سلسلة “الوجهة النهائية”.. هل تقدم فلسفة للموت؟
د. ماهر عبد المحسن
تيمة القدر والنصيب تعد موضوعا خصبا للأعمال السينمائية، لأنها، بطبيعتها، تحتوي على قدر من التشويق والإثارة، كما تتضمن حبكتها، في الغالب، شيئا من الحكمة الفلسفية التي تختلف درجة عمقها من فيلم إلى فيلم بحسب السيناريو. ولأن سلسلة أفلام “الوجهة النهائية” Final Destination اختارت فكرة الموت موضوعا لها، فلنا أن نتساءل إلى أي مدى نجحت السلسلة، بأفلامها الستة، في تقديم نظرية متكاملة عن فلسفة الموت؟
بدأت السلسلة فيلمها الأول عام ٢٠٠٠ ويُعرض الآن جزؤها السادس بعد أربعة عشر عاما من عرض جزئها الخامس. تدور أحداث الجزء الأول حول شاب يُدعى أليكس براونينج يسافر في رحلة جوية ضمن مجموعة من طلبة المدرسة، وقبل إقلاع الطائرة يرى عن طريق الحدس أن الطائرة سوف تقع ويموت كل من فيها، الطاقم والركاب، في كارثة إنسانية مدوية. يحاول أليكس إخبار الجميع بوقوع الكارثة دون جدوى، وعندما ينفعل ويحدث جلبة في الطائرة التي على وشك الإقلاع، يتم استبعاده من الرحلة هو وبعض أصدقائه. وتكون المفاجأة سقوط الطائرة بعد إقلاعها بقليل على نفس النحو الذي سبق أن رآه أليكس في رؤيته الحدسية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، لكن تبدأ الأحداث المفجعة بعد ذلك، حيث يموت كل الأفراد الذين نجوا من الكارثة، كلٌ على حدة، بميتات مختلفة ومرعبة في آن!
ومن خلال مسار الانفجارات التي حدثت في الطائرة، وفقا لتقارير الحادثة، استنتج أليكس أن للموت خطة، واستطاع من خلالها أن يتنبأ بالشخص التالي في سلسلة الموت التي تلاحق الشخصيات الناجية من كارثة الطائرة. وعلى أساس من هذا الاستنتاج عمل على منع الموت من تنفيذ خطته في سياق أحداث مثيرة ومرعبة، يسابق فيها أليكس الزمن من أجل إنقاذ أصدقائه من وقائع الموت الوشيك.
تندرج السلسلة تحت تصنيف افلام الرعب، وتعتمد في أحداثها على ابتكار طرق مختلفة ومتنوعة لموت الضحايا. وبهذا المعنى لا تناقش السلسلة فكرة الموت بنحو متعمق، لكن فقط تتخذها كوسيلة لتحقيق التوتر، وإثارة الخوف والقلق لدى المشاهد قبل وقوع صدمة الموت المفاجئ. يبتكر صناع الفيلم كل الحيل والألاعيب التي يمكن أن يقوم بها الموت حتى يخدع الناجين ويفتك بضحاياه دون رحمة، وكأن ثمة ثأرا كبيرا بينه وبينهم بلا سبب واضح عدا نجاتهم من الميتة الكارثية الأولى!
لا يتبين من الحوار أي ملمح فلسفي حول الموت عدا الكلام المكرر عن فكرة “خطة الموت” أو “قائمة الموت”، دون تعميق للفكرة أو إضافة أي تفاصيل جديدة يمكن أن تؤكد مصداقيتها أو تلقي بضوء جديد على الموضوع، عدا أن الموت يمكن أن يغير خطته ويتخطى الضحية، التي حان دورها في القائمة، إلى أخرى إذا نجح الناجون في إنقاذها.
والواقع أنه لا توجد أية حكمة أو فلسفة حقيقية في الجزء الأول، لكن هناك أفكارا سينمائية محدودة لا تجاوز مشاهد الموت المفزعة التي تلاحق الضحايا وتخلق التوتر والإثارة الدائمة للمشاهد. وإن ثمة من حكمة يمكن استخلاصها من بين ركام هائل من الرعب والدم، فهي أن الموت قدر لا يمكن الفرار منه. وهي حكمة بديهية لا تضيف جديدا للمشاهد.
في الجزء الثاني تغير فريق العمل، الممثلون بخاصة بحكم طبيعة الموضوع الذي يحتم موت الجميع، ولم تستمر سوى شخصية كلير الوحيدة التي نجت من الجزء الأول وتم إيداعها مصحة نفسية، بإرادتها، هربا من الموت!
وفي هذا الجزء لا نعثر على جديد، فالفكرة هي نفسها والأحداث متكررة، مع اختلاف الشخصيات وطرق الموت الذي يحصد الجميع في النهاية، وإن كان بنحو أكثر دموية.
تبدأ الأحداث، كما في الجزء الأول، بكارثة كبيرة يتنبأ بها أحدهم حدسيا، ثم تتحقق مع نجاة البعض الذي يلاحقه الموت، بعد ذلك، طوال الأحداث. لا جديد سوى أن الكارثة وقعت هذه المرة على الطريق السريعة، والشخصية التي تنبأت بالكارثة كانت فتاة، كيمبرلي كورمان، كما أن الفكرة الرئيسية، خطة الموت، أُضيف إليها تفصيلة جديدة وهي الحياة، فالموت يمكن أن يتأخر إذا كان ثمة ميلاد لطفل جديد. وبهذا المعنى، كان على الناجين من الكارثة، الضحايا المحتملين، أن يعثروا على الناجية التي كانت على الطريق وتحمل جنينا في بطنها على وشك الميلاد.
في الجزء الثالث جاءت نبوءة الموت الكارثي من قبل فتاة أيضا، تُدعى ويندي، وكانت الكارثة أكثر ترويعا، لأنها وقعت داخل قطار أفعواني في ملاهي تقدم ألعابا خطرة، وتفقد الفتاة حبيبها منذ الدقائق الأولى للأحداث المأساوية، ثم تموت فتاتان بشكل مروع في مركز للتجميل. والإضافة الجديدة التي حملها هذا الجزء هي تشخيص فكرة الموت، للمرة الأولى في السلسلة، وربطها بالشيطان. تبدى ذلك من خلال لفتة ذكية من الفتاة صاحبة النبوءة عندما لاحظت في صور الضحايا وجود تمثال للشيطان في الخلفية، ما يعني أن ثمة علامة يمكن من خلال تتبعها التنبؤ بالضحايا الجدد الذي سيصل إليهم الموت لا محالة.
كما يُلاحظ في هذا الجزء حضور طفيف وغير مقنع للخطاب الديني الوعظي عن الموت من قبل القس الذي يتلو الأدعية فوق المقابر. وهو خطاب تقليدي تبريري لم يقنع الشباب الذي كان حاضرا في الجنازة، كما يمكن اعتباره خطابا موازيا لخطاب الطبيب الشرعي ويليام بلودورث، ذي الطابع الفلسفي، الذي كان موجودا في الجزئين الأولين. غير أن الخطاب العلمي كان له الحضور الأقوى في هذا الجزء من خلال الحوار الذي دار بين ويندي وصديقها كيفن من جانب وبين أحد المهندسين من جانب آخر، لأنه تعلق بمفهوم الموت في حد ذاته، وهل هو قوة غير واعية أم كيان واع له إرادة ويتحرك وفق خطة محددة، كما تدعي ويندي؟ ويتطرق الحوار إلى مفهوم الحياة، وكيف أنها مجرد نشاط بيولوجي وأن الموت يحضر عندما يتوقف هذا النشاط. وتظل فكرة حتمية الموت هي الحقيقة التي لا يختلف عليها أحد.

والمُلاحظ أن الضحايا المحتملين لا يجادلون في فكرة حتمية الموت، لكن يجادلون في الطريقة المدبرة سلفا لموتهم كما تزعم ويندي، المعروفة بحب السيطرة وهو ما يضعف موقفها أمام الآخرين. كما يُلاحظ أن خطاب القوة الذي يقدمه أحد الرياضيين لا يتأسس على أي منطق عدا القوة المتمثلة في عدد البطولات التي حصل عليها، وتلك التي يسعى للحصول عليها. وبهذا المعني لا يحفل بالموت ولا يفكر فيه، غير أن الموت لا يحفل بالجميع، ويقتلهم واحدا واحدا بميتات شنيعة في اللحظة نفسها التي يظهرون فيها تحديا للموت!
وبالرغم من تأكيد نبوءة ويندي طوال الأحداث إلا إنها، مثل أليكس وكيمبرلي في الجزءين السابقين، لا تشعر بالانتصار، لكن بالهزيمة لعدم قدرتها على إنقاذ الضحايا الذين يلقون حتفهم، واحدا تلو الآخر، أمام عينيها.
يعتمد هذا الجزء كثيرا على فكرة العلامات، وهي فكرة مثيرة وتحمل شيئا من المنطق بالرغم من قيامها على غير أساس سوى التخمين. وضح ذلك من خلال محاولة وندي وكيفن قراءة العلامات الموجودة في خلفية الصور التي التُقطت للناجين من كارثة الملاهي الجماعية ويتوقع لهم الموت منفردين.
ينتهي الفيلم، على غير عادة أفلام السلسلة، بنبوءة كارثية أخرى تحدث داخل قطار سريع يخرج عن القضبان، وتظل ويندي وكيفن وبعض الأصدقاء على قيد الحياة في الحقيقة بالرغم من موتهم في النبوءة، ما يعني أن الجزء الرابع سيبدأ بالشخصيات التي نجت من الجزء الثالث في دائرة جهنمية لا تنتهي!
وعلى غير المتوقع يبدأ الجزء الرابع من نقطة الصفر بأبطال جدد، وكارثة أخرى جديدة، غير كارثة القطار في نهاية الجزء الثالث، تقع في ملعب كبير لسباق السيارات، ويكون صاحب النبوءة هذه المرة هو الشاب نيك أوبانون. وتواصل السلسلة، في هذا الجزء، لعبتها الخطرة والمميتة من خلال السيناريو المتكرر نفسه الذي حفظه المشاهدون، نبوءة بكارثة كبرى ثم ضحايا ثم ناجون يتحولون إلى ضحايا من خلال أحداث مثيرة ومرعبة تستغرق الفيلم كله.
لكن الجديد أن نيك لا يتنبأ بالكارثة عن طريق الحدس وحده، وإنما بالاستنتاج كذلك من خلال فكرة العلامات التي توسع فيها السيناريو في هذا الجزء. فالعلامات لم تعد قاصرة على خلفيات الصور التي التقطت للكارثة كما في الجزء الثالث، لكن امتدت لتشمل كل البيئة المحيطة بالكارثة من صور وملابس وأشياء، كأن يقرأ نيك عبارة على تي شيرت أو يلمح شرخا في جدار أو تلتقط أذناه عبارة قالها أحدهم قبل وقوع الكارثة بقليل. يضاف إلى ذلك أن قدرة نيك على التنبؤ تستمر طوال أحداث الفيلم بحيث لا تقتصر على الكارثة الجماعية الأولى، ولكن تلاحق الأفراد الذين نجوا من الكارثة في محاولة لإنقاذهم، وإن كان الموت، كعادته، يأتي سابقا النبوءة بخطوة!
الحديث عن الموت بدأ قبل وقوع الكارثة، لكنه حديث لم يخرج عن أحاديث الناس اليومية المتكررة حول الموت مثل “إذا كنا لن نستطيع دفع الموت، فلماذا لا نستمتع بحياتنا؟”. كما دارت أحاديث حول قدرات نيك التنبؤية من قبل زوجته لوري، التي فسرتها على أنها نوع من الإحساس المسبق Deja Vu.

ويطرح نيك في هذا الجزء النظريتين اللتين تفسران خطة النجاة من الموت، وفقا للحوادث المتشابهة في الأجزاء السابقة، فعندما يموت شخص من خارج القائمة هناك احتمالان: إما أن يتم كسر دائرة الموت وينجو الجميع أو ينجو الشخص التالي في الترتيب، الذي تخطاه الموت، ويحصل على فرصة أخرى في الحياة تعادل حياة الشخص الذي حل محله في الدائرة!
ينتهي الفيلم بموت الجميع، دون نجاة أحد، لكن ذلك يحدث في اللحظة التي يكتشف فيها نيك حقيقة فلسفية ذات دلالة، فيتساءل ماذا لو أن ما قمنا به من تغيير للوصول إلى هنا كان مخططا سلفا؟ وما يعنيه نيك أن كل محاولاتنا للهروب من الموت لا تبعدنا عنه قدر ما تقربنا إليه!
يأتي الجزء الخامس أكثر رومانسية واجتماعية، بل وكوميدية كذلك، فبعض الأحداث الكارثية وقعت في ظل وجود شخص عابث لا هم له سوى إقامة علاقات مع النساء. ويبدو السيناريو هنا أكثر إحكاما لأنه لم يبالغ في التركيز على وقائع الموت التي كانت تحاصر شخصيات كارتونية أحادية البعد، وبدلا من ذلك اهتم أكثر برسم شخصياته وإبراز العلاقات المتشابكة التي كانت تربطهم، فجاءت تصرفاتهم انعكاسا لظروفهم وطريقة تفكيرهم، خاصة أن شخصيات الفيلم تعمل في شركة استثمارية والحسابات المادية كانت تدخل في عوامل اتخاذهم لقراراتهم.
الكارثة كانت مروعة، كالعادة، واستغرقت وقتا طويلا على الشاشة، لأنها وقعت أثناء انهيار جسر ضخم ابتلع كل المركبات التي كانت في سبيلها إلى عبوره، بما فيها أتوبيس الرحلات الذي كان يقل سام لوتون، صاحب النبوءة هذه المرة، ورفاقه من موظفي الشركة الذين كانوا في طريقهم إلى رحلة خلوية. تسربت روح الدعابة إلى مشهد الجنازة، المتكرر، من خلال بعض الشباب الذين كانوا يختلسون الضحك أثناء استماعهم لعظة الموت التي كان يلقيها مدير الشركة مواسيا أهل الضحايا، في مفارقة صارخة تعكس حقيقة الحضور المتآزر بين الموت والحياة، أو أن الحياة ستظل مستمرة رغم ضربات الموت الموجعة!
يظهر الطبيب الشرعي، الغامض، في أكثر من مشهد ليلقي بحكمته القاسية، التي لا يتوقف عن ترديدها طوال أحداث السلسلة، وهي “إن الموت لا يُخدع”. ويشرح الطبيب لسام ورفاقه فكرته عن توازن القدر، فلكي تعيش ينبغي أن يموت شخص آخر حتى تحصل على ما تبقى من عمره، وهي الفكرة التي فسرها بيتر، أحد الشخصيات، على أنها دعوة صريحة للقتل. فقد دفعه اليأس إلى هذه النتيجة بعد أن فقد محبوبته، كانديس لاعبة الجمباز، في صالة التدريب كأول ضحية في قائمة الموت. وهو السبب نفسه الذي جعله يتساءل، فلسفيا، عن جدارة الحياة، أي عن السبب الذي يجعل إنسانا معيّنا يعيش بينما يموت آخر. والحقيقة ذات الغرابة أن فكرة توازن القدر تتسق والحسابات المادية لدى موظفي الشركة. فالموت، وفقا لهذه الفكرة، يشبه عميل له اكثر من حساب بنكي إذا تعذر أن يسحب أمواله من أحدهم فيمكنه أن يسحب نفس المبالغ من حساب آخر! كما أن فكرة الحياة نفسها يتم تفسيرها بالمنطق نفسه باعتبارها نوعا من المقايضة، وبموجب هذه المقايضة يمكن لأحدهم أن يمنح موته لآخر مقابل أن يأخذ هو حياة هذا الآخر، أي أن يحل كلا منهما محل الآخر!

وهي فكرة لا أساس لها من علم أو دين أو حتى فلسفة. إنها محض فكرة سينمائية مثل معظم أفكار السلسلة، لذلك تنهار هذه الأفكار سريعا أمام حقيقة واحدة تظل ثابتة دون تغيير أن “لا مهرب من الموت”. وأمام هذه الحقيقة يسافر سام ومحبوبته في رحلة، على متن طائرة، إلى فرنسا، وقبل أن تقلع الطائرة يهبط أحد الركاب بعد أن يصيبه الهلع، وتعلن الإذاعة الداخلية للمطار عن احتجاز شخص موتور كاد يثير الذعر بين الركاب بزعمه أنه شاهد رؤية تنذر بحدوث كارثة، وهو ما تحقق بعد دقائق من ربط الأحزمة، حيث اشتعلت المحركات فجأة وانفجرت الطائرة، ليموت سام ومحبوبته وركاب الطائرة في مشهد مروع. وتظل قدرة بعض الأشخاص على التنبؤ بوقوع الكوارث محل تساؤل، حيث لا يجتهد السيناريو في تقديم تفسير لها عدا كونها فكرة سينمائية تقوم عليها حبكة السلسلة برمتها، خاصة أن هؤلاء الأشخاص من ذوي القدرة على التنبؤ بالمستقبل لا شيء يربط بينهما، كصلة القرابة مثلا!
ربما كانت عبارة مدير الشركة في بداية الفيلم هي الحكمة الأكثر مصداقية عندما قال: “الوقت هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن إعادة تدويره”. هذا إذا فهمنا “الوقت” بمعنى “العمر”.
في الجزء السادس، آخر أفلام السلسلة، يظهر الزمن كعنصر مهم في الأحداث بنحو لم يتحقق في أي من الأفلام السابقة، فهناك عودة للماضي من خلال شخصية ستيفاني لويس التي تحلم، بشكل متكرر، بكارثة، ويقودها البحث إلى الجدة إيريس كامبل التي نجت في الماضي من كارثة محققة، وكانت إيريس التي مازالت على قيد الحياة تحمل نفس الحدس بوقوع الكارثة، وقد حققت لنفسها النجاة الدائمة من الموت من خلال الاحتماء بمنزلها، الذي يقع في مكان ناء بعيدا عن الحياة والناس.
تذهب ستيفاني للقاء الجدة في منزلها المخيف، المنعزل عن العالم، وعندها تخبرها الجدة أن لعنة الموت أصابت العائلة وأنهم على موعد قريب معه، وتقدم لها مخطوطا لكتاب، قامت بتأليفه خلال سنوات عزلتها، وفيه خطة النجاة التي توصلت إليها بعد دراسة وبحث في أساليب الموت للنيل من ضحاياه!
لكن إيريس، بالرغم من خبرتها الطويلة، تعجز عن تقديم إجابة مقنعة لتحول حدسها بالموت في الماضي الى حلم لدى الحفيدة ستيفاني في الحاضر، وتُرجع الأمر برمته إلى المصادفة أو العبث، كما لا تستطيع أن تقدم فهما للموت أعمق من أنه قوة شريرة لا ترحم. ربما كان أعمق ما في كلامها هو الحكمة التي تقول: “عندما يتكلم الكون، فينبغي علينا أن تنصت” في إشارة إلى قدرية الموت.
وتؤكد أحداث الفيلم أن الموت فكرة سينمائية أكثر من كونه تجربة وجودية عندما نرى الجدة وقد عاشت سنوات طويلة بعد نجاتها من كارثة البرج لمجرد أنها احتمت بمنزلها ولم تغادره بالرغم من إصابتها بالسرطان، وأنها لم تصبح هدفا سهلا للموت إلا عندما خطت خطوة واحدة خارج المنزل، فاختطفها الموت في ثانية!
خطة الموت هذه المرة لم تكن حدسا لدى ستيفاني، لكن علاقات منطقية كتبتها الجدة في المخطوط بناء على العدد الكبير للناجين من كارثة الماضي في البرج. ومن خلال تتبع السلالات المنحدرة من العائلات الناجية تصل ستيفاني إلى نتيجة مؤداها أن عائلتها الحالية مهددة بالموت، لأنها لم تكن من المفروض أن تأتي للوجود لولا نجاة الأسلاف، والمسألة بهذا المعنى تعني أن هناك تحديا لقدر الموت في الماضي وعلى الأحفاد أن يدفعوا الثمن.

الفكرة غريبة، وعنصر الزمن يضعف من درجة منطقيتها، لأن منطق السلسلة كان يقوم على موت الأشخاص الناجين من الكارثة الكبرى التي كانت تقع في بداية كل فيلم من أفلام السلسلة، أما وقد امتدت اللعنة إلى الأجيال التالية، فإن الفكرة تفقد معناها، لأن حتمية الموت تصير طبيعية، لأن الموت سيلحق بالجميع، لا محالة، على مر الزمن!
تعود فكرة مقايضة الحياة بالموت للظهور كسبيل للنجاة، لكن عائلة ستيفاني ترفض الفكرة خاصة إذا كانت المقايضة ستتم مع طفل رضيع مقبل على الحياة، وتكتشف طريقة أخرى من خلال إحدى الشخصيات التي نجت مع الجدة ومازالت على قيد الحياة. وهي أن يتعرض أحدهم لغيبوبة ثم يتم إنقاذه عن طريق إنعاش القلب. وهي أيضا فكرة سينمائية اخترعها السيناريو، مثل أفكار أخرى كثيرة، دون أساس ثابت من علم أو ميتافيزيقا! وتظل المقولة المهيمنة على الفيلم هي أن “العبث بالموت يؤدي إلى الفوضى”.
وفي الأخير، يمكننا القول إن سلسلة أفلام “الوجهة النهائية” لا تقدم فلسفة للموت، لأن الشخصيات لا تعاني أزمة وجودية عندما تدرك قرب أجالها، وإنما تواجه الموقف بلا مبالاة، عدا الأشخاص أصحاب النبوءة المتكررة الذين يعيشون أزمة نفسية من جراء شعورهم بالذنب. والأمر يبدو طبيعيا، إذا وضعنا في الاعتبار أن صنّاع السلسلة لم يهدفوا إلى تقديم عمل يناقش فكرة الموت في حد ذاتها كتجربة إنسانية يعايشها الناس يوميا، أو كتساؤل فلسفي حول جدوى الحياة في ظل وجود الموت كمصير محتوم؟! ولكن تقديم عمل سينمائي مثير ينجح في جذب أكبر عدد من الجمهور، ولأطول مدة ممكنة، وقد تحقق لهم ما أرادوا.
وبهذا المعنى، تكمن أهمية سلسلة الوجهة النهائية لا في الأفكار التي تحملها لكن في طريقة التنفيذ، التي برع المخرجون في تصويرها، بحيث تحول الموت من معنى غامض إلى رؤية مجهرية ترصد تفاصيل الحياة اليومية الدقيقة التي تنذر بقدوم الموت دون أن نشعر!
