكثر دقة، مرافقة الكلاب، لا بالمفهوم المعتاد والمكرر مضمونه، لكن بالمعايشة الكاملة بين هذا الإنسان وتلك العناصر الحيوانية، التي تبدو رغم تكوينها وهيئتها المُتباينة، أقرب في طبائعها ومعاملاتها إلى البشر، منها إلى الكلاب.

وهنا لابد أن يُستدعى السؤال التقليدي عن سبب تلك الحياة الغريبة.

وللإجابة عن هذا السؤال، يتحتم علينا العودة إلى المشاهد الأولى من الفيلم، والتي تكشف عن لحظة إلقاء القبض على “دوغلاس مونرو” (كاليب لاندري جونز) أثناء هروبه من المستودع الذي يُقيم فيه برفقة أصدقائه من الكلاب، ويودع أحد مراكز الشرطة التأهيلية، وبما أن مظهره الأنثوي لا يخفي رجولته الكامنة، حينها يُصبح اللجوء إلى “د. إيفيلين” (جونيكا تي غيبس) فريضة أساسية، لكي تسعى عَبر أساليب الطب النفسي، إلى محاولة فهم ما عصي على زملائها.

مع حضور الطبيبة النفسية إلى مسرح الأحداث، يبدأ السرد في الإنطلاق والتشعب، وكأنها عامل مُحفز، يُساهم تواجده في دفع مسار السرد للأمام، فقد نسج السيناريو بنيانه الدرامي مُستنداً على الزمن الرئيسي للأحداث، والذي نراه بصورته المضارعة المستمرة، “دوغلاس” أثناء لقائه المطول مع الطبيبة، يُزيح عن كاهله أطنان النفايات الماضية، ومن خلال هذا الزمن الأصلي، تتوالد أزمنة أخرى، جميعها تنتمي إلى الماضي، البعيد والقريب على حد سواء، كل منها يكشف عما في جعبته من أحداث، وفي الاتحاد المنتظر بين هذه الشذرات الزمنية وبعضها البعض، تتكامل الصورة العامة للشخصية محل التناول.

فالبداية مع الحاضر، ومنها العودة إلى الماضي البعيد، الطفولة التي أدت جذورها العميقة في شخصيته إلى التحقق الأمثل لما يُعانيه من مسوخ داخلية، تطورت فيما بعد مع تفاعل مكونات الوحدة والتجاهل سوياُ في المراهقة والشباب، كل من هذه الاشتراطات النفسية، جرى توليفها في وحدة عضوية واحدة، وكان الناتج النهائي، هو تلك الشخصية الأنثوية المظهر، الذكورية التكوين.

وهكذا يتوالى الحكي وفق هذه المصفوفة السردية، المشدودة الإيقاع والمحكمة الصياغة بدرجة مشهودة الكفاءة، وكلما ازداد توغلنا في عمق الحكاية، كلما أتسع معه نطاق الرؤية، التي تتماس مع الطبيبة النفسية ذاتها، فالواقع أن حياة “دوغلاس” ما هي إلا انعكاس لحياتها الماضية، والتي بدورها تؤثر مباشرة على طفلها الرضيع، فكل من هؤلاء الثلاثة، ضحايا القسوة الأبوية، وعند هذه النقطة ينزاح غموض مضمون الفيلم، المعني في المقام الأول بالتعبير عن قسوة العالم، التي في امتزاجها الوثيق مع الماضي، يشكلان حجراً ثقيل الوطأة، يتعذر معه ممارسة أدنى درجات تخفيف سطوة هذا الحِمل الراكد.

وعندها يُمكن الوصول إلى صيغة تفاهمية بشأن العلاقة الوثيقة الصلة، بين بطلنا والكلاب، فالصراع الخامل بين قسوة الأب من ناحية، وسكون الأم وتراخيها في المواجهة من ناحية أخرى، أفرز تلقائياً هذا العشق الفطري للكلاب، التي ساهمت بحضورها الطاغي، في تعويض هذا الغياب القسري للأبوين، فالأب الذي يعمل في تعليف هذه الحيوانات للمراهنات، لا يرى فيها سوى خزينة متنقلة للأموال، بينما في المقابل تُصبح عفوية وليونة الإبن معها، دافعاً لإنشاء هذه العلاقة الحميمة بينهما، وتتحول من كينونتها الحيوانية، إلى ما هو أعمق وأكثر دلالة.

بين ليلة وضُحاها، يسرد “دوغلاس” وقائع حياته أمام الطبيبة، التي ستتلاقى هي الأخرى مع المتفرج في الإحساس بالدهشة، فحياة البطل السابقة، والتي يُقدمها الفلاش باك، لا تحوي من القسوة قدراً وفيراً فحسب، لكنها تملك كذلك ما لذ وطاب من المصادفات الغرائبية، والتي تبدأ تسلسلها بعد إصابته بعيار ناري في الظهر انطلق بعفوية مقصودة من سلاح الأب، أفقده منذ ذلك الحين القدرة على الحركة، في تلك الأثناء ستوحد كلاب الأب جهودها لإنقاذ صديقها المقرب، فالوفاء سمة أساسية لدى هذه الكائنات، يفتقدها المرافق البشري، وبعد أن تكتمل أركان ودوافع هذه العلاقة الوطيدة، يخلق السيناريو عالم البطل الموازي، والذي تكاد تنعدم فيه فرص الصداقة الإنسانية، على حساب تعاظم فرص التعايش بين الإنسان والكلاب.

فمحور الفيلم يدور عن شخصية مركزية، هي المحرك والفاعل للأحداث، وبالتالي يتعمق السيناريو في تأسيس أركان عالمها، فبنظرة بانورامية على حياة “دوغلاس”، نرى أنه يعيش داخل أحد المستودعات المهجورة، لا يكاد جسده يفارق المِقعد المتحرك، والكلاب تُحيط به من جهاته الأربع، تكفي إيماءة خفيفة بالرأس، أو لمحة مسرعة من إحدى عينيه، حتى تُنفذ الحيوانات رغباته، جميعها طوع أمره ورهن إشارته، ويبدو البطل مُشيداً حدود عالمه بدأب ودقة متناهيتين، بينما يقبع العالم الحقيقي في الخارج، فالسلطة هنا للهامش المُمسك بحواف المُتن كذلك.

في هذا العالم المغزول بالطيبة والرقة، يُستعاد فيه قبساً من مُشهيات الماضي، والتي لا تتمثل سوى في أمه، حيث يُعيد تجسيد حضورها الغائب، بإرتدائه الملابس النسائية وإنصاته للموسيقى والأغاني الأوروبية، مثلما كانت تفعل هي في ساعات صفوها، من كدر معاملة زوجها البالغة القسوة.

ومن ثم يبدو الماضي، رغم ما يكنه من مأساوية واضحة، إلا أن ذكرياته الطيبة، بمحدودية مساحتها، راسخة الحضور، ومُستعدة على الدوام والاستمرار لإعادة الإحياء، فمثلا نرى “دوغلاس” في أحد المشاهد أثناء أدائه أغنية Non, je ne regrette rien للمطربة الفرنسية “إديث بياف، والتي تتضمن كلماتها معنى عدم الندم على ما سبق من أحداث، الخير منها أو الشر، فكل ذلك على نفس قدم المساواه ذاته، في ذكاء إخراجي، يُجيد توظيف المقاطع الغنائية والشعرية، مع سياقات البطل المُتعددة الأوجه.

يواصل “دوغلاس” سرد ما تيسر عن محطات حياته السابقة، والتي تكشف بين طياتها عن بعض الجرائم، التي تستوجب التحقيق والعقوبة، لكنه يُقدم دوافعه والتي تتماس مع رؤيته وتفاعله مع العالم المحيط به، فقد رسم السيناريو الشخصية بحيث تحمل نزوعاً نحو العدالة الاجتماعية، وكأنه يُحرز انتقاماً شخصياً عن تهميشه المعلن، لذا يكون من كلابه تشكيلاً عصابياً، قوامه سرقة الأثرياء، أو مساعدة الضعفاء وقليلي الحيلة لممارسة حيواتهم بحرية، ومن ثم يبدو هذا الاستعداد الفطري للمساعدة، ما هو إلا إثبات لأحقيته في التواجد داخل حدود هذا العالم المليء بالكراهية والمدُعم بالقسوة المفرطة.

فالواقع أن الصراع الدارمي ينطلق من هذا الاحتكاك بين الطيبة والقسوة، فالتضاد بين هذا العالم وذاك، هو الثغرة التي أدت فيما بعد إلى ما وصلت إليه حياة البطل، من عزلة اختيارية وما يرافقها من تبدلات وتغيرات جذرية في شخصيته، وبالتالي يُمكن حينها استنباط كنه العلاقة بينه وبين أصدقائه الكلاب، فكل من البطل والحيوان، يشتركان في معاناة الهامش، ويطمح كل منهما نحو نظرة حانية، تملك من الحب ما يكفي لإزاحة أرق الماضي، أو بمعنى أكثر وضوحا، فإن سعي البطل ما هو سوى بحث محموم عن التحرر، لا من أسر محدودية حركة جسده فحسب، لكن من حصار آلامه الذاتية، ولا يبلغ الدرجة الكاملة من التحرر الذاتي، إلا مع وصولنا للمشاهد الختامية التي يُطالعنا فيها “دوغلاس” بعد هروبه من محسبه بمعاونة من كلابه المخلصين، لنجده يقف أمام البنيان القائم للكاتدرائية، التي تستريح ظلال صليبها الكبير على الأرض المقابلة، ليبدو بجسده الثابت، والكلاب تُحيط به، كمسيح يُجدد بيعة العهد القديم بآخر جديد، لكن هذه المرة، خالية من الآلام.

وفي هذا الإطار يقول مخرج الفيلم لوك بيسون: “تأتي الصدمة من الوحدة، عليك أن تُنقذ نفسك، أن تجد سبباً كافياً لمواصلة الحياة، ومن ثم فقد انجذبت إلى الحب الغير مشروط الذي تُقدمه الكلاب إلى أصحابها”.

ومن منا لا يحتاج إلى الإئتلاف بهذا النبع من الحب اللا محدود فيضانه؟ـ=

Visited 7 times, 1 visit(s) today