“حوبة” الإمارتي في مهرجان لندن: تعدد الزوجات في فيلم رعب

شهدت الدورة الـ68 لمهرجان لندن السينمائي الدولي (8- 20 أكتوبر) عرض الفيلم الإماراتي “حوبة” The Vile وهي كلمة تعني في اللهجة العامية الخليجية، “لعنة الحق الضائع أو العقاب الأخلاقي نتيجة الظلم والذنب، وترتبط بمفهوم “كما تدين تدان” حيث يعود الظلم على صاحبه”. والفيلم هو العمل الروائي الطويل الثاني لمخرجه ماجد الأنصاري منذ أن قدم لنا فيلمه الروائي الأول “زنزانة” قبل عشر سنوات، ثم انشغل بعده في إخراج وإنتاج بعض الأفلام والمسلسلات التليفزيونية.

بعد أن شاهدت فيلمه الأول في مهرجان لندن كتبت: “إن المخرج الإماراتي الشاب ماجد الأنصاري، يثبت في فيلمه الروائي الطويل الأول “زنزانة” (2015) أنه يمتلك موهبة سينمائية بصرية رفيعة، وأنه سيكون له شأن كبير في السينما العربية شريطة أن يعتمد على سيناريوهات طموحة مركبة متعددة المستويات”.

واختتمت مقالي بالقول: “لا شك أن فيلم “زنزانة” إعلان مبكر عن الموهبة الكبيرة التي يتمتع بها مخرجه الذي يبدو هاضما لتيارات الفيلم غير النمطي، الذي يتميز بأسلوبيته الخاصة، وسوف يتعين علينا أن ننتظر بشوق، لكي نشاهد فيلمه التالي”. (جريدة العرب، لندن، 13 نوفمبر 2015).

رابط المقال

وكما بدا فيلم “زنزانة من النظرة الأولى، عملا يمكن تصنيفه في إطار أفلام الإثارة والجريمة (thriller) ولكنه تجاوز هذا النوع، إلى مزيج من الفيلم التشويقي وفيلم الرعب وفيلم الدراما النفسية والتعليق السياسي المستتر من تحت جلد الصورة، يمكن القول إن فيلمه الجديد “حوبة” شأن “زنزانة”- ليس من الممكن حصره في نطاق أفلام الرعب، فهو أساسا، فيلم قضية اجتماعية، ولكن في سياق مثير يتضمن مشاهد قد تنتمي على نحو ما، إلى سينما الرعب والإثارة والتشويق، وإن كانت تنتمي أكثر إلى الدراما النفسية المعقدة التي ترتبط بمفاهيم معينة من ثقافة المنطقة التي جاء منها الفيلم، أي العالم العربي والثقافة الإسلامية. فما هو الموضوع؟

الموضوع هو عن العلاقة بين الرجل والمرأة: الرجل هو شاب يدعى “خالد”، يفاجيء زوجته “أماني” ذات يوم بأنه اتخذ زوجة ثانية لنفسه، هي امرأة شابة حسناء تدعى “زهرة”، وأتى بها أيضا إلى منزل الزوجية لكي تعيش مع زوجته أماني وابنته منها “نور”. من الناحية الشرعية يحق للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة، بل إن أماني تسخر منه عندما يخبرها بأنه سيتغيب عن المنزل لمدة أسبوع، ويترك “زهرة” معها، إنه ربما يقابل في طريق عودته امرأة أخرى يتخذها زوجة ثالثة له.

أما الحقيقة فهي أن خالد تزوج من زهرة، لكي تنجب له ولدا وهو ما لم تمنحه له أماني التي توقفت عن الإنجاب بعد أن أنجبت ابنتها “نور” التي أصبحت الآن مراهقة في الثالثة عشرة من عمرها، والمفاجأة أن الزوجة الجديدة حامل بالفعل في ولد. فهل تستكثر أماني على خالد الحصول على وريث ذكر له؟ وهل يمكن أن تسبب نور أي أذى لشقيقها أو لأمه التي يطلب منها خالد أن تعتبرها أما ثانية لها؟

بعد أن يغيب خالد في رحلة عمل (لا نعرف طبيعة هذا العمل) وهي حيلة درامية تتيح أن تنفرد المرآتان ببعضهما البعض مع نور الحائرة فيما بينهما، تعاني أماني من الخيالات الغريبة، تطاردها أشباح مرعبة، كما تقع حوادث كثيرة غريبة داخل المنزل، وتوحي هي لابنتها بأن كل هذه الحوادث الشيطانية هي من فعل “زهرة” الشريرة التي ستكتشف هي بمساعدة زوج شقيقتها، وهو موظف في جهة رسمية، أنها كانت متزوجة قبل خالد، وأنها تزوجت زوجها الأول هذا على زوجته، فتقوم آماني بزيارتها في مستشفى للأمراض العقلية.. ونعرف أنها أصبحت تعاني من الاضطرابات العقلية التي تسببت فيها الزوجة الجديدة “زهرة” مما دفعها- كما تعترف لأماني- وهي تهلوس وتصدر عنها ضحكات شيطانية، بأنها قتلت أبناءها جميعا!

المشكلة الرئيسية إذن، هي مشكلة اجتماعية لها وجود في الواقع. وتتخذ المعالجة سمات تتسق مع ميل المخرج إلى هذه النوعية من الأفلام المثيرة، التي تمزج بين الواقع والخيال، وتنتج تداعيات كثيرة مخيفة وغريبة، بعد أن تكبر المشكلة في ذهن “أماني” التي تشعر بالظلم وبأن زوجها تسبب في دمار لأسرتها الصغيرة، وتملؤها رغبة عنيفة في التمرد، والانتقام، وتتخيل أنها تشوه وتقتل، بل وتحاول في نوبة جنون قتل ابنتها أيضا، ثم ترى نفسها وقد حملت وأنجبت (في فعل تعويضي)، ولكن “زهرة” تبقى دائما الرمز المجسد للشر.. فهي رغم نعومتها وتعاملها اللطيف مع نور، تحاول أن تدفع أماني بتصرفاتها المحكمة المخططة، نحو الجنون. ولكن سيحدث ما لم يكن في الحسبان، ويأتي الانتقام القدري، و”العقاب الأخلاقي” أو “الحوبة”.

استعان الأنصاري بطاقم سينمائي محترف على أعلى مستوى من الإتقان: مدير التصوير الدنماركي بنجامين كيرك نيلسن، الذي يقدم صورة بديعة، مستخدما الإضاءة المتدرجة التي تنتقل من النور إلى الظلمة، مع إحاطة الكادر بقدر من العتمة، بفعل الإضاءة الخافتة، وبتكثيف الجو الذي ينقلنا مما يحدث على صعيد الوعي، إلى مستوى اللاوعي، أي مع تدفق الصور والأحداث المرعبة.

مصممة الديكور ندى أكبر خان التي جعلت ديكورات المنزل من الداخل، تعبر عن فكرة المتاهة، مع كثرة الغرف والسلام، والردهات الضيقة المظلمة التي تدلف إلى الغرف، تلك الغرف السرية التي تخفي ما لا نراه، وخصوصا أن التصوير كثيرا ما يتم من وراء الأبواب المغلقة، التي تحاول أماني كسرها واقتحامها دون جدوى، فتزداد حالتها النفسية تدهورا. ويستخدم المخرج كثيرا، الجروح والنزيف والدماء والإصابات، مع سماع أصوات صرخات تنطلق من أماكن مجهولة داخل المنزل، كأنها صرخات طفل وليد. ويكثر من استخدام لقطات الكلوز أب القريبة للوجوه، لتجسيد الانفعالات وتضخيمها على غرار الأسلوب المستخدم في أفلام الرعب الأمريكية.

ينتقل الفيلم بين الداخل والخارج، من المنزل إلى مدرسة الابنة نور حيث تسخر منها زميلاتها بعد أن تنتشر قصة وجود زوجة ثانية، أو الأم الثانية، فزميلات نور يسخرن منها، وفي محاولة لإغاظتها، يوحون لها بأنها المسؤولة عما حدث، لأنها جاءت فتاة، ولم تولد ذكرا (وهو مرة أخرى تعليق على مشكلة اجتماعية محفورة في الضمير الشعبي في تلك المنطقة من العالم).

لا نرى ملامح لمدينة محددة، فالأنصاري يغامر مجدا كما غامر في فيلمه السابق، بتجريد المكان، وإبعاده عن أي مدينة معروفة في الإمارات مثلا، بل يدور التصوير في منزل من بين مجموعة منازل داخل “كمباوند” معزول قرب البحر، والبيئة المحيطة بيئة صحراوية خالية، والشارع الذي تمر فيه السيارة يقطع الصحراء، حيث لا تتبدى أي مظاهر للعمران على جانبي الطريق، ولا يوجد دكان يعمل باستثناء صيدلية تلجأ إليها نور بإلحاح من أنها، لشراء بعض الأربطة لتضميد الجرح الذي أصاب يد أماني.

هذا التجريد، لا ينسحب على الشخصيات التي تنطق باللهجة الخليجية المعروفة، وترتدي الملابس التي تنتمي للبيئة الخليجية والتي صممها ببراعة ودقة، كمال فرج الله، مع موسيقى جيري لاين، التي تشيع أجواء التشكك والرعب والجنون، بدقاتها العنيفة، مع استخدام عدد من الأغاني الشعبية الشائعة سواء من الغناء الخليجي أو المصري التي تستخدمها “زهرة” وترقص على نغماتها مع نور وهي تحاول استمالتها تجاهها، وإغاظة أمها التي تستنكر مثل هذا السلوك داخل المنزل.

من ضمن مشاهد الرعب الخيالية التي تنبع على هيئة تداعيات من داخل ذهن أماني المشوش، تسجيل مصور لحفل زواج أماني من خالد قبل سنوات بعيدة، ينبعث فجأة من الشاشة العريضة الضخمة لجهاز التليفزيون، ثم تسجيل لحفل زفاف خالد على زهرة، وتعتقد أماني أن زهرة هي التي قامت بتشغيله وهو ما يثير جنونها وتحاول وقف تدفق الصور دون أن تتمكن، بل تتصاعد السخرية أكثر فأكثر، مع استمرار الأغاني الراقصة على شريط الصوت، ولا ينتهي المشهد سوى أن تقوم أماني بإسقاط جهاز التليفزيون. هنا لابد أن نشير إلى براعة تصميم شريط الصوت بشكل عام، الذي يلعب دورا رئيسيا في إضفاء الجو الخاص الغريب على الفيلم، كما يجسد الاضطراب حالة العقلي والنفسي والبارانويا التي تسيطر على أماني، بحيث نظل حتى نهاية الفيلم، بعد أن تهدأ الأمور أو تبدو كذلك، وينال الظالم جزاء ظلمه (لا أود حرق النهاية هنا)، دون أن نعرف ما إذا كان ما شاهدناه واقعا أم خيالا، فربما تكون القصة بأسرها، كابوسا مضنيا!

من المهم هنا الإشادة بالأداء التمثيلي البديع من جانب طاقم الممثلين جميعا، الذي يصل إلى أعلى مستويات التقمص والتماهي مع الشخصيات في إقناع وبساطة: الإماراتية بدور محمد (أماني) التي عبرت عن حالة الفزع التي تنتج خيالات مرهقة تسيطر على الشخصية وتطاد تقودها إلى ارتكاب جريمة، والممثلة السعودية سارة طيبة (زهرة) التي تستخدم الإغراء والدلال والكلمات الناعمة في مداعبة نور واستمالتها، وتبدو رغم توددها الظاهري إلى أماني، باردة قاسية، والممثل الإماراتي جاسم الخراز في دور (خالد) الذي نجح في تجسيد نموذج الرجل الذي لا يهمه سوى نفسه، ويمضي متماديا فيما اعتزمه من دون مراعاة لمشاعر زوجته الأولى وابنته ويتعين عليه في النهاية أن يبكي ندما ويدفع الثمن باهظا، والممثلة الإماراتية الشابة إيمان طارق (نور) التي تفوقت في التعبير عن مشكلة الفتاة المراهقة الحائرة بين حبها لأنها، وواجبها إزاء المرأة التي تحمل أخاها المنتظر،. ولا شك أنها موهبة جديدة يمكن أن تصعد بسرعة، وينفتح أمامها مستقبل واعد، شريطة أن تتدرب أكثر وتكتسب خبرة أكبر في أدوار أكثر صعوبة. 

فيديو