“ديسكو بوي”.. طموح فني لا يفي بوعده
أمير العمري
من الأفلام التي لفتت نظري كثيرا ضمن ما عرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي (البرليناله) Berlinale- الـ73 فيلم “فتى الديسكو” أو ديسكو بوي Dico Boy وهو الفيلم الروائي الأول للمخرج الإيطالي المقيم في باريس، جياكومو أبروتشي، الذي سبق أن أخرج عددا من الأفلام القصيرة كما نال جائزة “سيزار” الفرنسية لأفضل فيلم تسجيلي هو فيلم “أمريكا” (2020). والفيلم من الإنتاج المشترك بين فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وبولندا.
الجوانب الفنية في الفيلم مدهشة، جماليات الصورة، الموسيقى، المونتاج، والتمثيل. هناك أجواء ضبابية مظلمة، كابوسية، وموسيقى ديسكو صاخبة تجعل قلبك ينبض بقوة، وممثل يبدو كما لو كان يمثل في لقطة واحدة ممتدة دون أي تعثر، ومونتاج لاهث، يضبط طول اللقطات بحيث لا توجد لقطة زائدة أو في غير مكانها، ورغم كل هذا التميز التقني والفني، تكمن المشكلة الأساسية في السيناريو الذي يخذل الإخراج المتمكن والأداء البديع، ويجعل الفيلم يضل طريقه ويسقط بين الواقع والخيال، ولكن دون اشباع ودون سيطرة، كما لو كنا أمام واقعية سحرية ولكن من دون أي سحر، بل ومن دون أي احتياج إلى كل هذا التخبط والانتقالات المربكة بين الشخصيات مع غياب أساس درامي قوي أو و”موضوع” واضح!
جياكومو أبروتشي يريد أن يصنع فيلما من أفلام الفن الأوروبية، أفلام المؤلف التي تتحرر من الحبكة التقليدية ومن قيود “النوع” السينمائي، لكنه يدخل إلى، ويدخلنا معه، في متاهة، يعرف كيف يدخلها ثم لا يعرف في النهاية كيف يخرج منها، فهناك مشكلة أساسية في رسم ملامح العلاقة التي وعدنا بها بين شخصين ينتميان الى عالمين مختلفين تمام الاختلاف.
في البداية لدينا شابان من بيلاروسيا هما “ألكسي” و”ميخائيل”، يقطعان رحلة أو مغامرة محفوفة بالمخاطر، ضمن مجموعة كبيرة من أقرانهم، إلى بولندا التي يدخلانها تحت ذريعة تشجيع منتخب بلدهم في كرة القدم، ونرى ضابط الحدود ينبه الجميع إلى ضرورة المغادرة خلال يومين فقط أي بعد انتهاء المباراة. لا بأس فكل من ألكسي وميخائيل لديهما خطة أخرى، الذهاب إلى فرنسا حيث يبدآن حياة جديدة ويصنعان معا مستقبلا باهرا في أرض النور والنعم. وهما ينجحان بالفعل في الهرب والتسلل في الغابات سيرا على الأقدام ثم استغلال ما معهما من المال لتدبير وسيلة انتقال إلى بلجيكا.
مدخل قوي سيؤدي إلى تطور آخر أكثر قتامة، حيث يتحول الحلم إلى كابوس عندما يغرق ميخائيل أثناء عبور الاثنين نهرا لدخول فرنسا. وبالتالي يجد الكسي نفسه وحيدا بعد وصوله إلى باريس، بعد أن يكون قد فقد ما معه من مال كما اضاع جواز سفره.. يقبضون عليه ويستجوبونه مع غيره من المتسللين في احد من معسكرات الجيش، وهناك يلوح له الضابط بأن فرصته الوحيدة لكي تتغاضى فرنسا عن وضعه كمهاجر غير شرعي وتقوم بترحيله، أن يلتحق بـ”الفيلق الأجنبي”، شريطة أن يثبت جدارته بأن يصبح أحد مقاتلي الفيلق الأشداء وأن يصمد خلال الاختبارات القاسية البدنية والنفسية التي يمر بها.
ينجح الكسي في عبور الاختبارات الشديدة، ويصمد في وجه ما يوجه إليه من إهانات فظة، وينضم الى الفيلق الذي يرسلونه في مهمة قتالية شاقة في وسط افريقيا، ولكن كفصيل من المرتزقة، يتعين عليهم قتال الثوار الذين كونوا حركة ثورية مناوئة للحكومة النيجيرية.
خلال مشاهد الاختبارات ثم التدريبات العنيفة التي يمر بها ألكسي، ينتقل الفيلم عبر المونتاج المتوازي إلى قائد القوة النيجيرية المعارضة التي تتخذ لنفسها مكمنا في غابات دلتا نهر النيجر. فالرجل ويدعى “جومو”، يعيش حياة مختلفة تماما عن حياة ألكسي، وسط الطبيعة، وهو يناضل ضد الاحتكارات الأجنبية التي تريد الاستيلاء على البترول من بلاده، وتقوم أيضا عبر مشاريعها بتلويث البيئة بعد أن استولت على مساحات شاسعة من الأراضي. ما علاقة هذا بألكسي؟ هل سيلتقي الاثنان؟
نعم. سيتعين على ألكسي في وقت ما أن يتصارع مع “جومو” الذي رأيناه قبل قليل يرقص مع شقيقته الحسناء “أودوكا” وسط جمع من جنوده، فهم يعرفون أيضا كيف يستمتعون بالحياة الطبيعية التلقائية البسيطة ويطربون للموسيقى والغناء الشعبي. وكلها مناظر تذكرنا بأفلام حرب العصابات بين المرتزقة الأوروبيين والحركات الثورية الافريقية في الستينيات، ولكن هل نحن أمام فيلم سياسي؟
من الواضح أن سيناريو الفيلم أراد تصوير ذلك التناقض بين رجلين ينتميان إلى عالمين شديدي الاختلاف: “جوكو” صاحب القضية والوعي السياسي الذي يناضل من أجل تحرير بلاده من التدخل الأجنبي والتخلص من حكومة فاسدة، وألكسي الباحث عن حياة جديدة لن ينالها إلا إذا تحول إلى وحش، قاتل، بالتالي يسقط في شعوره الشخصي بالذنب ومن ثم كراهية الذات. وبعد أن يتمكن من قتل “جوكو” ثم يعود الى باريس، يحاول التغلب على مشاعره السلبية وهواجسه الخاصة التي تسيطر عليه وشعوره بالاسى لنفسه نظرا لسقوطه، عن طريق غشيان الأندية الليلية والحانات والغرق في الخمر. لكن فجأة وفي أحد المراقص تتراءى له الحسناء الافريقية “أودوكا”، والواضح أنه يحلم أو أنه واقع تحت تأثير الخمر والمخدرات، ولكن المشكلة أن الاثنين لم يسبق أن التقيا أصلا في غابات نيجيريا، والفيلم بالتالي، يريد أن يقول لنا إن هناك شيئا غامضا يجمع بين روحيهما!
يبتعد الفيلم عما وعدنا به في البداية، من الدخول الى موضوع “سياسي” يرتبط بالنظرة الكولونيالية التي لاتزال قائمة في فرنسا، ورغبتها في السيطرة على البلدان الافريقية، مع الإشارة الى احتكارات النفط الغربية التي لا تبالي بتلويث البيئة وما يتبع ذلك من القضاء على الحيوانات النادرة، كما يبتعد حتى عن فكرة “دراسة الشخصية” character study من خلال التركيز على ما يطرأ من تغير على شخصية بطله الغريب الذي يسير إلى مصيره كما لو كان مدفوعا بقوة لا يملك لها دفعا. وبدلا من ذلك، يضل الفيلم طريقه داخل غابات افريقيا، ثم داخل حانات باريس القاتمة، بحيث يصبح كأنه رحلة غامضة إلى الدمار، يغلب عليها التصنع في الشكل، والمغالاة في التغريب الذي لا يفيد، بل يشتت رؤيتنا للموضوع النحيف جدا، رغم ما كان يمكن أن تنتجه الفكرة.
ما يبقى في الذاكرة في نهاية الأمر، ذلك الأداء المدهش من جانب الممثل الألماني “فرانز روغوفسكي” الذي يؤدي دور “ألكسي” بكل ما لديه من قدرة على التسلل تخت جلد الشخصية، السير نحو مصيره منوما، الطاقة البدنية والإصرار الشديد على تحمل الأذى بعد أن انقطعت به السبل، وكانت هذه الشخصية وحدها جديرة بأن يصبح الفيلم كله عنها، عن التدهور، عن كيف ينتهي الطموح إلى الرغبة في تدمير الذات، بعد أن يخوض رحلة السقوط في “الخطيئة”.. لكن الغموض العام المحيط بالفيلم يبدو مقصودا، لكون جياكومو لا يريد للمشاهد أن يستنتج شيئا محددا، وأن يظل هائما مع بطله الذي لا نعرف ماذا سيحدث له أبدأ!