حول مصطلح اللغة السينمائية

قيس الزبيدي قيس الزبيدي

أشار الناقد عدنان مدانات في الفصل الثالث “إكلاشيهات المصطلح النقدي المضللة” من كتابه “ازمة السينما العربية” بأن صدور كتاب مارسيل مارتين “اللغة السينمائية” – قبل أكثر من نصف قرن – قاد الى استخدام مصطلح لغة السينما وانتشاره،ويعترف الناقد نفسه، بوقوعه في استخدام هذا المصطلح المُضلل، ومن ثم تراجعه عن استعماله، واستخدم بدله، بعدئذ، وسائل التعبير السينمائية، رغم أن النقاد العرب، ما زالوا يستخدمونه حتى اليوم، دونما أي شعور بالحرج.

فنحن نرى مثلا ناقداً بارزاً كعلي أبو شادي، الذي عنوّن كتابه “الفيلم السينمائي” والذي سبق وصدر في طبعته الاولى عن الثقافة الجماهيرية في العام 1989، لكنه حينما اعاد إصداره عن مكتبة الاسرة في العام 1996 واعاد إصداره في دمشق في سلسلة الفن السابع 114 في العام 2006- غير عنوانه إلى “لغة السينما”، التي يعرّفها: حرفة الفنان السينمائي و”ووسيلته لتحقيق رؤيته وتوضيح موقفه بشأنها، شأن اللغة التي يستخدمها الكاتب وفق القواعد والأساليب البلاغية والنحوية”.

كما إن مخرجاً كبيراً كصلاح أبو سيف أكد، في فترة قريبة، أثناء ما كان يشرح لطلاب المونتاج والإخراج في السنة الثالثة في أكاديمية الفنون بالقاهرة، “علينا فهم السينما كلغة ذات ابجدية واضحة ومحددة، شأنها في ذلك شان جميع اللغات الحية كـاللغة العربية وما تتضمنه من قواعد للنحو والصرف (…) وكلما اتقنا قواعد اللغة كلما استطعنا التعبير عن مرادنا بأبسط وأدق الألفاظ بحيث يفهم حديثنا كل من يستمع إليه.

ونتيجة لذلك يرى إن اللغة السينمائية تتألف ابجديتها من ثمانية حروف: خمسة منها تخص الصورة وثلاثة تخص الصوت. ويسمي أبو سيف لطلابه هذه الحروف الخمسة كالتالي: الديكور والممثل والاكسسوار الثابت والمتحرك والاضاءة”!


مقدمة نظرية اولى للنقاش؟
منذ بداية تاريخ السينما تمت مقارنة السينما باللغة الطبيعية وتبع ذلك الاعتقاد بانها لغة تمتلك قواعدها ومونتاجها ونحوها. واستمر عدم الوضوح في عدد من تلك المفاهيم في إطار نظرية السينما، خصوصاً وان نظرية الفيلم الكلاسيكية، لم تمتلك إلا معرفة قليلة بعلم اللغة، كانت بالكاد تؤهلها، بشكل كاف، في عقد عقد مقارنة سليمة بين مفاهيم هذا العلم وتطبيقها في مجال نظرية السينما.


لنعد إلى تاريخ نظرية السينما وإلى الدراسات اللغوية والسيميائية، التي توصلت إلى تحديد وتعريف دقيقين لمفهوم اللغة، بحيث لم يعد من المجدي تطبيق خصائصها ومواصفاتها على ما كان النقد يسميه اللغة السينمائية، والذي تمت مقارنته، منذ بداية تاريخ السينما، باللغة الطبيعية.

لقد ساد الاعتقاد بإنها لغة تمتلك قواعدها ونحوها وصرفها. وسبق لبودفكين أن عرف تشابه مفردات السينما بمفردات اللغة الطبيعية كالتالي: “إن المونتاج هو اللغة التي يتحدث بها المخرج إلى جمهوره، واللقطة تمثل الكلمة ومجموعة اللقطات تمثل الجملة والمشهد يتألف من الصور كما تتألف الجملة من الكلمات”. إيزنشتين، أيضاً لجأ بدوره، إلى اللغة، وإلى اللغة اليابانية، بصورة خاصة، لشبه كتابتها بالرسوم الهيروغليفية وانصرفت جهوده في فيلم “اوكتوبر”، إلى اكتشاف الكيفية التي يتمكن بها المونتاج من تحويل صور المواضيع الحسية إلى لغة المفاهيم المجردة. ونتيجة لذلك يرى ميتري أن محاولة ايزنشتين في صنع فيلم عن “رأس المال”، وهي محاولة لم تر النور، ، لو تحققت، لكان مصيرها الفشل.


ليس هناك من يعارض اعتبار الصور السينمائية مثل الكلمات، طبيعتها، كعلامات، التعريف بشيء ما عبر استبداله بشيء آخر، أو بتعبير أفضل، إحلال شيء آخر بدله. ولا شك إن العلامات السينمائية تُظهر بنية نظيرة لبنية لغة الكلام، كما أن استعمالها يخفي نظاماً شبيهاً بنظام لغة الكلام، ويُظهر بنية نظيرة لبنية لغة الكلام. “وإذا ما ارادت السينما أن تكون لغة اصلية فعلينا أن نتنازل عن أن تكون بمنزلة كاريكاتير اللغة الطبيعية”.


حدث في منتصف سنوات الستينيات تحول كبير في طبيعة القضايا الجمالية واللغوية السينمائية التي خضعت للدراسة والتحليل من قبل منظرين جدد جاؤوا إلى حقل السينما من حقول معرفية أخرى مثل علم اللغة والبنيوية والسيميائية (سيميولوجي) أو علم نظام العلامات. وقد أغنت مثل هذه الأبحاث نظرية وجمالية السينما عبر عقد الصلة بين أصول وقواعد لغة الكلام وأصول وقواعد لغة السينما. وقد عرّفت السيميائية اللغة والفيلم باعتبارهما ينتميان، من جهة، إلى نظم الاتصال، ويختلفان، من جهة أخرى، في أن اللغة، أية لغة، تملك نظام لغة، أما الفيلم، الذي تجمعه مع اللغة أشياء كثيرة مشتركة، فليس له نظام لغة. ولعل هذه المقارنة توضح ما عناه كريستيان ميتز، حينما اعتبر الفيلم لسانا بدون لغة، أو حينما عقب على ذلك امبيرتو ايكو، وعد الفيلم بمنزلة كلام لا يستند على لغة.


عرف ابن جني اللغة بأنها مجموعة “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”. كما اعتبرها الآمدي “اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية” التي تفضي إلى دلائل كلامية وعبارات لغوية. والثابت أن لكل لغة وحدات صوتية تتيح لها تركيب الوحدات الدالة التي تنفرد بها، وإذا ما تجاوزنا التعاريف العديدة للغة، التي حاول كل منها وفي أوقات مختلفة أن يقترب من قانون اللغة الأساس، فسنجد أن أندريه مارتينيه، وهو يقارن بين الكلام البشري وبين غيره من ألوان التخاطب، استطاع أن يبين أن الكلام البشري قادر وحده على “التمفصل المزدوج” وأكتشف أن مبدأ التمفصل المزدوج هو القانون الأساس من قوانين اللغة الطبيعية.


يتركب التمفصل المزدوج من تمفصلين: المورفيمات، وحدة التمفصل الأول، وهي وحدات صوتية صغرى دالة، تتألف بدورها من وحدات أصغر منها غير دالة وهي الفونيمات، وحدة التمفصل الثاني، وهي وحدات صوتية تمييزية. يعبر عنها في الكتابة بالحروف الأبجدية يمكن بواسطتها تركيب الوحدات الصوتية الدالة: الكلمات المعجمية، التي تنفرد بها كل لغة.

ومع أن عدد الفونيمات محدود، إلا أنه ينتج عدداً غير محدود من المورفيمات، تساعد على التمييز بين المعاني. وان ما ينتج عن تعريف الفونيم بوصفه قيمة تمييزية في المقام الأول، هو أن الفونيمات لا تنجز وظيفتها بفضل تفردها الصوتي وإنما بفضل تقابلها التبادلي ضمن نظام معين. والشيء المهم، الذي يتعلق، بقدر ما بالفونيمات، هو الاختلافات، التي تساعد على التمييز بين الكلمات. وهذه هي القيمة اللغوية الوحيدة للفونيمات. فتلك الاختلافات هي بالضبط، نقطة الانطلاق لأي بحث في الفونيمات.

وأكد دي سوسور نفسه اعتماد اللغة على الاختلافات، ورأى أن ليس في اللسان سوى فروقات، من هنا يأتي اكتشاف مارتينيه الحاسم للتمفصل المزدوج ويتيح تعريف اللغة، إذ لا يمكن اعتبار أية وسيلة اتصال أخرى، لا تمتلك هذا القانون الأساس، الذي يصوغ نظام اللغة بمنزلة اللغة. من هنا أيضاً يأتي، مثلاً، تأكيد مونان على إن “التمفصل المزدوج هو ما يُميز اللسان البشري وما هو لغوي خالص في تعابير الإنسان معاً، وهو مشترك بين اللغات كافة. وخارج التمفصل المزدوج لا توجد لغة قط، ولا يوجد شيء يتعلق بعلم اللغة”.
كان السؤال، الذي يساق، منذ البداية، ويقارن السينما باللغة الطبيعية هو: كيف نجعل مادة التعبير في السينما ذات دلالة، وكيف نجعل الصور تحمل الدلالات؟

لقطة من فيلم “أكتوبر” لأيزنشتاين

هناك عدد من مشاكل مركزية في نظرية السينما، لا يمكن حلها دون الرجوع إلى نظرية علم اللغة وطريقتها. وثمة أوجه ثلاثة متداخلة فيما بينها: تاريخ النظرية، ونقد النظرية الكلاسيكية في تحليل لغة الفيلم وسيميائية الفيلم، ومشروع نظرية الفيلم الجديدة، وهذه العلاقة المترابطة، لا يمكن كشفها دون استطلاع قصير للمفهوم النقدي لتاريخ النظرية.


تحدث كريستيان ميتز عن مراحل ثلاثة لتاريخ النظرية، جرى فيها تسليط الضوء على الفيلم، وتأسس، نتيجة لذلك، ما سُمي نظرية الفيلم أو نظرية السينما، و يعني الشئ ذاته، وتمت فيها معرفة ما هو فيلمي أو ما هو سينماتوغرافي. وكانت تلك الابحاث الإنتقائية والتركيبية متألقة، في بعض الأحيان، رغم إنها لم تستعمل منهجاً معرفيا بعينه، بشكل كامل، بل استعملت مناهج عديدة. وفي مرحلة ثالثة، كانت متوقعة، كان على كل منهج من هذه المناهج، وهو يرتبط بغيره ويتداخل، أن تختفي اشكاله الحاضرة، وأن يتخلص تركيب نظرية السينما، فعلاً، من انتقائيته ويراجع مدى صحة تقديراته المختلفة ومعرفة مستواها التجريدي الخاص. ويبدو إننا في الوقت الحاضر، نجد أنفسنا في المرحلة الثانية، التي هي “مصح شفاء” لا مفر منه، وعلينا أن نتعرف على تعددية المناهج الضرورية. إن سيكولوجية الفيلم وسيميائيته لم تكن موجودة في الماضي، وربما لن توجد في المستقبل، لكن علينا اليوم أن نرعاها، لأن الوصول إلى خلاصة حقيقية، لن يتحقق بالإملاء، إنما يتحقق، في النهاية، عن طريق الابحاث الوفيرة”.


كان الهولندي جان ماري بيترس من أوائل السيميائيين الذين بحثوا في هذه الإشكالية. وتقف دراسته الأولى التأسيسية “بنية اللغة السينمائية” التي نشرت عام 1961 على رأس قائمة البحوث الجديدة المهمة. ويبدأ بيترس بحثه بالسؤال التالي: “ماذا نريد أن نفهم من كلمة “لغة”؟ وإذا ما كنا نرى في لغة الكلام الظاهرة اللغوية الوحيدة. فعندها ستكون كل مناقشة حول طبيعة لغة السينما بدون أي معنى.

أما إذا سلمّنا بوجود لغات أخرى إلى جانب لغة الكلام، وانطلقنا من مفهوم لغة عام جداً، فعندها يمكننا أيضاً أن نفكر بـلغة للسينما. وإذا ما توصلنا، بناء على ذلك، إلى الاستنتاج القائل بأن استعمال تعبير لغة سينمائية تم تفسيره، فنكون، بذلك، توصلنا بالتأكيد إلى نتيجة ناقصة.


تتوقف الدراسات المقارنة الحديثة عند هذه المسألة طويلاً، وتتوصل إلى نتيجة: إن اللقطة لا تشابه الكلمة والمشهد لا يشابه الجملة، لأن الفيلم أصلاً لا يمتلك، مثل اللغة، نظاماً خاصاً، يجعل منه لغة. فالكلمات هي رموز اصطلاحية ينوب فيها الدال عن المدلول على أساس المواضعة، أما الصور فهي علامات أيقونية، تقوم نفسها على أساس مشابهة ما تدل عليه. وكما تملك الكلمة علاقة غير مباشرة بما تدل عليه، تملك الصورة علاقة أيقونية مباشرة بما تدل عليه وتصوره : أي إن الكلمة، وحدة لغوية، علامة، وظيفتها إحلال شيء بدل شيء آخر، فهي دال ينفصل عن مدلوله: الكلمة تساوي الشيء. أما الصورة، فهي علامة بصرية، تتشابه فيها العلاقة بين الشيء ومظهره، ويتطابق فيها الدال مع المدلول: أي إن العلامة هنا هي مظهر الشيء ذاته: العلامة تشبه مظهر الشيء. وتكمن قوة اللغة في استعمال علامات يتباين فيها الدال والمدلول، بينما قوة الفيلم تكمن في استعمال علامات يتطابق فيها الدال والمدلول.


بإمكاننا الوقوف على غنى هذا التصور عندما يطبقه رولان بارت على العمليات الدلالية التي ننعتها عادة بلفظي التعيين DENOTATION أي المعنى الحرفي للكلمة والتضمين CONNOTATION أي المعنى الثاني الإيحائي للكلمة. إن معنى التعيين هو عادة استعمال اللغة بطريقة أو بأخرى، لتدل بها على ما تقوله، بينما معنى التضمين هو استعمالها بطريقة أو بأخرى، لتدل بها على غير ما تقوله. ويحدث التضمين عندما تغدو نفس العلامة، الناتجة عن علاقة سابقة بين الدال والمدلول، دالاً على مدلول جديد.

وهذا يعني إن التعبير في السينما يمكن أن يتحول بدوره، عبر حضور العلامة الأيقونة، إلى تضمين، إلى دال، يبتكر كل مرة، مدلوله. ولعلّ هذا ما دفع كريستيان ميتز إلى التأكيد على إن الفيلم: “يروي لنا قصصاً مترابطة، ويقول لنا اشياء كثيرة، تقولها ايضا اللغة المنطوقة، لكنه يقولها بطريقة اخرى. إن الذهاب إلى السينما يعني رؤية هذه القصص”.بمعنى آخر: “ليس لان السينما لغة تستطيع أن تروي لنا قصصا جميلة، إنما لأنها روت لنا هذه القصص اصبحت، بذلك، لغة”. على الفيلم أن يقول شيئا وله أن يقوله، لكن دون أن يلتزم بشعور معالجة الصور ككلمات وتنظيمها وفقا لقواعد نحو لغوي مشابه. أن حظ الفيلم في قدرته على التفريج والتعبير عن معنى، ليس وفقا لافكار مسبقة أو مستعارة، انما عبر تنظيم عناصره في الزمان والمكان. كيف؟ يستنتج ميتز: “الكاتب يستعمل اللغة، أما السينمائي فإنه يبتكرها”.


يتطرق جان ميتري في مؤلفه “جماليات وسيكولوجية السينما” إلى قضية “اللغة” في السينما، ويعدها من أهم القضايا السينمائية وأكثرها شيوعاً على الإطلاق. وينطلق ميتري، في معالجة هذه القضية، من منظور مختلف إلى حد ما عن ميتز، وينتهي، بعد عرض أفكاره، إلى أن السينما أيضاً لغة، لكنها تختلف عن اللغة المنطوقة، رغم أنه، يراها، في النهاية،لغة طالما إنها تشارك اللغة اللفظية في خاصية إيصال المعنى. يكتب ميتري: إلى أي مدى يمكن اطلاق مفهوم لغة على الفيلم بصورة عامة؟ إذا ما عدنا إلى مفهوم اللغة بمعناه الكلاسيكي، فمن الواضح أن السينما لا يمكن أن تكون لغة (…) لان مفهوم اللغة الكلاسيكي يصح على اللغة المنطوقة فقط، لأنه مفهومٌ لغويٌ وليس مفهوما منطقياً. ليست الصورة، كما نعرف، علامة في ذاتها، غير إن المعنى الذي تحمله، يتغير وفقا لاسلوب عرضه (…) كما أن من الواضح أيضاً، بان الفيلم هو شيء يختلف تماماً عن نظام العلامات والرموز، وانه على الأقل لا يبدو، وحده، كذلك.

الفيلم أولا هو نظام صور، صور لأشياء، نظام صور هدفه وصف تتابع إحداث معينة، يطورها الى سرد. وهي صور تذعن، وفقا لطريقة السرد، المختارة، لنظام من العلامات والرموز، تصبح أو يمكنها إضافة إلى ذلك، رموزاً. وإنها أخيراً ليست علامات كالكلمات، إنما هي، في الدرجة الأولى، مواضيع من واقع ملموس، مواضيع، تحمل أو يمكن أن تحمل معانٍ معينة.

من هنا فان الفيلم لغة ويصير بهذا المقياس لغة حينما يعرض أولا بمعونة هذا العرض.
باختصار صنف جان ميتري السينما في تصنيف يختلف عن اللغة الكلامية، لأنه يجد الصورة تختلف عن الكلمة التي تقارن ، ولان الصورة تتطابق مع أشياء الواقع. غير إن محاولة جعل المونتاج يعمل عمل اللغة، هو مجرد اساءة لاستعمال قدرات وسيط السينما الفني. ومع إن الناقدة دينا دريفوس تقول الشيء نفسه الذي يقوله ميتري، إلا أنها ترفض اعتبار السينما لغة. ويوضح ميتز، بأن الملاحظة التي يوردها ميتري ومفادها، انه من اليسير مناقشة أن كل لغة ينبغي أن تشبه اللغة المنطوقة، تجعلنا نستنتج أن لغة الفيلم، لاختلافها عن اللغة المنطوقة، هي بالتالي ليست لغة.


على أساس من هذه الإشكالية، تاريخياً، جرت مساع عديدة لمحاولة البرهنة على وجود “تمفصل مزدوج” في التعبير السينمائي، يتناظر مع وجوده في اللغة، فمثلاً وجد بازوليني علامات الفيلم هي علامات الواقع نفسه، والفيلم هو فلتر/ مرشح بين صانع الفيلم والواقع، لأن الفيلم يحكي لغة الواقع المكتوبة ويعرض الواقع بالواقع نفسه ولغة الواقع الموجودة في العالم هي لغة الواقع الطبيعي النقية والوحيدة، التي تجعل الواقع يحاكي حاله. وتجعل من سيميائية الواقع مادة الفيلم الواقعية، سيميائية تقول لنا شيئا، وتسرد معاني، بالعلاقة مع معاني الأشياء والأحداث التي يصورها الفيلم.
ووصل بازوليني إلى كون الوحدات الصغرى في السينما، التي يعاد إنتاجها كما هي على الفيلم، تعادل الفونيمات، وأن لغة السينما هي صياغة خاصة للتمفصل المزدوج. لان وحدات لغة السينما الصغرى تبرهن على أشياء الواقع المتنوعة وتحتل الصدارة في الصورة، وتعادل، عبر التشابه، الفونيمات، التي تقابل مورفيمات اللغة الطبيعية وتوازيها. أما ايكو فيجد حجة بازوليني تدل على فهم ناقص في معرفة الكود الثقافي،ومعرفة إيديولوجية وطبيعة، ليس فقط الفيلم إنما طبيعة السلوك الإنساني وعملية التفاهم بصورة عامة.

فأشياء الواقع، التي تحتل الصورة، بالنسبة له، هي مجرد مظاهر اصطلاحية مقررة، تتم بوساطة التكويد/ التشفير إلا يقوني، وتدل على صفات المعاني، وهي بالتالي، وحدات صغرى لا تعادل الفونيمات اللغوية ولا تستند في إنتاج المعاني المختلفة على تمفصل صورة مزدوج.

من فيلم “الأرض” لبودوفكين

غير أن محاولة بازوليني بينت، في نهاية المطاف، نوعية مغايرة للتمفصل المزدوج، التي سعت للبرهنة على وجوده. ففي كتابه الأول”الصورة ـ الحركة” أشار الفيلسوف جيل دولوز إلى مسعى بازوليني في إيجاد مقاربات في السينما مع اللغة، ووجدها مقاربات غير موفقة، لأنه يرى إن كان للقطة من نظير فسيكون في المنظومة المعلوماتية، وليس في المنظومة اللسانية. ويعود دولوز في فترة لاحقة إلى مناقشة مسألة العلاقة بين السينما واللغة، لينبه إلى أنها ساعدت على صياغة شروط وإمكانات سيميائية الفيلم.

ويطري حذر كريستيان ميتز في تناوله لهذه العلاقة، إذ انه لم يسأل: “ما الذي يجعل من السينما لغة؟”، إنما طرح السؤال بشكل آخر: “ما الذي يجعلنا نعتبر السينما لغة؟”. ويستنتج ميتز أن: “السينما فن حين تصبح لغة”. وقد وضع ميتز أمامنا جوابين، الأول الذي تبيّنه “الواقعة” التاريخية، وهو أن السينما تطورت، بالدرجة الأولى، إلى سينما سردية تروي حكايات. والثاني يتعلق بتتابع الصور واقترابه، كمعنى، من العبارة الملفوظة، مما قاد إلى اعتبار اللقطة المنفردة كعبارة سردية صغرى. ولربما دفعته مقارنة كهذه إلى التوضيح: “بأننا نفهم الفيلم ليس بسبب من فهمنا المُسبق لنظامه، إنما على العكس من ذلك، فنحن، لأننا نفهم الفيلم، نقترب من فهم نظامه. فالسينما لم ترو لنا قصصا جميلة لأنها لغة، بل لأنها روت لنا مثل هذه القصص والحكايات أصبحت كما اللغة”. ويستنتج ميتز: “السينما فن حين تصبح لغة”.


وإذ يجد لوتمان اللغة الطبيعية كموديل نموذج للعالم أولي، فانه يجد أشكال التعبير في الفن وسائط موديل من نوع آخر ثانوي. وهو يعتبر اللغة “نظام تنمذج أولي” في التعبير، كما يعتبر وسائل التعبير الأخرى الأدبية والفنية “نظام تنمذج ثانوي” في التعبير، وقلما يستطيع نظام التنمذج الثانوي، وهو يبتكر لغته في التعبير، الاستغناء عن النظام الأولي.


إن التحليل الذي يقدمه لوتمان ويصل انطلاقاً منه إلى نظام موديل الفن كلغة “تعبير” ثانية بالعلاقة مع اللغة الأولى، يساعد إلى حد كبير على فهم الإشكالية التي واجهت العديدين. فهو إذ يسمي هذه اللغة الثانية “نظام تنمذج ثانوي” يضع بيد المختصين مصطلحاً يعينهم على إزالة الالتباس، الذي يحيط بهذه الإشكالية المطروحة، الناتجة من عدم الوضوح العام.


يتم عندنا الحديث في أدبيات عديدة عن اللغة السينمائية وعن سيطرة مفرداتها وقواعدها، نحوها وصرفها، على كل الأشكال في كل الأفلام، ويربط مثل هذا التصور كل شيء هنا بخاصية فيزيائية، تتم عن طريق الاستعانة بالكودات والتقنيات السينمائية المتداولة التي تشكل معجماً صغيراً في عملية الابتكار السينمائي، الذي يرتبط بمجموع دلالات الأفلام. كما أن هذا التصور يرد اعتماد مصطلح اللغة السينمائية إلى استخدام هذه أو تلك من الكودات الفيلمية والتقنيات السينمائية، التي تم اكتشافها في عملية إنجاز الأفلام، وهو ما يطلق عليه كريستيان ميتز صفة “سينمائي”، أي كل ما يتألف من تركيبات تظهر في الأفلام وتحمل دلالات وتنتج معاني. إن هذه الفرضية تؤكد، بالتالي، على بعض المكونات السطحية، لان أية لغة تميز نفسها عن لغة أخرى بواسطة مادة تعبيرها، واعتبار السينما لغة يضعنا، أيضا، بمواجهة وجود مادة تعبير مسبقة، هي في واقع الحال غير موجودة.
ليس المهم، لمن يبحث، التراجع عن مصطلح “لغة السينما”، حتى وان كان يستعمله مجازاً، المهم أن تتاح لنا فرصة الوقوف عند: “إشكالية” موجودة حقا ويجب علينا فهمها بعمق، خصوصا وان “الالتباس” يأتي من استعمال مصطلح “لغة” بينما الوسيط السينمائي، ليس، في واقع الحال، لغة جاهزة، لها قاموسها الخاص وقواعدها العامة ونحوها…


يبقى أن من يعتقد إن تقسيم المشهد إلى لقطات بأحجام مختلفة واستعمال الشاريو أو الزوم والبانوراما أوالتصوير بكاميرا واحدة واعتماد مواقع تصوير عديدة واستخدام طرق مونتاج مختلفة الخ… يخوله باستعمال هذا المفهوم، فليس علينا سوى أن نبين إن ذلك يشكل للسينمائي “كودات” حيادية، ليس لها، في الأصل، دوال جاهزة، ترتبط بمدلولات قاموسية، فالفيلمي المنجز يسبق الفيلم، وما هو سينمائي ينتج من الفيلم ويأتي مصدره من علامات مبتكرة تتآلف في الفيلم كخطاب. وبناء على ذلك يستطيع البحث السيميائي في بنية الفيلم “العميقة ” أن يستدل، فقط، على خاصية تعبيره المُميزة، التي تشكل خطابه السينمائي، والتي هي ” اللغة ” الثانية ـ نظام التنمذج الثانوي ـ التي لا تسبق التعبير إنما تنشأ عنه.


لنحاول أن نصل الى خلاصة، نستنبطها، من سؤال جان ماري بيترس الهام، الذي لم يتمكن، حينئذ، أن يجد جوابه الحاسم، لكنه استطاع أن يفتح الحوار أمام الدارسين بهدف الوصول إلى معرفة جديدة. ولعل العلاقة إذا ما توضحت عندنا بين لغة السينما وفن السينما ذات وضوحها في لغة الكلام وفي فن الشعر، فإن هذا الوضوح يقدم فائدة جليلة في الكشف العميق عن طبيعة عملية التعبير البصري وخصوصيتها ويظل يفتح آفاقاً جديدة أمام علم جمال السينما.

مصادر مختارة
1- عدنان مدانات. أزمة السينما العربية – الهيئة العامة لقصور الثقافة/ 2007/ القاهرة.

2- د. منى الصبان. أنا والمونتاج. تجارب خاصّة في السينما المصرية. الفن السابع 116 منشورات وزارة الثقافة-المؤسسة العامة للسينما/دمشق/ 2006.
3- قيس الزبيدي. بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني: نحو درامية جديدة. قدمس للنشر والتوزيع/ دمشق/ 2000 .

4- جيل دولوز. الصورة ـ الحركة. وزارة الثقافة ـ المؤسسة العامة للسينما/ دمشق/ 1997.
5- كريستيان ميتز. دراسة عن جان ميتري. مجلة الفكر والفن المعاصر. ديسمبر/ 1997.
6- ج. مونين. في اللسانية- مفهومات في بنية النص ـ دار معد للنشر/ دمشق/ 1996
7- جيل دولوز. الصورة ـ الزمن. سوركامب/ فرانكفورت/ 1991.
8- بيتر فايس. قيمة فن وخواص جماهيرية الوسيط.، مفاهيم في تاريخ ونظرية الفيلم الروائي. دار نشر هينشل/ برلين/ 1990.
9- يوري لوتمان. مدخل إلى السيميائية. النادي السينمائي. ترجمة. نبيل الدبس. مراجعة. قيس الزبيدي. دمشق/ 1989.
10- كارل-ديتمار موللير-ناس. لغة الفيلم. نظرية تاريخ نقدي. الطبعة الثانية/1988. دار نشر ماكس- منستر.ألمانيا
11- ترنس هوكس. مدخل إلى السيمياء. مجلة بيت الحكمة. المغرب/ العدد الخامس أبريل/ 1987.
12- ج. دادلي أندرو. ترجمة: د. جرجس فؤاد الرشيدي. مراجعة: هاشم النحاس. الألف كتاب (الثاني-51) الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1987
13- أندريه مارتينيه. مبادئ اللسانيات العامة. ترجمة الدكتور احمد الحمو. وزارة التعليم العالي/دمشق/1985.
14- كريستيان ميتز. سيميائية الفيلم. Wilhelm Fink Verlag، ميونيخ/ 1972
15- بودفكين. الفن السينمائي. ترجمة. صلاح التهامي. دار الفكر/ القاهرة 1957.

Visited 95 times, 1 visit(s) today