“زنقة مالقا” جوهرة تتلألأ في مهرجان لندن السينمائي

“زنقة مالقة” Calle Málaga هو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرجة (والممثلة) المغربية مريم التوزاني، بعد “آدم” (2019)، و”القفطان الأزرق” (2022). وهو عندي العمل الأفضل من بين الأفلام الثلاثة، والأكثر اكتمالا وبراعة ودقة في جميع التفاصيل، وفي اعتماده على سيناريو يشبع الشخصية التي توجد في قلب الفيلم وروحه، بل هي قلبه وروحه معا.

بعد عرضه في مهرجان فينيسيا السينمائي، ثم مهرجان تورونتو، يحط الفيلم رحاله في مهرجان لندن السينمائي الـ69 ضمن عدد لا بأس به من الأفلام العربية من أهمها دون شك: صوت هند رجب، فلسطين 36، كعكة الرئيس، الخرطوم. السماء الواعدة.

هذا عمل يتغنى بالمدينة، بالناس، بحب الحياة، وبالرغبة في تحدي قسوة الواقع، والتوق المستبد للتحرر من قيود الزمن، والاستمتاع بكل قطرة مما تبقى من العمر. فبطلة الفيلم أو شخصيته الرئيسية هي امرأة في الثمانين من عمرها، قضت حياتها كلها في مدينة طنجة المغربية المعروفة بتاريخها الخاص وعلاقتها الوثيقة مع إسبانيا. وهو تاريخ تلخصه المخرجة في مقدمة فيلمها- أي قبل الولوج إلى بنائه وقصته وشخصياته- كونها المدينة التي كانت ملجأ في الثلاثينيات للفارين من جحيم الحرب الأهلية بعد انتصار قوات الجنرال فرانكو الفاشية. ومن ضمن هؤلاء والدا بطلتنا هذه السيدة “ماريا أنخيليس” (كارمن ماورا).

“زنقة مالقا” فيلم عن المدينة، ممثلة في ذلك الشارع البهيج الذي يماثل نهر الحياة: باعة الأطعمة المغربية المميزة، الحوانيت الصغيرة، المقاهي، الشباب الذي يتنافس ويتصارع حول مباريات الدوري الإسباني، كنوزها وثرائها المعماري والإنساني الممتد، وشاطئها السحري وإيقاعها الخاص.. إلا أنه أيضا، فيلم عن الوطن الصغير، عن البيت، أو الشقة القديمة التي قضت فيها ماريا أكثر من أربعين سنة، زينتها بطريقتها الخاصة، اختارت لها قطع الأثاث الفخمة الثرية التي تعد كل قطعة منها أثرا فنيا رفيعا، إصص الورود الحمراء الذي تحرص على أن ترويه بنفسها في شرفتها التي تطل منها على الناس بنظرات مليئة بالحب والدفء، فهي تعرف الجميع في “الحارة” (أو الزنقة)، تناديهم بأسمائهم، وهم يعرفونها ويخاطبونها بالإسبانية التي توارثها أبناء المدينة من زمن الوجود الإسباني.

“ماريا” هي الفيلم، والفيلم هو الممثلة الإسبانية الكبيرة الراسخة “كارمن ماورا”، بطلة سبعة من أفلام بيدرو المودوفار والتي صبغت رؤيته الأساسية في أعمال محفورة في الذاكرة مثل “من المتادور وقانون الرغبة، إلى نساء على حافة الانهيار العصبي، و”فولفر). وكارمن هذي التي تؤدي دور ماريا، ومن دون ممثلة تمتلك كل هذه الحساسية والقدرة على التماهي والذوبان في شخصية ماريا، لم يكن الفيلم ليصل إلينا ويشتبك في وجداننا بكل ما يولده من مشاعر وأحاسيس.

ماريا أرملة، رحل زوجها قبل سنوات، ومازالت تتردد بانتظام على قبره، بل وتزور قبور جميع صديقاتها اللاتي رحلن وبقيت هي وحدها، ليس لديها سوى صديقة واحدة فقط كانت زميلة لها في المدرسة في زمن الطفولة، ثم التحقت بالدير وأصبحت راهبة. وهذه هي “جوسيفا”. لكنها كالشاهد الصامت، ترجع إليها ماريا بين وقت وآخر، تسرد عليها ما تمر به، وما تواجهه من مآزق، وتروي لها كيف استطاعت أن تتعامل مع الظروف التي فرضت عليها، لكن جوسيفا لا تتحدث، بل توميء برأسها، أو تكتفي بالابتسام، أو تعبر بالإيماءات التي تعكس تعاطفها مع صديقتها الصلبة التي تختلف عنها تماما رغم أن المرء يمكنه أن يلمح من تحت ملامح جوسيفا الجامدة، حزن غامض، ونوع من التحسر على ما فاتها من متع الحياة خارج جدران الدير.

الفيلم ناطق في معظمه باللغة الإسبانية، ومن خلال الكتابة التي تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم، تهدي مريم التوزاني فيلمها إلى جدتها الإسبانية التي جاءت من اسبانيا وقضت حياتها كلها في طنجة، تماما مثل ماريا التي أصبحت حياتها كلها مرتبطة بتلك المدينة وبالحارة وبالناس، وقبل كل شيء، بالمسكن الذي تطهي فيه أشهى المأكولات، وتستمع للموسيقى الإسبانية القديمة الراقصة بواسطة جهاز تشغيل أسطوانات قديم تعتز به كثيرا.

من تقديم الشخصية والحياة في الشارع وعلاقة ماريا بالبشر، ينتقل الفيلم ليدخلنا إلى قلب الحبكة، أو إلى العقدة. فماريا لها ابنة وحيدة هي “كلارا” فضلت الابتعاد عن المغرب وانتقلت من سنوات بعيدة للعيش في العاصمة الإسبانية مدريد، ثم تزوجت وأنجبت طفلين، ولكنها تطرق الآن بشكل مفاجيء باب شقة ماريا، حزينة كسيرة النفس. فقد طلقت من زوجها، وأصبحت ترعى طفليها وحدها، ولم يعد راتبها البسيط كممرضة، يكفي متطلبات الحياة بعد أن ارتفعت الأسعار كثيرا. ولذلك قررت كلارا بيع الشقة التي تقيم فيها والدتها. فقد كتبها والدها من البداية على اسمها. وهي تعرض على أمها في برود وقسوة، أحد خيارين، أن تنتقل للعيش معها في مدريد، أو تلتحق بمنزل للمسنين ترعاه الطائفة الإسبانية في طنجة، دون حاجة لدفع أي تكاليف.

تضطر ماريا لقبول الحل الثاني، لكنها لا تنسجم هناك في مسكن المسنين، بل تشعر طوال الوقت بالتعاسة والحسرة والنفور من طريقة تعامل العاملين على رعاية العجائز معها، كما تفتقد كل شيء في مسكنها. ويكون قرارها بالعودة الى شقتها دون أن تخبر ابنتها، وإعادة شراء جميع قطع الأثاث التي بيعت لتاجر أثاث قديم يدعى عبد السلام (يقوم بالدور الممثل والمخرج المغربي أحمد بولان)، لكن تدريجيا ومن خلال علاقة منسوجة برقة شديدة، ينفتح الفيلم على جانب آخر من شخصية ماريا وشخصية عبد السام.

أصبحت ماريا الآن تتوق لتعويض كل ما فاتها في سنوات الوحدة بعد وفاة زوجها. وسنرى كيف تنشأ بينها وبين عبد السلام، علاقة عاطفية، تملؤها بالبهجة، وتجعلها أكثر انفتاحا على شباب الحارة، تدعوهم الى بيتها لمشاهدة مباريات كرة القدم الإسبانية، وتقدم لهم المشروبات والمأكولات نظير مبالغ بسيطة تساعدها في دفع ثمن الأثاث الذي تسترده من الرجل. لكنها ستكتشف كما تقول لجوسيفا، أن عبد السالم ليس كما تصورته في البداية، فهو إنسان مرهف المشاعر أيضا.

تتعامل مريم التوزاني بحب كبير مع شخصية ماريا، وتحيطها بإضاءة خاصة، تنعكس على عينيها فتجعلها أقرب إلى شخصية أسطورية، تنتمي لعالم آخر، وزمن مختلف، لديها إيقاعها الخاص. ولاشك أن أداء كارمن ماورا- يرتفع بالشخصية كثيرا، ويجعلها تبدو قريبة من منا جميعا، كما لو كانت الأم أو الأخت، أو حتى الحبيبة. فهي تجمع بين السحر والجمال والثقة والقوة، تارة تنطق بلسان ساخر، وتارة أخرى تعلق من خارج الكادر بتعليقات تعبر عن استهجانها لما هو مفروض من قيود ورغبتها في التحرر.

 يطرق بابها رجال الشرطة الذين جاءوا ينذرونها بضرورة الكف عن إقامة الحفلات وتوزيع المشروبات الكحولية، لكنها تنجح بأسلوبها الخاص السلس في إقناعهم بالانضمام الى المحتفلين، والاندماج معهم، على أن تقدم لهم “البيرة الخالية من الكحول”!

بدت شخصية عبد السلام لماريا في البداية، شخصية رجل عملي جاف، لا يهمه سوى المكسب واستغلال الفرص. فعندما تعود إليه ماريا تريد استرداد غرفة النوم أولا، يطالبها بدفع ما يزيد كثيرا عما دفعه هي مقابلا لها، وعندما تحتج يقول لها “أنا أبيع واشتري يا سيدتي”. أي أنه لا يقيم وزنا للاعتبارات الإنسانية. لكنه سيتغير بعد ذلك، ليكشف عن شخصية أخرى، فيبدي إعجابه بماريا، تلك السيدة الصلبة التي لا تهزمها الشيخوخة. ويعترف لها أنه رجل وحيد، ليست لديه زوجة ولا أبناء، وقد اختار مهنة بيع الأثاث القديم رغم معارضة أهله، لأنه لا يكترث سوى لما يحبه، وهو يحب ما يفعله.

من المؤكد أن شخصية عبد السلام كانت في حاجة إلى مزيد من التعمق، والاقتراب منها أكثر والكشف أيضا عن الجانب العابث المتمرد الكامن في شخصيته، إلا أن أداء أحمد بولان للدور، جعله يبدو رغم رقته وتعاطفه، خصوصا في مشاهد الحب الجريئة التي يتلامس فيها الاثنان، ويجتمعان معا، في الفراش، يعاني من الجمود والتجهم، بينما كان من الأنسب كثيرا أن تصطبغ شخصيته ببعض الملامح الفكاهية المسلية، والميل أكثر للتدليل، فماريا امرأة تريد الآن أن تجد من يدللها، ويعيد إليها الشباب، فهي تتحدى الزمن، ترفض القبول بالهزيمة، وهي لن تسمح لابنتها أن تهزمها، ولا لتجاعيد الشيخوخة أن تثنيها عن رغبتها في النهل من متع الحياة قبل الموت.

يبدو الموت مجاورا للحياة كثيرا في مشاهد كثيرة من هذا الفيلم، مثل تلك التي تتردد خلالها ماريا على المقابر، تنثر الزهور فوق المقابر، تجمع قطع الفسيفساء التي تحطمت وتعيد لصقها معا، وتوصي “عم أحمد” حارس القبور، بالعناية بما تحطم من شواهدها، تتأمل في صور الماضي، وتحسس قطع الإثاث وتحن للزمن الجميل من خلال الأغاني والموسيقى التي تستمع إليها أو ترقص على نغماتها، وتشارك شباب الحارة الرقص والضحك والاحتفال بالحياة، وهو ما يضفي على الفيلم، نغمة، فيها من الشجن والرثاء للماضي، بقدر ما فيها من الحب والإقبال على للحياة.

فماريا أذن في توق للمعابثة، للدلع، للفكاهة، لكن عبد السلام (بولان) يبدو جامدا، حزينا، لا يتحدث كثيرا.. لكنه مع ذلك، يأخذها في جولة بسيارته الصغيرة المكشوفة، ويذهبان معا إلى مدينة أصيلة المغربية الجميلة، حيث عثر هناك على أثر لوجود جهاز تشغيل الأسطوانات القديم عند أحد التجار، وينجح في استعادته لها.

يذكرنا الفيلم في بعض مشاهده، خصوصا في ثلثه الأخير، بالفيلم الإيراني الجريء “كعكتي المفضلة” (2024) الذي يصور علاقة بين امرأة ورجل من المتقدمين في العمر، وكيف يقبلان على الحياة، يرغبان في هزيمة الزمن، والاستمتاع بالحب، يرقصان معا على موسيقى الأيام الخوالي، ويشربان الخمر، ويتأهبان لممارسة الحب، لولا أن لحظة السعادة لا تكتمل.

في “زنقة مالقا” تكتمل لحظة الحب، لكن ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ الفيلم يتوقف عند نهاية مفتوحة، بعد أن ترحل كلارا، الابنة، شبه يائسة من إقناع أمها بالتخلي عن تشبثها بالبقاء في طنجة. لابد أن تكون ماريا قد انتصرت،فالفيلم بأسره، هو فيلم عن هزيمة الواقع، وليس الزمن فقط.

إن كل كادر في الفيلم، مدروس جيدا، وتوزيع الضوء يضفي إحساسا بالأجواء الطبيعية على الصورة، واستخدام الظلال بل وحتى العتمة عند انقطاع التيار الكهربائي، يضيف تأثيراته، خصوصا وأن اختيار المكان، أي تلك الشقة السحرية لماريا، بسقفها المرتفع، وغرفها المتعددة، وأثاثها المرتب بعناية، يتيح إمكانية تصوير الشخصية في إطار المكان، بحيث لا تنفصل عنه، فهي جزء منه، فالمكا هو حياتها، بكل ما فيه من عن التفاصيل: الصور المعلقة على الجدران، قطع الإكسسوار البسيطة، إعداد المأكولات، تذوق الحلوى، الأزهار، التطلع من الشرفة إلى الناس في حب وشوق بعد أن تعود ماريا عقب فرارها من دار المسنين اللعينة التي نراها في الفيلم كمكان، جاف، وبارد، يخلو من التفاصيل الحميمية، ويبدو أقرب إلى المستشفيات والسجون.

“زنقة مالقا” فيلم بسيط، يسير في سياق واضح غير ملتو، لا يطرح موضوعا فلسفيا أو اجتماعيا كبيرا، لكنه عمل يلمس القلوب، ويصل إلى المشاهدين دون ادعاءات كبيرة. لكن بساطة الفيلم لا تعني أنه أقل من المتوقع، بل هو ثري بصوره ومشاهده وإيقاعه، والحضور المدهش للممثلة الإسبانية الكبيرة، كارمن ماورا، وهو أفضل تكريم لها.