دعوة موجهة إلى “طبقة النقاد السينمائيين”
يرغب الكثيرون ان يكونوا أكثر قربا من السينما، فهي فن الحكاية البصرية المحببة المشوقة المثيرة التي تفننت كثيرا في طريقة تقديم نفسها للجمهور عبر مهارات وتقنيات عالية الكفاءة وعقول نادرة اتخذت من الشكل وسيطا فاعلا مبهرا في تسويق مضامينها وافكارها.
وتعد السينما خطابا نافذا لمن يعشق تلقيها، وبدونه، لن تصل رسالتها، بل تهمل، ولن نعرف حتى رقم الخزانة التي يمكن أن تحفظ فيها، واين ومتى؟
والرسالة هنا تصل عبر منظومة التلقي من مرسل إلى مرسل اليه، وبعد المشاهدة هنالك قراءات مختلفة ومتعددة لهذا الفيلم او ذاك، منها العميقة والأكثر عمقا، ومنها البسيطة والابسط من ذلك بكثير.
وعندما نرى السينما على أنها فن وصناعة وفكر وعلم وجمال، فهذا ما يتطلب ان ننظر إليها بدراية فائقة ضمن معادلة التلقي، كل حسب قدراته وثقافته وتطلعاته وخبراته، والاجدر أن نفهمها على وفق الاشتراطات المنهجية الراسخة والمتوافقة مع الإطار العام للغة ومعايير التقييم والتقويم التي يمتهنها القارئ الناقد المتذوق.
إن طبقة النقاد المتخصصة بشؤون السينما هي العين الثاقبة المحللة، المكتشفه، المفسرة في عالم الفيلم، بدءا من كتابة السيناريو إلى مرحلة العرض الراهن له.
فالكتابة النقدية ليست ترفا فكريا، ولا هي سدا لفراغ ما، او استسهالا سطحيا، وليست قراءات قصدية انفعالية في الإشادة أو الاستهجان من قيمة العمل الفني، بل هي الضمير الذي تقوده احكام المعايير العلمية المعرفية والفلسفية والحرفية الجمالية التي بموجبها نستطيع ان نفهم الفيلم، ونتذوقه، ونحلله ونفسره، ونضع له تاويلا، بل أكثر من تأويل، وبحسب تعدد المعارف والثقافات والمرجعيات الفكرية والجمالية للقارئ الناقد المدعمة بمعرفة نظريات الفيلم ولغة النص وبنية السيناريو وتقنيات السرد وفلسفة الصورة وعلوم السيمياء والنفس والاجتماع والمذاهب الادبية والفنية والتغيرات التي رافقت البنيوية والتفكيكية والتداولية والظاهراتية والمفاهيمية والمرتكزات التي حملتها الحداثة من سمات وملامح وما بعد الحداثة وما بعدها.
فالنقد ينبغي أن يكون بعيدا كثيرا عن الانطباعات الشخصية، والآراء المغرضة، والنزعات الذاتية، وردود الأفعال المرتدة عن المواقف، وهو ليس رغبة لإرضاء المخرج أو جهة الانتاج أو ذما وتنكيلا لاحد، رغم ان البعض من صانعي الافلام لن يرتضي ولن تعجبه بعض الكتابات النقدية لسبب أو لاخر، وإن اختلفت مستويات الكتابة.
ولكن تعد مكانة الطبقة النقدية من المقام العالي والاهمية البالغة في تنوير الفضاء الثقافي العام والوسط السينمائي بالذات إذا ما اعتمدت الجرأة المهنية والعلمية الموضوعية والقياس المتوازن. وبخاصة في اشتراك الناقد في لجان التحكيم في المهرجانات السينمائية أو عقد الجلسات النقدية للافلام وغيرها.
وفي سنين مضت كان لهذه الطبقة الشأن المهم بمسمى “أتحاد أو رابطة أو هيئة… الخ” وعلى قدر عال من التماسك والفاعلية في الوسط السينمائي، ولا زلنا نطمح ان تحتفظ بهذا القدر من الرفعة، فهي كيان، وصرح، وتشكيل، وتكوين، وملتقى وجمعية، وجماعة، وزمالة، وصحبة، وحرفة، وقطاع، ومسميات أخرى وكلها ترتقي إلى مستوى طبقة بما تتمتع به من عناصر وسمات الهوية المستقلة، نامل ان يكون لها تجمعا لنقادنا” محليا” أو “عربيا” تحت مسمى يرتقي بقيمتهم الادبية والفكرية والجمالية السينمائية.
وهذا المسمى المرتجى في مقالنا هذا، ندعوا له ان يعمل وفق نظام داخلي خاص به وبسياقات عمل مهنية منتظمة وأن يكون له مقر رئيسي كبير ولائق مع مستلزمات العمل ، ويمكن فتح مكاتب فرعية له في العواصم والمدن، وان يقوى على اصدار مجلة نقدية سينمائية مختصة قابلة للترويج والتسويق وان يعمل على إقامة الورش التدريبية في فنون كتابة النقد السينمائي أو كتابة السيناريو وغيرها، او عروض الافلام المهمة مع إقامة الجلسات النقدية لها، وان يسبق ذلك جملة من الاتصالات والمشاورات والتفاهمات بين الاخوة والاخوات من النقاد بما في ذلك الاخوة النقاد المقيمين في دول اجنبية عبر المواقع الاليكترونية لنضوج الفكرة والاتفاق عليها بما فيها اختيار مقر المكان الرئيسي واليات ونظام العمل ، نأمل منه أن لا يعمل فيها الناقد بصفة “الفرد الواحد” بمعزل عن ألفة الجماعة من النقاد ، فهناك انتماء ملزم بوصفه “اجتماعيا ومهنيا وأخلاقيا ومعرفيا” رغم الخصوصية النقدية التي يتميز بها الناقد فكريا وحرفيا.
ونعتقد أيضا أن حدود وظيفة الناقد تتعدى مسافة تحليل الفيلم وقراءته الجمالية له، لتصل إلى مساحات اوسع، فبامكانه أن يناقش ، كيف يمكن أن نكتب نصا وبأي طريقة وأسلوب؟ وأي المواضيع والأفكار التي تنفع الذائقة العامة او تتسبب في حرج كبير للمجتمع، وكيف نحمل فصول السيناريو مثابات سمعية بصرية عالية القدرة التعبيرية والحركية؟ وكيف نحشد إمكانيات الانتاج السينمائي باتجاه صنع الجمال الفيلمي الاكثر جذبا وتشويقا؟، ويناقش أيضا، كيف يمكن أن نجسد الادوار، ونعبر شعوريا وجسديا، وكيف نضع المعالجة الاخراجية المتقدمة لهذا المشهد أو هذا الحدث.
وفي هذا يناقش الناقد اللغة السينمائية والنص والسرد الفيلمي والصورة والحركة والاخراج والأداء في التمثيل والاشكال والتكوينات والمعاني المنتجة عن الفيلم، دون ان يتدخل بعمل غيره وخارج التخصص، وقد تتطلب الحاجة منه في الكتابة عن الأساليب المثلى في التعامل بين المخرج والمنتج أو بين المخرج والممثل أو بين الممثل والممثل المشارك معه في المشهد، او بين مجمل عناصر اكمال الفيلم.
وبكل الحالات نحن ننظر للناقد على أنه بقعة ضوء في مساحات أكثر حاجة للضياء. وهو الذي يكشف لنا أسرار وحيثيات وعناصر قوة الخطاب السمعي البصري عبر ادواته التحليلية. التي تتخذ من الصورة وسيطا فاعلا ومؤثرا في نقل المعاني والدلالات والرموز.
ولهذا ندعو الى ان نضع لمكانة النقد السينمائي دورا كبيرا مؤثرا في رفعة الذائقة الجمالية للصورة، وللفيلم، ولمجمل عروض الشاشة، واشاعة ثقافة محصنة بالمعرفة والخبرة في استلهام ما يتوجه ويعرض علينا من الكثير من النتاجات السينمائية، الفائقة الصنعة، والعميقة الفكر، والخيالية، والممتعة، والمدهشة، والمهمة، والعجيبة، والغريبة، والمبهمة الغامضة، والشائكة، والجريئة، والوضيعة، والمغرضة، والماجنة والمشوهة، والمنحرفة، والمهرجة، والدعائية، والاستعراضية، وغيرها.
وَهذه مسؤولية ثقافية فكرية وجمالية تتحملها طبقة النقاد صفا صفا مع قطاعات الكتابة والانتاج والاخراج والتمثيل وبقية العناصر الفنية والتقنية المنفذة، لحماية الانتاج السينمائي من عناصر الخلل، وهي التي تؤشر على مكانة ومستوى السينما العربية والمحلية من السينما العالمية، والى اي مدى يمكن الاقتراب منها او التعاون المشترك معها وتبادل الخبرات فضلا عن قراءتها لعموم الخطاب البصري في السينما العالمية ومدى الاستفادة منها، وكذلك الكشف والتصدي لما يروج عالميا من افكار ومفاهيم واغراض مريبة، لا تنسجم ومعتقداتنا وقيمنا وتقاليدنا الموروثة، سيما وان العديد من الافلام العالمية التي تتناول العرب، وضعت لهم من خلال المعالجة، قدرا أقل بكثير من مكانتهم وأخلاقهم بما يتطلب التصدي لمثل هذه المعالجات المحرفة والمشوهة للحقائق التاريخية..
ولأجل تأدية الدور بشكل مؤثر وفاعل، احسب ان طبقة نقادنا ما هي إلا بمثابة مركز ابحاث ودراسات معتمدة في الدراسات العليا والاولية في معاهد وكليات السينما المحلية والعربية، اذا ما اعتمدت ” تحت سقف واحد * صدق الألفة والانسجام الحميم والتفاعل الإيجابي ووحدة الملتقى بين كتابنا ونقادنا رغم الاختلاف الفكري والحرفي بين هذا وذاك، بأدامة الحوار والمشاورة واحترام الرأي والرأي الاخر والتداول المتواصل في شؤون الصنعة لإعطاء شحنة ضوء إضافية لأقلامنا وافلامنا التي تنشد الفن والجمال.