“سجناء الأرض”: صرخة سينمائية ضد عبودية الحداثة

زياد أحمد فرغلي
أحدث فيلم “سجناء الأرض” Prisioneros de la tierra (1939)، تلك التحفة السينمائية المتقنة التي وقّعها المخرج الأرجنتيني ماريو سوفيتشي، رجة مدوية في وجدان جمهور عصره، بتحليله الصارخ لاستشراء الاستغلال السافر والعنف المستفحل في ميسيونيس، المقاطعة الأرجنتينية القصية المحاذية لباراغواي والبرازيل.
تدور أحداث الفيلم في عام 1915، ويصور الفيلم محنة “المينسوس”، العمال المُستأجرين بعقود شهرية، الذين كانوا يُساقون للعمل في مزارع يربا ماتي المنتشرة في المنطقة، ليحصدوا أوراقها التي تُعد العنصر الأساسي في تركيب شراب الماتي الشهير، ولا يزال هذا العمل السينمائي بما يزخر به من صور فوتوغرافية آسرة، وبما ينطوي عليه من تشريح دقيق لأوجه الظلم والوحشية، وبما يختم به من خاتمة مأساوية، ينبض بأثره الحارق حتى اللحظة.
وقد أُطلق على المرحلة التي ينتمي إليها الفيلم “العصر الذهبي” للسينما الأرجنتينية، فقد عانت الصناعة السينمائية الوليدة من وطأة المنافسة الشديدة من هوليوود في مطلع عشرينيات القرن المنصرم، حتى آلت بحلول عام 1932 إلى السقوط المريع، بحيث لم يُنتَج سوى فيلمين محليين فحسب في ذلك العام، غير أن انبثاق السينما الناطقة قلب الموازين رأسًا على عقب، مُفجرًا شغف الجمهور الأرجنتيني للاستماع إلى الممثلين الأرجنتينيين وهم يجاهرون بأصواتهم على الشاشة الفضية.
وفي عام 1933 دشن أول استوديوهين حديثين في البلاد، كانا يعتمدان تقنيات الصوت، عملياتهما الإنتاجية، ليغدوا بحلول عام 1939 في خضم نهضة سينمائية تُنتِج عشرات الأفلام سنويًا، وبالرغم من استمرار الاجتياح الهوليوودي، ازهرت استوديوهات السينما المحلية، مكتسبة لنفسها جماهير وفية داخل البلاد وفي أرجاء أمريكا اللاتينية قاطبة، وما لبثت الصناعة أن ارتدت ثانية إلى طور الانحدار، متخلية عن عرشها الإقليمي لصالح السينما المكسيكية، بيد أنها في عام 1939 كانت تحيا ذروة مجدها التجاري.
وُلد ماريو سوفيتشي في فلورنسا عام 1900، قبل أن ينزح مع أسرته إلى الأرجنتين وهو ابن تسعة أعوام، ليكون واحدًا من أكثر من مليوني مهاجر إيطالي تدفقوا إلى هذه البلاد ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

وبعد أن رسخ قدميه كممثل مسرحي بارع، شاءت الأقدار أن يلتقي عام 1929 بالمخرج السينمائي الأرجنتيني الرائد خوسيه أوغستين فيريرا، ومن فرط يقينه بأن بزوغ عصر السينما الناطقة سيُخلص السينما الأرجنتينية من تعثرها المحتوم، بادر سوفيتشي إلى عرض التمثيل في أفلام فيريرا مجانًا، وبعد سلسلة أدوار سينمائية، من بينها دوران بارزان تحت إدارة فيريرا، خطا أولى خطواته في الإخراج عام 1935 بفيلم El alma del bandoneón الذي طُرح في الولايات المتحدة تحت عنوان The Soul of the Accordion »، وقد كان هذا العمل، الذي استُخدم منصة لإنطلاق المغنية ونجمة الشاشة Libertad Lamarque تجسيدًا أمينًا للنموذج الميلودرامي المجبول بأنغام التانغو، والذي كان يهيمن على الساحة السينمائية في تلك الحقبة، وروى سوفيتشي لاحقًا انطباعه الأول عن السيناريو بقوله : “خال لي بادئ الأمر أنه نص مُريع، غير أنني فكرت بعد ذلك – لا مناص، عليّ أن أتعلم مهما كلفني الأمر”.
استثمر سوفيتشي هذا التدريب أيّما استثمار بين عامي 1937 و1942، عندما أحدث قطيعة جذرية في مسار السينما الأرجنتينية عبر سلسلة من الأفلام التي جاءت بمثابة بيانات أخلاقية صارخة تُدين بمنتهى البلاغة سُعار الظلم الاجتماعي المتفشي في الأرياف المنسية، وقد عكست هذه الأعمال أصداء تأثير ” فورخا “، الجماعة الفكرية المتشكلة من ثُلة مثقفين شبان ينتسبون إلى الحزب الراديكالي، الذي ارتبط به سوفيتشي برابطة واهنة ولكن ذات أثر لا يُنكر.
وكان “الفورخيستا” ينهالون بالنقد اللاذع على النخب السياسية والاقتصادية في البلاد، متهمين إياها بالتواطؤ المخزي الذي أفضى إلى جعل الأرجنتين مستعمرة مقيتة لرأس المال الأجنبي، وكانوا في نزوعهم الوطني العاتي، يأملون في تشييد ثقافة أصيلة منبتة عن شبح التبعية الخارجية، مُنافحة عن مصالح المعدمين والمُستضعفين، ويُجسد فيلم سوفيتشي كيلومتر 111 (1938)، على سبيل المثال ملحمة نضال ثلة من مزارعي القمح المُستعبدين تحت سطوة ملاك الأراضي المتجبرين وشركة السكك الحديدية البريطانية، غير أنه مع سجناء الأرض ارتقى سوفيتشي إلى أرفع بيان سياسي وفني له، مُقدمًا أكثر أعماله توهجًا من حيث المضمون والرؤية.
وقد استُلهمت قصة الفيلم من نتاج هوراسيو كيروغا، الأيقونة الأدبية البارزة في فضاء أدب أمريكا اللاتينية، التي اتسمت بمسحة تفردية جلية، وقد وُلد كيروغا في أوروغواي عام 1878، غير أنه قضى جل حياته في الأرجنتين، مُستقرًا أغلبها في ميسيونيس، حيث خاض مغامرات شتى، منها تجربة زراعة المتة، إلى جانب مشاريع أخرى شديدة التنوع، وعلى صعيد المسعى الأدبي، كان كيروغا نصيرًا متفانيًا للفلسفة الطبيعية، التي تطمح إلى تشريح علل المجتمع من خلال تحليل الطبيعة البشرية وتفاعلاتها مع العالم الطبيعي، ومع هذا النزوع فقد كانت بصمات تأثير أدباء النزعة الاستعمارية الصريحة، من أمثال روديارد كبلينغ وجوزيف كونراد، واضحة في جوانب من أعماله.

أما السيناريو، الذي تبلور من عناصر مُقتطفة من أربع قصص قصيرة لكيروغا فقد كتبه داريو كيروغا، نجل الكاتب، بمعية الشاعر والناقد السينمائي أوليسيس بيتيت دي مورات، الذي سيشق لاحقًا مسارًا طويلًا ومرموقًا في كتابة السيناريو، وقام كيروغا وبيتيت دي مورات بتقديم العمل إلى خوسيه جولا، الذي كان يُعد آنذاك من ألمع نجوم السينما الرجالية في الأرجنتين، وعندما وضع جولا النص بين يدي سوفيتشي، كان هذا الأخير قد فرغ توهًا من قراءة رواية La vorágine “الدوامة”، العمل المأساوي الذي دبجه الكولومبي خوسيه أوستاسيو ريفيرا سنة 1924، مُجسدًا من خلاله مآسي عمال المطاط المستعبدين في غياهب غابات الأمازون، وبما انطوى عليه من إدراك نافذ للإمكانات السينمائية التي تفتحها خلفيات الأدغال، أبصر سوفيتشي في قصص كيروغا معبرًا مثاليًا لتوسيع أفق مقارباته الواقعية حول ريف الأرجنتين
عمد سوفيتشي إلى تبسيط السيناريو وصقل بنيته، ثم حصل على تمويل من “بامبا فيلم”، الاستوديو المحلي الفتي الذي لم يكن قد بلغ عامه الثاني، ثم مضى قُدمًا ليباشر التنقيب عن مواقع تصوير أصيلة في ميسيونيس، وخلال إحدى تلك الرحلات، ألمت بجولا عدوى قاسية أرغمته على العودة إلى بوينس آيرس، ليُسدل الستار على حياته وهو لما يزل في الخامسة والثلاثين.
وإزاء خفوت نجم جولا، وحياله عجزه عن استمالة ديليا غارسيس، التي كانت خياره الأول لتقمص دور البطولة، للقبول بخوض مغامرة التصوير في ميسيونيس، اختار سوفيتشي بروية واعية، الشاب أنخيل ماغانيا والمبتدئة إليسا غالفيه لتجسيد الدورين الرئيسيين
من جانب آخر يُعد فيلم “سجناء الأرض” عملًا يتميز بسمات الواقعية الاجتماعية وهو بمثابة مشهد سينمائي مهيب لاستباحة الفقراء على أيدي أرباب عمل متغطرسين غلاظ جياع للربح، يقدم الفيلم مشاهد موظفي الشركة الذين يمعنون ضغطًا على عمال أُميين لانتزاع توقيعاتهم على عقود عمل زائفة مُضللة، بالإضافة إلى رؤساء عمال يستبيحون ميزان الشقاء، مُمعنين تلاعبًا به، لنهب أجور العمال التي لا تكاد تُلم، يخط الفيلم توثيقًا للعمل المُضني في لجج الأدغال المشبعة بحرارة خانقة، ويكشف كيف يُلقى بهؤلاء العمال، الذين يتقاضون أجورهم عبر سندات الشركة عديمة القيمة، في أتون العجز عن تسوية ديونهم المتراكمة عند انتهاء موسم الحصاد.

غير أن الواقعية السينمائية التي يشقّها الفيلم تتجاوز مُجرد بؤس الإدارة والعمل لتلج تفاصيل الحياة اليومية في ميسيونيس، يُطعم العمال خطاباتهم بعبارات تنحدر من لغة الغواراني، اللغة الأم لشعوب المنطقة الأصيلة، ويُنفسون عن احتقانهم الداخلي برقصة شامخة على وقع موسيقى ” الشامامي ” الشعبية المحلية، وفوق هذا المشهد القاتم، وبذات القدر الذي يبدي فيه سوفيتشي جرأة في فضح قسوة الطغاة، لا يُوارب في كشف موبقات العمال أنفسهم، يفتتح الفيلم في بادرة لا تخلو من الصدمة لمن اعتاد السينما الأمريكية في تلك الحقبة، بمشهد مثير لشخصية البطل، استيبان بودلي، وهو يُقبل عاملة جنس عقب موعد عاطفي غامض
ومع أن الفيلم يستمد جوهره من نبع الواقعية الاجتماعية، إلا أنه لا يرضخ بالكامل لأي تصنيف أجناسي مُحدد، فإلى جوار انشغاله البادي بأوجاع العمال، يعرض سوفيتشي صورة كابوسية الطابع عن جبروت الطبيعة الجامحة؛ فشخصياته كما يومئ العنوان، أسرى في قبضة غابة متوحشة تستعصي على تطويع البشر وإخضاعها، ينوء سكانها تحت عبء الملاريا وأمراض استوائية فتاكة، حتى الأوروبيون المتنورون يبدو أنهم مدفوعون قسرًا إلى الاستسلام أمام سطوة المحيط، فطبيب الشركة الذي انطفأت جذوته وانكفأت كفاءته تحت وطأة إدمان الكحول، بعد سنوات عجاف قضاها في العراء، وكوهنر، رب العمل الفظ، الغارق في قسوته، ينزف شوقًا جارحًا إلى موطنه الألماني، ويستعرض الفيلم تعدديته البنيوية من خلال تنوع الأساليب الأدائية التي يجترحها طاقم التمثيل فضلًا عن أساليبه البصرية، فبينما قدم ماغانيا وفرانسيسكو بيتروني أداءً مشبعًا بالواقعية في تجسيد شخصيتي بودلي وكوهنر على التوالي، أبدع راؤول دي لانج في دور الطبيب المتهاوي، وعلى النسق ذاته نجد تصوير مشاهد العمل في الهواء الطلق وطقوس السكر والاحتفالات وقد أتت بمسحة توثيقية حافلة بالانفصال البارد، إلا أن المشاهد الليلية اتخذت هيئة مغايرة – فقد نسج المصور السينمائي بابلو تابيرنيرو تلاعبًا آسرًا بالظلال، ليخلق مشهدية بصرية تعبيرية تعكس انطباق براثن الغابة القامعة على الأبطال.

أشار بعض النقاد إلى أن فيلم سوفيتشي ينطوي على عوامل تشابه مع نتاجات هوليوود الاجتماعية التي انبرت لمعالجة القضايا المصيرية في الحقبة ذاتها، ولا ريب أن المخرج كان يقظًا لاتجاهات أمريكا ومُلمًا بتقلبات تياراتها السينمائية، بيد أن من اللافت للانتباه أن فيلم Prisioneros de la tierra أطل على الشاشة قبل عام من عرض فيلم جون فورد الشهير “عناقيد الغضب” الذي غالبًا ما أُقيمت بينه وبين تحفة سوفيتشي مقارنات مستفيضة، وعلى أي نحو قد تكون المؤثرات المحلية أشد وطأة في تشكيل الفيلم، فإلى جانب نزعة كيروغا الواقعية وتجليات ريفيرا في توصيف الغابة، يستلهم الفيلم أيضًا إرث Criollismo التيار الثقافي الذي يحتفي شعبيًا في الأرجنتين بشخصية Gaucho راعي البقر المتوحش في بسائط البامباس، فقد خلدت روايات الدايم والمسرحيات الشعبية التي ظهرت في أخريات القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين مآثر الغاوتشو الأسطورية، أولئك الفرسان الجسورين الذين انتفضوا ضد عسف السلطة وجور أذرع الدولة، وعلى منوال بودلي ” المينسو “، انطلقت شخصيات الغاوتشو الشهيرة، كخوان موريرا، من رحم الفلاحين الكادحين المجدين، لتتحول تحت وطأة الاستبداد، إلى محاربين يقتصون ببطش من ظالميهم
أشاد نقاد السينما الأرجنتينية على الفور بفيلم “سجناء الأرض”، مُبرزين سِمته الأصيلة قبل أن يثنوا على خطابه الاجتماعي، لقد شهدت ثلاثينيات القرن العشرين تزايدًا مُضطردًا للقلق الوطني في الأرجنتين، في ظل مثقفين استبد بهم الهلع من آثار موجات الهجرة العارمة التي تدفقت على البلاد في العقود السالفة، وتلبسهم التأثر بصعود الفاشية في أوروبا بمستويات متفاوتة، وفي خضم هذا المناخ المشحون، اندفعوا لنشر مقالات وأبحاث متتابعة في تفكيك الهوية الوطنية الأرجنتينية، بينما أخذ التيار اليساري ينحت لنفسه خطابًا قوميًا ينزع إلى اليسار، ومن رحم هذا السياق تملك نقاد السينما هاجس متأجج بأن الصناعة السينمائية الأرجنتينية أضحت رهينة تبعية خانقة للنماذج الهوليودية، فوجدوا في عمل سوفيتشي ما يرتجونه ويشتاقون إليه – إذ في نَسقه السردي وتشكيله البصري، أومض ” سجناء الأرض ” أمام أعينهم كعمل أرجنتيني صرف، منبت عن الاستيراد السينمائي، ومطعم بخصوصية وطنية راسخة، أما فرانسيسكو مدريد فقد اعتبره تدشينًا لـ” سينما أرجنتينية، لا سينما غوشية؛ سينما وطنية، لا سينما قومية؛ سينما ذات فرادة، لا سينما مزيفة مصطنعة “.

أما المتلقي المعاصر، فإن ما يستوقف البصيرة في الفيلم، هو تمرده الجلي على الأخلاقيات الساذجة البسيطة، وهو ما جعله موضع احتفاء خاص لدى خورخي لويس بورخيس، الذي حرر أحيانًا مقالات نقدية سينمائية في مجلة « سور » الأدبية، عبر بورخيس عن إعجابه بهذا المنحى تحديدًا، مُستلهمًا مشهد العنف المُفرط الذي يُقترف فيه القتل على يد بودلي بحق كوهنر، قائلًا : ” في مشاهد مُماثلة بأفلام أخرى، يُناط بالمتوحشين ارتكاب الفظائع؛ أما في سجناء الأرض، فالبطل نفسه هو الذي يُلقي بنفسه في أتونها، وببراعة تُثير الغصة حتى حدود لا تُحتمل “، في نظر بورخيس استطاع الالتباس الأخلاقي أن يسمو بالفيلم فوق مستوى المألوف الدرامي، مُكسبًا إياه صلابة تأثيرية عاتية
وقد امتدت رحلة سوفيتشي خلف الكاميرا لأكثر من عقدين بعد “سجناء الأرض”، مُخرجًا ما يزيد عن أربعين عملًا سينمائيًا، دون أن يتخلى عن حضوره كممثل، ورغم هيمنة النزعة التجارية الاستهلاكية على إنتاجه في الأربعينيات والخمسينيات، فقد أبدع أعمالًا فارقة في مسيرته، منها “باريو غريس” 1954، الذي شكل لوحة واقعية باذخة لحياة المهمشين في الحواضر، تحت تأثير الواقعية الجديدة الإيطالية، و”روزورا آ لاس دييز” 1958، وهي قصة جريمة تُلامس بنائها المتداخل حبكة فيلم “راشومون “، ومع ذلك يظل “سجناء الأرض” دون منازع، أيقونته الأشهر وإرثه الأكثر رسوخًا، وأحد الذُرى الخالدة التي توجت صرح السينما الأرجنتينية.