“رجل متطرف” وودي ألين يعاود تساؤلاته المرهقة حول معنى الوجود

مرة أخرى يأتي وودي ألين بنفسه ليحضر عرض ومناقشة فيلمه الجديد “رجل متطرف” I Irrational Man خارج المسابقة في مهرجان كان السينمائي، وهو الذي ظل لعقود من الزمن ممتنعا عن حضور المهرجانات السينمائية، إلا أنه خالف هذه القاعدة مع مهرجان كان تحديدا منذ سنوات قريبة.

“رجل متطرف” يبدو عملا مألوفا في سياق الأفلام التي يدهشنا وودي ألين بقدرته على ابتكارها عاما وراء عام، معيدا اكتشاف نفسه واكتشاف قدرة الفيلم على جعل أفكار الفنان التي ألفناها كثيرا، أفكارا جذابة تتميز بالطرافة والجدة، رغم ما قد يشوبها أحيانا من مغالاة في التمرد ورفض المألوف، بفضل قدرة الفنان على وضعها في سياق فني طريف لا يخلو بالطبع من القفشات الكوميدية المعروفة، والشخصياته المؤرقة التي تبدو وكأنها تبحث عن مخرج لها من هذا العالم الضيق القاسي رغم ما يبدو من جمال ورونق وسحر في الطبيعة، وسكون واستقرار ظاهري في خلفية الصورة.

الفيلم يدور حول “تيمات” ألين المعروفة: الحياة والحب والموت والرغبة والعجز عن التحقق ولاجدوى العيش، والبحث عن مخرج للاستقرار النفسي، وتحقيق الفعل الصواب، ولو مرةواحدة، ومن خلال ارتكاب جريمة يراها البطل هنا مبررة تماما في سياق أنها يمكن أن تجعل هذا العالم المختل، المليء بالظلم والقسوة والبشاعة، أكثر اتزانا وعدلا، وكلها أفكار يعبر عنها ألين من خلال شخصية “البطل” وهو هذه المرة ليس فنانا، بل أستاذ جامعي للفلسفة يدعى آب لوكاس، يقوم بدوره ببراعة جواكيم فينيكس، يأتي لتسلم عمله في جامعة جديدة في رود أيلاند، تسبقه سمعته كرجل رومانسي يميل إلى العزلة ويدمن على الشراب، يعاني من الاكتئاب بسبب إحساسه بعبث الوجود، مما يدفعه إلى ترديد أفكار جديدة في الفلسفة ينقلها لطلابه في الجامعة، تقوم على رفض الفلسفة المعاصرة من كانت وكيركغارد إلى سارتر وهايدغر، وتصل عدميته السوداوية إلى حد اللعب بحياته عندما يقوم أمام مجموعة من طلابه بممارسة اللعبة التي اشتهرت بـ “الروليت الروسية” (من فيلم “صائد الغزلان” وليس من روسيا!)، أي المجازفة يالضغط على زناد مسدس محشو برصاصة واحدة وهو يصوبه نحو رأسه، فربما أصابته الرصاصة أو أفلت منها، وهو يكررها أكثر من مرة وسط فزع الطلاب. إنه رافض للفلسفة التي تعلمها، ويرى أنها مجرد هراء فارغ أو ” استمناء فكري” أي لا تؤدي إلى فعل حقيقي يغير العالم إلى الأفضل.

لوكاس الذي يتردد في الفيلم أنه رأى زميلا له يُقتل في العراق بانفجار لغم، كما هجرته زوجته بعد أن وقعت في غرام أقرب أصدقائه، تسبقه أيضا سمعته كزير نساء لا يشق له غبار، تحاول “ريتا” زميلته المحبطة في حياتها الزوجية اجتذابه إليها بشتى الطرق، متصورة أنها ستحصل معه على وليمة جنسية معتبرة، وعندما يرضخ لاغرائها المتكرر أخيرا تصاب بخيبة أمل عندما يفشل في ممارسة الجنس معها بسبب شعوره بالاكتئاب واليأس من جدوي الحياة نفسها.

فلسفة الجريمة

وهو من جهة أخرى، يقاوم محاولات طالبة متفوقة عنده هي جيل (إيما ستون) التي تنجذب إليه وإلى أفكاره، وتدريجيا تجد نفسها واقعة في حبه، فتهجر خطيبها الشاب من أجله، لكن لوكاس يظل فترة مترددا في الاندماج معها، إلى أن يحدث أن يستمع الإثنان ذات يوم، أثناء تناول الغذاء في احد المطاعم، إلى شكوى امرأة لأصدقائها، من قاضٍ متعسف يصدر حكما وراء آخر، بحرمانها من رعاية أطفالها منحازا لزوجها. هنا يتشبث لوكاس بفكرة أن الخلاص من هذا القاضي أفضل للبشرية، وأن العالم سيصبح أفضل من غيره. ويبدأ في التخطيط لجريمته التي تتم في النهاية بطريقة يتصور أنها تكفل له تحقيق ما يعرف بـ “الجريمة الكاملة”، ويالتالي يحقق فكرته في عدم الاكتفاء برصد ما يحدث في العالم والتفلسف في تفسيره، بل ضرورة اللجوء للحلول العملية، وهو يتساءل بصوت مسموع: ما جدوى أن تتمنى المرأة الضحية أن يُصاب القاضي الظالم بالسرطان، بل لابد أن تعملعلى أن يصاب به!

لوكاس يشعر بالتوازن بعد نجاح الجريمة، ويصبح أكثر إقبالا على الحياة ويشرع في استكمال كتابه عن الفيلسوف كيركغارد، ويندمج في علاقته بطالبته الحسناء، كما يبحث فكرة ترواده للسفر الى أوروبا، إلا أن الأمور تتعقد، والشكوك تتناثر من حوله، تبدأ من ريتا التي يتضح أنها كانت تعرف الكثير عن خطته لقتل القاضي، ثم تنتقل الشكوك إلى الطالبة “جيل” التي تواجهه لينتهي الفيلم نهاية غير متوقعة.    

إننا هنا أمام قاتل لم يرتكب فعل القتل بدافع شخصي مثل الانتقام أو السرقة أو الغيرة، بل من أجل “هدف نبيل” و”إنساني”، وهو على قناعة تامة بأنه فعل الشيء “الصواب”- كما يقول- ولكن “جيل” ترى أن ما فعله جريمة كاملة وعمل غير أخلاقي.

يتردد في الفيلم الكثير من الأفكار والمناقشات، حول الروائي الروسي ديستويفسكي صاحب “الجريمة والعقاب”، والفيلسوف الوجودي سارتر “الآخرون هم الجحيم”، وهايدغر الذي يرى لوكاس علاقة بينه وبين الفاشية، كما تدور مناقشات حول فكرة الاضطرارية، وعجز الفلسفة ليس عن تفسير العالم فقط بل عن تغييره. هنا أيضا، مرة أخرى، فتاة شابة تمثل فوران الشباب والرغبة الشديدة في المعرفة وحب الاستطلاع، تنجذب إلى رجل يكبرها في السن هو لوكاس، الذي ربما يكون المعادل لوودي ألين نفسه المهجوس بهذه الفكرة، أي فكرة انجذاب فتاة جميلة صغيرة إلى رجل يكبرها في العمر، بسبب أفكاره الذكية وجاذبيته الذهنية وثقافته وموهبته الفنية، تفضله على شاب من أبناء جيلها، طيب ورقيق لكنها تراه سطحيا. هذه الفكرة تكررت في الكثير من أفلام وودي ألين، كما تبدو معظم أفكار الفيلم الفلسفية وقد سبق أن طرحها ألين بشكل أو آخر في أفلامه السابقة، ولكن براعة ألين ككاتب ومخرج، تكمن تحديدا في قدرته على أن يعيد صياغة أفكاره كل مرة، في سياق مختلف، ومن خلال شخصيات تمتلك جاذبيتها من داخلها، دون أن تبدو وكأنها مجرد أصداء لصوت ألين وحوارات الداخلية مع نفسه.

عن السرد السينمائي

السرد يسير في اتجاه واحد صاعد ولكن من خلال وجهتي نظر تكملان المسار: وجهة نظر لوكاس ووجهة نظر جيل بصوتيهما من خارج الكادر للربط بين أطراف الموضوع، والتعليق عليه. والعالم الخارجي في الفيلم من خلال الأماكن البديعة التي يدور فيها التصوير: الحدائق، المطاعم، قاعات الموسيقى..إلخ كلها تبدو تعبيرا عن جمال فائق في العالم يتناقض تماما مع الحس العدمي لدى الشخصية الرئيسية، ومع ذلك البحث المرهق من جانب جميع الشخصيات عن التحقق والسعادة وتصويب أخطاء الحياة.

يستخدم ألين كعادته التكوين في الكادر السينمائي، وحركة الكامير البطيئة المحسوبة التي تقترب أو تتابع أو تبتعد عن الشخصيات حسب المواقف المختلفة، والألوان المتنوعة الثرية، الأحمر والبرتقالي والأصفر والأزرق، والإضاءة الخافتة والألوان القاتمة في مسكن لوكاس، ولاشك أن الفضل في جمال الصورة ورونقها يعود إلى مدير التصوير الإيراني داريوش خونجي. وهذا هو فيلمه الرابع مع وودي ألين، والفيلم الخامس لألين الذي يستخدم التصوير للشاشة العريضة.

وكعادته أيضا يبرع ألين كثيرا في تحريك الممثلين والتحكم الدقيق في مكونات الصورة وضبطها مع حركة الممثل داخل الكادر السينمائي، وضبط علاقته بغيره من الممثلين، ودفع الحيوية والحركة داخل ديكور المشهد، وجعل الحوار ينساب بصورة تلقائية، وإن غلبت عليه أحيانا الصبغة المباشرة.

ينتهي الفيلم بأن يلقى القاتل جزاءه، وهي نهاية أخلاقية تقليدية “سعيدة” تغلق الدائرة، وتوصل رسالة مبسطة معتادة أن “الجريمة لا تفيد” و”من حفر حفرة لأخيه- أو لصديقته- وقع فيها”، وربما لا تبدو هذه النهاية متسقة مع الفكر السينمائي لوودي ألين الذي سٌئل في المؤتمر الصحفي لمناقشة فيلمه في “كان”، عما إذا كان قد فكر من قبل في ارتكاب جريمة قتل ، فأجاب: نعم وحتى هذه اللحظة!

رجل متطرف معناها التطرف الفكري وليس التطرف السياسي..

المقال نشر أولا في جريدة العرب اللندنية

Visited 13 times, 1 visit(s) today