حوار عن: شكسبير في السينما
السينما العالمية، منذ بداياتها وحتى يومنا هذا، تلجأ – بين الحين والآخر – إلى نصوص شكسبير، وتقدمها بمعالجات متعددة ومتنوعة. ومن أجل إدراك واستيعاب الرؤى الجمالية ومناهج العمل لدى عدد من المخرجين السينمائيين الذين اقتبسوا أعمال شكسبير للسينما، قامت مجلة Cineaste السينمائية الأمريكية الفصلية، في عددها الصادر في شتاء 1998، بتوجيه عدة أسئلة موحّدة إلى كل من: بيتر بروك (الذي أخرج فيلم “الملك لير” في 1971)، بيتر هول (مخرج “حلم ليلة منتصف الصيف” في 1968)، ريتشارد لونكرين (مخرج “ريتشارد الثالث” في 1995)، باز لوهرمان (مخرج “روميو وجولييت” في 1996)، أوليفر باركر (مخرج “عطيل” في 1995)، رومان بولانسكي (مخرج “ماكبث” في 1971)، فرانكو زيفيريللي (مخرج “ترويض النمرة” في 1967، “روميو وجولييت” في 1968، و “هاملت” في 1995)، تريفور نان (مخرج “الليلة الثانية عشرة” في 1996)..
فيما يلي نص الحوار:
سؤال: من الضروري القيام باختصار النص وتنقيحه، واجراء تعديلات أخرى، عند إعداد مسرحيات شكسبير سينمائياً.. ما هي فلسفتك أو استراتيجيتك الخاصة في عملية التنقيح، في تحديث اللغة القديمة والمبهمة، أو في اعادة كتابة المشاهد وترتيبها؟
بيتر بروك:
بالفطرة السليمة.
بيتر هول:
لهذا السبب أفضّل شكسبير بلغة أجنبية. بالنسبة لي، أفضل الأفلام المعدّة عن شكسبير – مثل أفلام كوروساوا: عرش الدم، ران – هي تلك التي تتناول ثيماته وشخصياته، وتتجاهل النص. أعتقد أن نص شكسبير هو مسرحي جوهرياً، ويعتمد على الإيهام التخيلي بين الجمهور والممثّل، ذلك الإيهام الحي لحظة الإنجاز. شخصياً لا أميل إلى شكسبير على الشاشة، مثلما لا أميل إلى الأوبرا على الشاشة. إذا أردت أن تنفّذ عملاً لشكسبير يتعيّن عليك بالطبع أن تختصره وتنقحه وتسلخه، وهذا ما لا تستطيع أن تفعله مع موزارت أو فاجنر. حتى أفضل الأفلام المأخوذة عن شكسبير هي بعيدة جداً عن شكسبير كبعد البطاقة السياحية عن اللوحة الأصلية.
ريتشارد لونكرين:
إذا أردت أن تحقق فيلماً عن نص شكسبيري لجمهور معاصر، فينبغي أن تتيقّن بأنهم سوف لن يشعروا بالضجر. شكسبير كتب “ريتشارد الثالث” قبل 400 سنة تقريباً، حين كان الناس معتادين على الكلمات ومولعين بها، ولم يكن لديهم الكثير من المنبهات البصرية. لم يكن هناك تصميم للمناظر، والتلفزيون لم يُخترع، والسينما لم توجد، لذا فإن الكلمات كانت حاسمة ومهيمنة.
في سردنا لقصة ريتشارد الثالث توفّر لدينا كل شيء.. من المؤثرات الخاصة إلى الموسيقى المؤلفة والتخيّلات المثيرة. نحن نستطيع أن نتصل بالصور أكثر مما عبّر عنه شكسبير بالكلمات. أنا والممثّل إيان ماكيلين عملنا معاً على تنفيذ الفيلم بشكل حميمي. إيان كان مسؤولاً عن تنقيح النص، وأنا كنت مسؤولاً عن النواحي التخيلية وتوصيل الأفكار التي لم تكن موجودة في المسرحية. إن بإمكانك أن تغيّر النص، وبإمكانك أيضاً أن تحرّك النص هنا وهناك، فمن التقاليد الشكسبيرية الراسخة أن تأخذ مشهداً أو سطراً من الحوار وتنقله إلى موضع آخر.. وهذا ما كان شكسبير يفعله طوال الوقت.
باز لوهرمان:
فلسفتنا في تحويل “روميو وجولييت” إلى الشاشة كانت أن نكشف السرد القصصي عند شكسبير في بعده الغنائي، الرومانسي، العذب، الشهواني، الموسيقي، العنيف، الخشن، الهائج، الفظ.. عبر لغته المبتكرة على نحو ثري. بالنتيجة، كانت استراتيجيتنا الواضحة أن نتحاشى تغيير أو إضافة كلمات أخرى. كنا مقتنعين بضرورة المحافظة على طبيعة ونكهة الكلمات الأصلية. لقد مارسنا حريتنا في إعادة البناء وفي التنقيح. شعرنا أن من المهم أن نخدم أو نعزّز هدف شكسبير الأساسي من السرد القصصي المركّز.. فقد كان يتوجب عليه أن يلفت انتباه جمهور ضاج جداً، متفاوت، فظ، مع ذلك هو صادق وصريح.. كما هو الحال مع جمهور السينما اليوم. ولتيسير تحقيق ذلك الهدف، استخدم شكسبير كل الوسائل والحيل التي كانت في متناول يده، فقد كتب الكوميديا الخفيفة مع التراجيديا الصارخة، وظّف الأغاني الشعبية، وغير ذلك من الوسائل. ونحن، بالمثل، طوّرنا لغةً سينمائية خاصة لفيلم “روميو وجولييت”، والتي حوّلت كل تلك الوسائل والحيل إلى مرادفات سينمائية من أجل بلوغ الهدف نفسه مع جمهورنا الضاج، المتفاوت، الفظ، والذي هو مع ذلك، صادق وصريح.
تريفور نان:
في إخراجي لفيلم “الليلة الثانية عشرة”، فعلت عدة أشياء أنا واثق بأنها سوف تجرح مشاعر أولئك المعجبين بشكسبير إلى حد التعصب، فقد أضفت مقدمة تمهيدية (برولوج) لأن الجمهور بحاجة إلى إيضاحات، كذلك قمت بعدة تغييرات لأنني كنت أريد أن أوّضح السرد من جهة، وأن أؤكد الطباق التهكمي من جهة أخرى. لقد حاولت أن ألتزم بالنص لكنني لم أوفق إلا في الإبقاء على65% من نص شكسبير، وهذه نسبة تُحسب لصالحي قياساً إلى الأفلام الراهنة التي تحافظ على 40%أو حتي 30%من النص الأصلي. هنا ثمة تناقض يدهشني، فأنت تحقق فيلماً عن نص عظيم لشكسبير لكنك لا ترغب في توظيف لغته.
أوليفر باركر:
ليس لدي استراتيجية معينة بشأن الحذف والتنقيح.. هذا شيء يتغيّر ويتفاوت وفقاً للنص ولرؤيتي له. في حالة “عطيل”، كان غرضي أن أحقّق فيلماً سريع الإيقاع، مفعماً بالحيوية، ومنفتحاً على الجمهور المعاصر. ولأن النص الأصلي يستغرق عرضه أربع ساعات تقريباً، فإن الاختصار والتعديلات هي إذن محتومة ويتعذّر تجنبها. إن تقديم المسرحيات كما هي، من دون المساس بها أو إخضاعها لشروط الوسط الجديد، سوف يسيء حتماً إلى شكسبير. أنا على يقين بأنه لو ظل حياً اليوم لسعى إلى تنقيح نصوصه بحيث تتلاءم مع الوسط الجديد (السينما)، ومن المرجح أن يرغب في إخراجها سينمائياً. مسرحيات شكسبير مفتوحة على تأويلات لا متناهية. ومع “عطيل” كنت راغباً في أن أظل أميناً لروح، وليس لنص، المسرحية.
رومان بولانسكي:
أنا بلا شك لست مع إعادة كتابة المشاهد ما لم تكن هناك حقاً الإمكانية لجعلها أوضح عن طريق تغيير دقيق ما. إذا كان التغيير يعزّز الوضوح ولا يفسد المقطع الشعري، فيمكنك أن تقوم بذلك. في بعض الحالات يكون الحذف والاختصار ضرورياً بالتأكيد، نظراً لطول المسرحيات. ويمكنك أيضاً إعادة ترتيب أو تنظيم النص أحياناً، وتصويره في تسلسل مختلف، من دون أن يسيء ذلك إلى المسرحية، بل قد يفيدها.
المسرحيات مكتوبة للخشبة، وكان يتعيّن عليها أن تأخذ في الاعتبار صرامة ومحدودية ذلك الشكل. الخشبة لا تتيح لك أن تروي قصتك بالطريقة التي قد ترغب في روايتها، في حين أن الفيلم يتيح لك أن ترويها بأية طريقة أو وسيلة. إذا كان هناك مثلاً نوع من السرد الارتجاعي، استعادة أحداث ماضية، فإنك تستطيع أن تستخدم الفلاش باك الذي يستحيل استخدامه على الخشبة.
مع نص “ماكبث” تحركنا بحريّة، ولم يكن ذلك مجرد ضرب من اللعب الصبياني الطائش، بل كان مبنياً على أساس البحث والاستقصاء. لقد حاولنا أن نكيّف النص بحيث يكون أوضح، ويسهل للجمهور فهمه، وفي الوقت ذاته لا يؤذي جمال النص الشعري.
فرانكو زيفيريللي:
كل ما يتخلّق في وسط إبداعي آخر، كالرواية أو المسرحية، عندما ينزح إلى وسط هائل، كالسينما، عليه أن يقبل ويسلّم بالقوانين الخاصة بهذا الوسط الجديد.. مثل مدّة الفيلم، لغة الصور، وغيرها. بالتالي فإن الاعداد أمر يتعذّر اجتنابه، وضرورة لا أحد يستطيع الإفلات منها. الحوارات المبهمة، التي لا يفهمها الجمهور، ينبغي حذفها أو إيجاد حلول أخرى لها. يجب أن تتعامل أيضاً مع فيض من الصور الإيضاحية اللفظية، التي هي ليست ضرورية في السينما، كذلك الحبكات الجانبية، التي هي مقبولة على خشبة المسرح، أو في القراءة، لكن في الأفلام، الحبكات الجانبية تتطفل وتتداخل طوال الوقت، ويصعب التعامل معها.
سؤال: هل يتعيّن على الممثلين، في فيلم مأخوذ عن نص شكسبيري، أن يكونوا ممثلي مسرح مدربين كلاسيكياً، مع اعطاء الأفضلية إلى من لديه تجربة وخبرة سابقة في مسرحيات شكسبير، أم أنك تؤمن بأن أي ممثل جيد، بتوجيه مناسب من المخرج، قادر أن يؤدي أدواراً شكسبيرية؟
بيتر بروك:
نعم و/ أو لا.. الممثل الجيد حقاً هو كل ما يحتاجه العمل.
بيتر هول:
نعم، لكن ينبغي على الممثلين أن يتعلموا التقنية، التي هي خاصة ومحددة، كما هو تعلم المبارزة بالسيف أو الرقص أو الغناء. يتعيّن على الممثل أن يتنفس في موضع معيّن، وأن يعبّر بالكلمات في موضع آخر. شكسبير يخبرك متى تسرع ومتى تبطئ ومتى تصمت للحظة، ومتى يحين دورك في الدخول أو الكلام، وأي الكلمات تؤكد عليها. إنه لا يخبرك السبب، فذلك هو اختيار الممثل.
ريتشارد لونكرين:
نعم، أعتقد أن أي ممثل يستطيع أن يؤدي في عمل شكسبيري. التدريب الأكاديمي من المحتمل أن يكون عائقاً أكثر من أن يكون مصدر عون.
باز لوهرمان:
من الأمانة القول بأنه لو تعيّن على ممثل، ينتمي إلى العصر الإليزابيثي، أن يؤدي أمامنا الآن فإن صوته وأسلوب تمثيله معاً، على الأرجح، سوف يصدمان مفهومنا بشأن الأداء الكلاسيكي.
تريفور نان:
كنت محظوظاً جداً لأنه كان لدي عشرة أيام للبروفات مع الممثلين قبل الشروع في تصوير فيلم “الليلة الثانية عشرة”. أغلب الممثلين في فيلمنا كان لديهم تجربة طويلة في الأعمال الكلاسيكية، خصوصاً في أعمال شكسبير. الممثل الكوميدي المعروف ميل سميث لم تكن لديه خبرة في هذا المجال، لكنه كان حساساً جداً، راغباً في تحليل النص، ومهتماً بأي تلميحات أقدمها بشأن الإلقاء. كذلك الممثلة هيلينا كارتر التي كانت مؤهلة بشكل جيد. عندما تحشد مجموعة من الممثلين معاً، وتحملهم على القيام بالعمل على نص شكسبير، فمن الطبيعي أن تكون لديهم جميعاً أفكاراً متنوعة ومختلفة. عندئذ يمكنك القيام بتحليل النص بشكل مفصّل.
أوليفر باركر:
بالتأكيد من المهم أن تشعر براحة مع اللغة. بالنسبة لبعض الممثلين، التدريب شيء نفيس ولا يثمّن. مع ذلك، أفضّل العمل مع ممثلين سينمائيين كبار، قادرين على بعث الشخصيات على الشاشة. أحياناً، ما يكون ملائماً للمسرح يمكن أن يشكّل خطورة على الفيلم.
رومان بولانسكي:
أظن أن أي ممثل يستطيع أن يؤدي شخصية شكسبيرية. لكن عند الحديث عن تجربتي الخاصة أقول بأنني عملت مع الممثلين الانجليز، وفي بريطانيا كل الممثلين تقريباً لديهم خبرة مسرحية، وغالبيتهم شاركوا في أعمال شكسبيرية. وأولئك الذين عملت معهم في “ماكبث” كانت لديهم تجربة في مسرح شكسبير. لكن أي ممثل جيد قادر أن يعمل في نص شكسبير.
فرانكو زيفيريللي:
المطلوب والضروري هو إخراج مناسب وموهبة مميزة. لقد عملت في أفلامي مع عدد متفاوت من الممثلين والممثلات. من الممثليْن الجديديْن اللذيْن أديا روميو وجولييت، انتزعت ما كنت أبحث عنه: الشباب والبراءة، واتقاد العاطفة. لقد تم اخضاع الكلمات عملياً، الواحدة بعد الأخرى، من خلال الجهود التي بذلها مدربو الالقاء والممثلون أنفسهم. من جهة أخرى، فقد عملت مع أكثر الممثلين تألقاً وخبرةً، مثل ريتشارد بيرتون. لذا فإن كل حالة تفرض معضلاتها الخاصة، ومزاياها الخاصة.
سؤال: ما هي نظرتك للتقديم أو العرض اللائق لنص شكسبير الشعري في فيلم ما؟ هل ينبغي أن يُنقل على الشاشة على نحو مختلف عن خشبة المسرح؟ هل تحاول أن تحافظ على الخاصية الشعرية والموسيقية للنص؟ أم أنك تعتقد بأن الأكثر أهمية هو أن يحقق الممثلون أداءً طبيعياً يستوعبه ويتآلف معه مشاهدو السينما، وغالبيتهم لا يرتادون المسارح؟
بيتر بروك:
لا هذا ولا ذاك. إذا كان الممثل حساساً وقريباً، على نحو حميمي، من روح الفكرة والشعور، في كل كلمة وحوار، فإن النتيجة حتماً ستكون ذات إيقاع وموسيقى.
بيتر هول:
من المعضلات التي تتصل بتناول أعمال شكسبير على الشاشة، أن شكسبير كتب نصوصه لكي تقدم على خشبة مسرح خاصة وحميمية، حيث يستطيع الممثل أن يصيح ويهمس وفق الانفعال المطلوب. المجال الصوتي هو جزء من تجربة شكسبير. لكنك إذا صرخت في الفيلم، فسوف تبدو أشبه بممثل أخرق تعوزه البراعة. لذا فإن نصف المجال الديناميكي عند شكسبير، صوتياً، يخرج من النافذة حالما يُنقل إلى الشاشة. بالنسبة للخاصية الموسيقيةللنص، أعتقد أنها أحكام أو اجتهادات غير جوهرية، ولا أظن أنك تستطيع أن تتكلم شعرياً أو تتكلم موسيقياً. تقدر كممثل أن تتكلم بإحساس، بحصافة، بمخيلة ملموسة، وإذا لم تقدر فأنت ممثل أخرق وردئ.
إني أستشفّ من وراء أسئلتك شعوراً بأن الأداء السينمائي يحتاج أن يكون حقيقياً وصادقاً، في حين يحتاج الأداء الشكسبيري أن يكون زائفاً، وهذا غير صحيح.
باز لوهرمان:
من السمات الأساسية التي تميّز نص شكسبير، الإيقاع والحساسية الموسيقية. في الحقيقة، الممثل يتعلم الكثير، في ما يفعله وما يقوله، من الإيقاع نفسه. واعتقد أن هذا الإيقاع ينبغي، كلما أمكن ذلك، التأكيد عليه والمحافظة عليه.
تريفور نان:
يبدو لي أن الكاميرا تحتاج من الممثلين إلى أداء غير مسرحي وغير خاضع لأسلوب معيّن. إنها تحتاج إلى الصدق والإقناع في الأداء. الكاميرا متصلة باستراق السمع لما يدور، للحدث الحقيقي. وبناءً على ذلك، فإن ما يُقال أمام الكاميرا يجب أن يوصّل إلى جمهور السينما الإحساس بأن ما يُقال لم يكن مكتوباً، وأن لغة الشاشة مبتدعة في تلك اللحظة، وعلى نحو تلقائي، من قِبل الشخصية في وضع معيّن وفي موقف معيّن. يجب ألا نكون واعين لحضور الكاتب. والتحدي الذي أضعه أمام الممثلين هو ضرورة أن يكون كل مقطع لفظي من النص منظماً، وبالتتابع ذاته، كما هو مكتوب في النص، وأن يُدرس ويُرصد على نحو دقيق وصحيح، لكن من الضروري أن أبقى غير واعٍ لحضور الكاتب. أنا أريد توصيل ذلك الإحساس بأن ما يُقال يُلفظ في حالات حقيقية، وبأنه مبتكر من قِبل الشخصيات. كنت أقول للممثلين، إذا شعرتُ في أي موضع أو موقف بأنكم تسردون كلاماً كتبه مؤلف عظيم فسوف أحذف الكلام وأطلب منكم أن تبدأوا من جديد.
أوليفر باركر:
كل نص لشكسبير هو هبة للممثل. النص يتضمن تبصرات عميقة وتأملات وافرة في الشخصية، وهو قناة مدهشة للعواطف والمشاعر والانفعالات. لغة شكسبير ذات إيقاع قريب جداً من الكلام العادي. وعلى الشاشة تكون الفرصة سانحة لجعل اللغة تبدو أكثر طبيعية، أكثر حميمية. في الوقت ذاته، أجد اللغة محرّرة أسلوبياً. إنها تدعوك، بل تتحداك، لأن تكتشف أسلوباً سينمائياً معادلاً. شخصياً، أفضّل أن أجد التوازن والتساوق، أن أحاول تأسيس العالم الحقيقي للفيلم، حيث الشخصيات تبدو طبيعية على نحو مقنع، من دون أن تكون مكبّلة بالمذهب الطبيعي وأسسه، وحيث تستطيع عندئذ أن تقوم بقفزات خلاقة في صنع الفيلم، عاكساً الروح الخلاقة في النص.
رومان بولانسكي:
بلا شك. أنت لا تستطيع أن تستخدم تقنيات المسرح، سواء أكان العمل ينتسب إلى شكسبير أم إلى مؤلف آخر. أعتقد أن الطريقة المسرحية في إلقاء الحوارات تزعج إذن المتفرج.
منذ سنوات وأنا أعيش في فرنسا، حيث ترسخت تقاليد في المسرح مختلفة تماماً.. تقاليد تتصل براسين أكثر من شكسبير. أحياناً أضطر إلى مشاهدة مسرحية فرنسية تؤدى بأسلوب تقليدي فأجدها لا تطاق وغير قابلة للاحتمال. لكن في بريطانيا، لا يتكوّن لدي مثل هذا الإحساس، بل أستمتع بالأسلوب التقليدي. الممثلون الانجليز لديهم طريقة في إلقاء نص شكسبير بطريقه تبدو طبيعية جداً، ومع ذلك لا تحطم، ولا تنتهك، الخاصية الموسيقية للنص.
فرانكو زيفيريللي:
لدي خبرة طويلة وراسخة في مجال الأوبرا، ويمكنك أن تطرح السؤال ذاته بشأن المغنين، الذين يتعيّن عليهم أن يغنوا بحيث يصل انفعال ومعنى ما يغنونه إلى الجمهور. من المهم احترام الحساسية الموسيقية في النص، بالتالي إذا تكلّم شخص ما بشكل شعري أو صيغة شعرية، فيتعيّن عليك أن تحترم قواعد معينة يفرضها ذلك الشكل. لكن ما يهم في النهاية هو أن تجعل ذلك النص، تلك المقاطع الشعرية، تصبح حقيقية، وتمس قلوب وعقول الجمهور المعاصر. إذا كان النتاج مؤلفاً أو مكتوباً قبل قرون، فإنك بالطبع توظف شذا تلك المرحلة في اللغة، لكن في النهاية، يتعيّن عليك أن تتصل بالجمهور المعاصر. إنهم لا يأتون ليشاهدوا تدريباً أكاديمياً. إن هدف المؤلف هو الوصول إلى قلوبهم وعقولهم، لذا يجب أن نحرز الهدف ذاته.
سؤال: هل التقنيات السينمائية تقترح امكانيات جديدة لسبر وتقديم شكسبير؟ هل تعتقد أن إعداد النسخة السينمائية من مسرحيةٍ لشكسبير يستدعي تأويلاً متطوراً للمسرحية من قِبل مخرج الفيلم، أكثر مما يفعله العرض المسرحي؟
بيتر بروك:
نعم.
بيتر هول:
لا، لا أعتقد. أظن أن ميزة شكسبير على الشاشة هي أنك تستطيع أن تقترب أكثر، تستطيع أن ترى أكثر، الحفريات الداخلية التي يقوم بها الممثل. على خشبة المسرح، كل ما يقوله شكسبير، يحدث. على الشاشة، ما لا يقوله شكسبير، يحدث. السينما ليست وسطاً لفظياً، شفهياً، لذلك هي لا تحتاج إلى نصوص شكسبير بالطريقة التي يحتاجها المسرح.
ريتشارد لونكرين:
أنا أتفق في الرأي مع من يقول أن شكسبير، لو كان حياً اليوم، لكتب أعمالاً للسينما والتلفزيون. لقد كان، على نحو جلي، رجل الساعة، ولم يكن معادياً للنزعة التجارية في الفن. العديد من الشخصيات في “ريتشارد الثالث” تم اقحامها بناءً على رغبة مدير المسرح الذي شهد العرض الأول للمسرحية، بالتالي هو لم يكن ضد ترويج عمله من الناحية التجارية، وهو قد فعلها بشكل جيد. إن رغبته في النجاح التجاري جعلته يستخدم كل تقنية متاحة وفي المتناول: ألعاب نارية، مدفع، مؤثرات، حيل، وكل ما كان تحت تصرفه. وهذا ما يفعله صانع الفيلم المعاصر الذي يوظف كل تقنية متاحة.
مسرحيات شكسبير ستكون متوفرة لدى كل جيل. نحن أعددنا سينمائياً نص “ريتشارد الثالث”، وبإمكان أي شخص أن يعدّ عملاً آخر من النص ذاته بعد أسبوع، وسيكون ذلك شرعياً وفعالاً وربما أفضل. لقد كان شكسبير يكتب عن الإنسانية، عن أشياء نعرفها جميعاً (واعتقد أن في أغلب مسرحيات شكسبير شخصيات عديدة يمكن أن يتماثل معها الجمهور المعاصر). هو كتب عن أشياء منفتحة وممكن التواصل معها، كما كانت قبل أربعمائة سنة.
باز لوهرمان:
لا أعتقد أن المخرج المسرحي مطالب بأشياء أكبر من تلك التي ينبغي أن يحققها المخرج السينمائي. لقد عملت في المسرح والسينما معاً، ووجدت بأن تأويل النص يتطلب عناية وتطويراً في كلا المجالين على نحو متساو، بصرف النظر عن الوسط.
تريفور نان:
أتفق تماماً مع الرأي القائل بأن المعالجة السينمائية لنصوص شكسبير تقتضي، قبل كل شيء، كمّاً من التخيّل البصري والروح الابتكارية المتطورة، والتي تتخطى كل ما رسمه وصوّره شكسبير في النص، مثل تغيير المواقع، كسر المشاهد إلى وحدات أصغر، أو تصوير المشاهد في أماكن غير مألوفة وغير عادية، تسمح بنوع من الإدراك الحسي المعمّق، الأكثر حدّة.
أظن أن هذا مهم جداً، ولا شك أن مهمة السينما أن تفعل ذلك. أنت محق في التوكيد على مسألة التأويل، لأنه ليس مجدياً كثيراً تحقيق فيلم عن مسرحية لشكسبير لمجرد تقديم تسجيل أمين للنص بحيث يكون موجهاً لأولئك الذين لم يقرأوا النص، في حين أن السينما، في أفضل أحوالها، تنجح بسبب التصوّر الإخراجي القوي، مهما كان جامحاً وذاتياً. إنها تنجح من خلال الرؤية الذاتية.
شكسبير إقليم خصب ومثمر جداً للرؤية الذاتية، ذلك لأن المسرحيات تعني أشياء مختلفة لأفراد مختلفين. هي أيضاً تعني أشياء مختلفة في أزمنة تاريخية مختلفة. في عالمنا، المتغيّر على نحو سريع، مسرحيات شكسبير غالباً ما تتغيّر في المعنى من عقدٍ إلى عقد، ومن جيلٍ إلى جيل، بل أحياناً من عامٍ إلى عام.
أوليفر باركر:
لقد سبق أن أخرجت “عطيل” على المسرح، وكنت متلهفاً جداً لأن أعالجها واستكشفها سينمائياً. كان ممكناً استحضار المرحلة والمواقع تماماً، وفي الوقت ذاته تقترب أكثر من الشخصيات، وتتخيّل وتضيء أفكارها. الشرح اللفظي يمكن تغليفه ضمن بضع صور. طاقة جديدة يمكن إيجادها بواسطة القطع المتوازي للمشاهد، وبواسطة تجاور الصور. النص يمكن سبره بالصورة.. لتوكيده أو حتى لتقويضه.
في حالة “عطيل”، كنت أستلهم التخيلات والثيمات اللفظية للبحث عن التخيلات والثيمات البصرية. العناصر، كمثال، تلعب دوراً كبيراً في النص. الأهواء والرغبات هي كاسحة وعميقة ويتعذر ضبطها أو السيطرة عليها.. كما المحيط. أنا لا أزعم بأن النسخة السينمائية تقتضي تأويلاً متنامياً أكثر. التنامي في الفيلم والمسرح يمكن أن يكون لا متناهياً. مع ذلك، الفيلم يحتاج إلى تكييف أكثر.
رومان بولانسكي:
بلا شك، السينما تقدّم لك امكانيات لا نهائية. وكما قلت من قبل، شكسبير كان محصوراً ضمن حدود الخشبة، ولو كان حياً اليوم لكتب تلك النصوص بطريقة مختلفة. إنه أشبه بالمؤلف الموسيقي الذي، في كل فترة زمنية، ينتج موسيقى مستخدماً الآلات المتاحة. كان شكسبير يفهم، على نحو مدهش، حاجات ومطالب جمهوره، ولو جاء اليوم ورأى الإعداد السينمائي الجيد لمسرحياته، لشعر بالسرور والابتهاج.
لقطة من فيلم “الملك لير”- بيتر بروك 1971
فرانكو زيفيريللي:
الكاميرا يجب أن تكون في خدمة النص، وأحياناً الكلمات تتخذ معانٍ أكثر قوة وفعالية من خلال الكاميرا. في “هاملت”، نفّذنا مونولوج “أن تكون أو لا تكون” في سرداب.. عبر سلسلة موجعة، حميمية جداً، من التأملات.. كما لو كان حواراً بين الرجل ونفسه وجمهوره، أو بالأحرى العالم. والكاميرا قامت بعمل رائع في تحقيق ذلك. إن وسط الفيلم يقدّم تشكيلات لا تُحصى لمثل هذه الاحتمالات.
سؤال: هل يمكنلفيلمٍ معدٍّ عن نص لشكسبير أن يكون بصرياً أكثر مما ينبغي، وواقعياً أكثر مما ينبغي؟ وهل تفضّل أن تستفيد من قدرة السينما على الاحتمال والاستيعاب، أم تفضّل أن تحافظ على تجريدية معينة في المناظر والديكور؟ ولماذا؟
بيتر بروك:
الكثير من المعلومات تعرقل الدماغ، مثلما الطعام الدسم يسبّب عسر الهضم. البساطة ليست أسلوباً ولا فضيلة.. إنها ضرورة فحسب.
بيتر هول:
لا أظن أن التجريد في السينما يعني شيئاً. فعل التصوير السينمائي هو، جوهرياً، تجريد. لذا، عندما تجرد التجريد… حسناً، دعني أوضح الأمر على هذا النحو: خشبة مسرح عارية وثلاثة ممثلين يؤدون “يوليوس قيصر”.. قد يجعلني هذا أصدّق بأن الحدث يدور في روما القديمة، لكن إذا وضعت الكاميرا وعرضت المشهد على الشاشة، فسوف يقول المتفرج: “هذه ليست روما القديمة. إنهم ثلاثة ممثلين على خشبة عارية”. السينما بصرية، هي عبارة عن صور. لقد أعجبني فيلم باز لوهرمان المأخوذ عن “روميو وجولييت”، لكنني تمنيت ألا تنطق الشخصيات.
ريتشارد لونكرين:
لا، لا يمكنك أن تعامل شكسبير بتعجرف. أظن أن باستطاعة المسرحيات أن تستخدم أية تقنية تجعلها أكثر قبولا وإمتاعاً. واعتبر نفسي محظوظاً جداً لأنه كان يتعيّن عليّ أن أكتشف شكسبير. في أيام الدراسة، ظننت أن شكسبير لا يخصني، كما هو الحال مع الأوبرا والباليه. لكن بعد أن بلغت الأربعين، أدركت إنني كنت مخطئاً. أغلب الذين أخرجوا أعمالاً لشكسبير كانوا من المعجبين جداً به، ولديهم معلومات وافية عنه وعن نصوصه. أما أنا فلم أكن أعرف شيئاً عنه. لذا فقد حاولت أن أفهمه كما يحاول رجل الشارع العادي. وحين أخرجت “ريتشارد الثالث”، كنت أصرّ على معرفة ما يدور في كل مشهد، وفهم معنى كل كلمة وكل جملة. عندما بدأت التصوير، كنت على معرفة تامة بالنص، مع ذلك طلبت من الممثلين التحاور بشأن المشهد للتوصل إلى فهم مشترك، خصوصاً أنها مشاهد مركّبة جداً. إذن لابد من الصدق والأمانة في إخراج شكسبير.
باز لوهرمان:
حتى الآن لم نحصل إلا على القليل من المعلومات الحقيقية عن شكسبير، مع ذلك تكوّن لدينا إحساس بأن شكسبير كان يحب أن تمتلئ الصالة بالجمهور، وكان بارعاً في إثارة الضحك وفي إسالة الدموع. كان يميل إلى التلاعب اللفظي والدعابة والأغاني الغريبة والتصوير الدراماتيكي للمبارزات. قبل كل شيء، كان يحب أن يذهل الجمهور ويفتنه ويبهجه باللغة، وفي الوقت ذاته يكشف، بقدرة مذهلة، الوضع الإنساني. أعتقد أن في أي فيلم، سواء أكان مأخوذاً عن شكسبير أو غيره، يتعيّن على اللغة البصرية أن تكشف وتدعم وتوضح الحكاية.
أوليفر باركر:
لا يمكن للفيلم أن يكون بصرياً أكثر مما ينبغي، مع إنني أظن بأنك تستطيع أن تكون ملتزماً بأمانة. أعتقد أن الشعر والنزوع الأسلوبي ينبغي أن يتعانقا وينعكسا في الفيلم، وإلا فما الداعي لتحقيق فيلم عن نصٍ لشكسبير في المقام الأول؟.. في الوقت نفسه أجد من المثير حقاً تثبيت القصة على أرض الواقع. فقط الإفراط في فعل ذلك يجعلك تفقد البعد المجازي.
رومان بولانسكي:
لا أعتقد أنك تستطيع أن تحقق فيلماً بمواقع تجريدية، مسرحية. ذلك مستحيل، ولا أستطيع احتماله. أنا من المعجبين جداً بأورسون ويلز، لكن فيلمه “ماكبث” لا يطاق بالنسبة لي. من ناحية أخرى، تستطيع أن تخلق عالماً واقعياً، وفي الوقت ذاته، وبطريقة ما، يكون “مسرحيا”.. ولا أعرف إذا كان بإمكاني أن أقول “مسرحياً”، لأن هذا يبدو ازدرائياً ضمن السياق، لكن الأمر كذلك في الواقع.
إني أحقق الأفلام لأن الأفلام الأولى التي أثّرت فيّ، والتي جعلتني أحب السينما فعلاً، كانت تلك التي تملك هذه الخاصية: خلق عالم خاص مختلف عن الواقع. أفلام لورنس أوليفييه، وبالذات فيلمه “هاملت”،كان الأثير إلى نفسي عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري. لقد شاهدته مراراً. وما أغواني أكثر هو ذلك العالم الذي نجح أوليفييه في خلقه، والذي كان أشبه بالحكاية الخرافية. لذلك أعتقد أنك قادر على خلق هذا النوع من الواقع. لكن هذا قد لا ينجح دائماً، والمثال الأوضح، رغم أنه غير مأخوذ عن شكسبير، هو فيلم جوزيف لوزي “دون جيوفاني”، المأخوذ عن أوبرا موزارت، وهو الفيلم الذي لم أستطع احتماله. إذا أنت استخدمت مادة تقليدية مكتوبة للأوبرا، فينبغي أن يعاد خلقها سينمائياً في عالم مماثل. لا يمكنك أن تجعل الشخصيات تغني على أرض معشوشبة، في موقع واقعي تماماً، ثم تذهب فجأة إلى ديكور مسرحي إيطالي ذي منظور متكلّف. لقد مزج جوزيف لوزي هذين الشيئين، وأدى ذلك إلى التضارب بينهما، فلم يوفق.
لقطة من “روميو وجوليت”- فرانكو زيفيريللي 1968
فرانكو زيفيريللي:
لا أظن أن من الضروري تحديث مسرحيات شكسبير وجعلها عصرية. ليس هناك أي مصلحة أو فائدة في إضاعة روعة وفخامة وحيوية تلك القصص في مواقعها التاريخية الخاصة. لقد لجأت إلى ذلك في المسرح، وحاولت أن أفعل ذلك مع مسرحية “ضجة صاخبة من أجل شيء تافه” لشكسبير. كانت تجربة ناجحة جداً. مثل هذه المسرحية قابلة لأن تدور في واقع معاصر، وقد استمتع بها الجمهور، لكنك لا تستطيع أن تفعل الشيء ذاته مع هاملت، لأن هذه المسرحية تتحدث بشكل أفضل حين تدور في موقعها التاريخي وخلفيتها الثقافية الخاصة.
سؤال: هل هو مهمبالنسبة لمخرج فيلم شكسبيري أن يكون ملمّاً، وعلى دراية، بتاريخ وثقافة وبنية العالم الإليزابيثي الذي كتب فيه شكسبير مسرحياته؟
بيتر بروك:
معرفة كافية لكي لا يُنظر إليه كشخص أبله، لكن ليس إلى حد أن ينسى بأن على الفيلم أن يكون مفهوماً أو معقولاً في يومنا هذا.
بيتر هول:
أظن أن هذه المعرفة تساعد، لكن الأهم أن تكون للمخرج استجابة تخيلية لأفكار وصور شكسبير.. لا أعني الصور اللفظية، بل صور المسرحية برمتها.
باز لوهرمان:
كما هو الحال مع أية قصة. إذا كنت لا تفهم العالم الذي فيه يتولّد النص، وإذا لم يكن لديك فهم كامل وشامل لتاريخ وثقافة وبنية ذلك العالم في شموليته، فإنك عندئذ تفسّر وتؤول النص في الفراغ.
تريفور نان:
في فترة المراهقة، درست على يد أستاذ كان يقرأ معنا مسرحيات شكسبير ويتكلم بالتفصيل عن النصوص. لهذا، منذ ذلك الحين، كنت مفعماً بالرغبة في اكتشاف الكثير عن شكسبير، أن أتعلّم كل شيء بشأن لغته، معجمه، لهجته العامية، الكلمات التي اخترعها، الدراما التي ابتكرها، والأشياء التي لم تكن موجودة قبله. لا أظنأن بإمكاني الشروع في أية مسرحية من دون أن أرغب في مراجعة تلك المعرفة، تلك الخلفية.
أخرجت للمسرح “تيمون الأثيني” بحيث تدور أحداثه في العام 1995، لكن ذلك لم يجعلني أتغافل عن عملية البحث، التي أعتبرها ضرورية جداً، إذ أن كل ذرّة من المعنى والغرض الأصلي بحاجة لأن تكون مفهومة. إن غاية الانتاج المعاصر هو أن يجد السبل لإطلاق الهدف الأصلي بفعالية أكثر بحيث يصل إلى الجمهور في زمننا. قد أحتاج إلى أن أصوّر العمل بشكل مختلف، لكن ينبغي أن أعرف كل شيء بشأن قوته الأصلية لكي أباشر فيه. لا أعتقد أن أحداً قادر أن يزعم بأن الجهل نعمة.
رومان بولانسكي:
ذات مرّة قرأت مقابلة مع (المخرج) بيلي وايلدر سئل فيها – بما أنه كان يشارك في كتابة سيناريوهات أغلب أفلامه – ما إذا يعتقد بأن على المخرج أن يعرف كيف يكتب السيناريو، فأجاب: “لا، لا أظن ذلك، لكن من المفيد أن يجيد القراءة”.
أعتقد أن هذا يجيب على سؤالك.. أعني، كيف يمكنك أن تتعامل مع مادة ما إذا لم تحسن قراءتها بشكل جيد؟ وإذا لم تكن لديك معرفة بتلك المرحلة؟
أوليفر باركر:
مهم، نعم. لكنه ليس شيئاً أساسياً. هذا يتوقف على الرؤية الخاصة للمخرج، وإلى أي حد تكون قريبة من المسرحية الأصلية.
فرانكو زيفيريللي:
أظن أن ذلك أساسي بالنسبة لشكسبير أو أي مؤلف عظيم تتعامل معه. إنك تدرس الكثير عنه، ما جاء قبله وما حدث حوله. حين أخرجت فيلم “جين أير” كنت مستغرقاً تماماً في المعضلات الثقافية والاجتماعية في انجلترا في تلك المرحلة. يتعيّن عليك أن تفعل ذلك لكي تعرف الإجراءات الصحيحة واللائقة. لا يمكنك أن تنتقل كيفما اتفق أو على غير هدى، وتسارع إلى تكوين رأي ما، ثم تتوقع أن تعرف كيف تتصرف الشخصية في سياق تاريخي وأنت تجهل ذلك السياق التاريخي.
سؤال: ما رأيك في تصوير ترجمات عصرية لمسرحيات شكسبير كمقابل لتلك التي تحافظ على المرحلة التاريخية؟
بيتر بروك:
المعنى يجب أن يكون حياً ومباشراً وناشطاً اليوم. المظهر الخارجي الحديث والمظهر العتيق أو المهجور، كلاهما يمكن أن يشكّلا إعاقة بقدر ما يشكّلا عوناً.
بيتر هول:
لا أحد منا يعرف ما تعنيه عبارة ” المرحلة التاريخية” أو ما تعنيه عبارة “تحديث”. شكسبير وضع مداخن في روما ولم يكن يعرف إن كانت موجودة في أيام روما، لكن ذلك لم يقلقه. أظن أنه يتعيّن على كل مسرحية أو فيلم مأخوذ عن شكسبير أن يمتلك عالمه البصري الخاص، لكن لا يمكن أن تكون ملتزماً حرفياً بالمرحلة التاريخية، فذلك شيء أثري ومضجر.
ريتشارد لونكرين:
أظن أن كليهما فعال وشرعي، ولكل منهما موقعه ومكانته. لم يكن من ضمن مشروعي أن أجعل أحداث “ريتشارد الثالث” تدور في الثلاثينيات من القرن العشرين. هذا خيار اتخذه ريتشارد إير الذي أخرج العمل مسرحياً مع إيان ماكيلين. لم أشاهد المسرحية، لكنني اقتبست الفكرة وانطلقت منها وتوسعت فيها. أظن أن جعل الأحداث تدور في المرحلة الفاشية هو تأويل شرعي. لقد كانت لدينا لغة مكتوبة قبل أربعمائة سنة، ولم أكن أريد لهذه اللغة أن تتصادم مع اللغة المجازية بجعل الأحداث تدور في مرحلة أو مكان معروفين. لكن باختيار زمن ومكان مجهولين وغير محددين، فقد ساعد ذلك على تضبيب الحدود بين لغة تنتمي إلى القرن السادس عشر واللغة المجازية المعاصرة. شكسبير لم يؤد قط مسرحياته بملابس تنتمي إلى مراحل قديمة، فقد كان الممثلون يرتدون الأزياء المتوفرة لديهم آنذاك.
باز لوهرمان:
لقد أخرجت أعمالاً لشكسبير في المسرح والأوبرا والسينما، ولم يكن هناك أبداً أي جدال أو خلاف بشأن صحة أو خطأ منهج ما. يتوجب على المرء ببساطة أن يخاطب الجمهور في لحظة معينة من الزمن، ويحاول أن يكشف غنى الفكرة أو القصة، سواء جعلت الأحداث تدور في المرحلة الإليزابيثية أم على خشبة مسرح عارية، أو وفق أي تأويل آخر.
أوليفر باركر:
أحترم الرغبة في تقديم معالجات عصرية لمسرحيات شكسبير، خصوصاً حين تكون النيّة هي الاتصال بجمهور أوسع. مع ذلك، لا أظن أن هذا يجعلها بالضرورة مناسبة أكثر، أحياناً يبدو ذلك مجرد وسيلة للتحايل. لكن حين ينفّذ بذكاء وبراعة وعناية، فإن النتيجة تكون رائعة، كمثال فيلم باز لوهرمان “روميو وجولييت”. لقد وجدته متقداً ومؤثراً ومن اليسير جداً الوصول إليه وفهمه.
رومان بولانسكي:
أكره تماماً تلك المعالجات العصرية، ولا أستطيع التجاوب معها على الإطلاق. أظن أن أعمال شكسبير يمكن في الواقع أن تقدّم مثل موسيقى الجاز، فليس هناك توجيهات غير: يدخل، يخرج، يُذبح.. وما شابه. لذا يمكنك أن تمثّلها وتخرجها على المسرح بأية طريقة تشاء. لكن ما الغاية من المعالجة العصرية؟ إذا كان المخرجون يخشون من كون شكسبير كاتباً قديماً وأثرياً، فيتعيّن عليهم إذن أن يتركوه وشأنه، وأن يبحثوا عن مادة مختلفة. إذا أنت قبلت أعرافاً وتقاليد معينة، واللغة إحداها، فعندئذ ينبغي أن تجد عناصر ملائمة للتعبير عنها. إنك لا تستطيع أن تكسو الأفراد بأزياء عصرية أو، وهذا أسوأ، أن تنقلها إلى مرحلة أخرى فحسب.
فرانكو زيفيريللي:
كما قلت، لا أظن أن إلباس الشخصيات أزياء حديثةً له أي ميزة أو فائدة. عندما حققت “روميو وجولييت”، حافظت على الأجواء التاريخية، لكن بعد دقائق قليلة، نسى الجمهور أن القصة تدور في فيرونا قبل أربعة أو خمسة قرون، وأن الناس آنذاك كانوا يرتدون أزياء خاصة وبطريقة مختلفة. الجمهور كان مستغرقاً على الفور عبر تماثلهم مع الشخصيات التي صاروا يحبونها. حين تمتلك الشخصية تلك الطاقة والقدرة على تخطي الأزياء العصرية والإحالات الأخرى، فلا أظن أنك تحتاج إلى القيام بذلك الجهد. في الواقع، ذلك يمكن أن يسبّب إخلالاً. فيلم لوهرمان لم يعصرن المسرحية بل جعل منها أضحوكة. لكن من الواضح أن الثقافة الزائفة في يومنا لا تستوعب المسرحية أو تهضمها إلا إذا اكتست بأزياء عصرية وأشاعت جواً من المرح واللعب.
يتعيّن علينا أن نساعد الجيل الشاب على مواجهة الماضي بأمانة وشجاعة وصدق، لأننا نتعلم الكثير من الماضي، فنحن نعيش في أزمنة قاحلة جداً، فقيرة جداً، وينبغي أن نعود إلى زمن كانت فيه حدائقنا غنية بالزهور والثمار المدهشة. الأطفال يتعلمون من الماضي. فقط حين تعرف الماضي، تستطيع على نحو لائق أن تتأمل الحاضر والمستقبل. عندما تنظر إلى رأس ديفيد الذي نحته مايكل أنجلو، والذي يتخطى الزمن، تشعر بأن العاطفة هي التي تبقى إلى الأبد.
للفن قدرة هائلة على قهر الزمن. حين افتتح (الرئيس الفرنسي) فرانسوا ميتران متحفاً فنياً، قال: “عندما أنظر إلى عمل فني، أفهم بأن الإنسان قادر على قهر الموت”.
سؤال: إنتاج فيلم شكسبيري هو عادةً محاولة لتبسيط شكسبير وجعله في متناول مدارك الجمهور السينمائي العريض. ما رأيك؟ وأي نوع من التسويات والتنازلات تستدعيها هذه المحاولة؟
بيتر بروك:
لا تنازلات طوعية.
بيتر هول:
واقع أن الكثيرين يعون حكاية روميو وجولييت، بسبب فيلم باز لوهرمان، لا يعني أنهم حين يذهبون لمشاهدة مسرحية “روميو وجولييت” سوف يشعرون بخيبة أمل. أعتقد أن ترويج شكسبير شيء نافع وثمين، لكن لا ينبغي أن نخدع أنفسنا ونظن بأنه شيء حقيقي. شخصياً أؤمن بأن الفنان العظيم يستحق الاحترام لا الازدراء وتمزيق أوصاله. لقد قضيت 45 سنة تقريباً من عمري وأنا أشتغل على شكسبير وأقدّم عشرات من مسرحياته. وحين حققت فيلمي “حلم ليلة منتصف الصيف”، ظننت أن من المثير للاهتمام استخدام الكاميرا كمحاولة للاقتراب أكثر من النص. ذلك كان الهدف المعلن لهذا الفيلم، الذي أحبه البعض كثيراً ولم يحبه البعض الآخر. لكن تلك كانت محاولة لثني الفيلم في اتجاه النص، فقد حذفت القليل جداً من النص، وعلى نحو متعمد لم أجعله سينمائياً، إن جاز التعبير. لقد اعتمدت على الحوار أكثر من اللغة السينمائية. كنت أحاول أن أعرض المسرحية على الفيلم، لا أن أعد المسرحية سينمائياً. في الواقع شاهدت كل الأفلام الجديدة المأخوذة عن شكسبير، وهذا أفضل من عدم إنجازها. أنا واثق من أنها تثير اهتمام البعض، وتحافظ على بقاء شكسبير حياً في الأذهان إلى حد ما، لكنني لا أظن أن السينما قادرة على أن تحقق أعمال شكسبير كما ينبغي، ولا تستطيع أن تستخدم النص بالطريقة الملائمة.
ريتشارد لونكرين:
أشعر بالارتباك حين يتكلم الآخرون عن شكسبير المسرحي والقاص والشاعر والممثل بوصفه رافضاً لأن يكون جماهيرياً، وأنه لم يكن يهتم بالجمهور العريض. هل نعتقد حقاً بأن الرجل الذي كان يعرض أعماله يومياً أمام أربعة آلاف شخص، من كناسي الشوارع إلى ملكة انجلترا، لم يكن راغباً في النجاح الجماهيري؟ متى كان شكسبير مهتماً فقط بعرض أعماله على نخبة صغيرة؟ أنا لا أفهم هذا المنطق. يبدو لي أن نقيض كل ما ناضل شكسبير من أجله هو أن يُنظر إلى نصوصه باعتبارها تمثّل الثقافة الرفيعة.
تريفور نان:
هناك ضغط من شركات الإنتاج السينمائي من جهة، ومن دراية وغريزة الفنان نفسه من جهة أخرى. أنت تريد لفيلمك أن يُعرض على أوسع نطاق ممكن، مع ذلك تريد أن تكون قادراً على رفع رأسك وسط محبي شكسبير، وأن لا تجد نفسك مضطراً إلى القول بأنك ابتذلت النص عن دراية لاعتبارات تجارية.
شكسبير كان مثالاً استثنائياً للكاتب الذي وجد لنفسه شكلاً حياً. كان يمتلك طاقة خلاقة، وشهوة عارمة إلى الإبداع، واختار المسرح. لم يختر النثر أو الشعر الصرف، بل إختار المسرح لأنه الشكل الحي الذي تكمن فيه الإثارة. في هذا المجال احتشد فجأة أولئك القادرين على الكتابة.
أظن أن الشكل الحي يتغيّر من عصر إلى آخر، وليس مصادفةً أن تكون الرواية هي النوع السائد في القرن التاسع عشر، والكتّاب العظام أصبحوا روائيين، والأقل عظمة واصلوا كفاحهم مع المسرح.
في زمننا، السينما هي الشكل الحيّ. وأنا أجزم بأن شكسبير، لو كان حياً اليوم، لانجذب إلى السينما ورغب أن يكون مؤلفاً للفيلم من جميع نواحيه.. كتابةً وإخراجاً، وأن يكون مسؤولاً عن كل شيء، من الإشراف إلى التنفيذ. وكان يمكن أن ينجز كل هذا على نحو رائع ومدهش.
أوليفر باركر:
أنا أحيي الرغبة في جعل شكسبير رائجاً وجماهيرياً، وفي تقديمه إلى الجمهور العريض، للبرهنة على أن القصص والشخصيات واللغة يمكن أن تكون ممتعة ومسلية وسهلة الوصول. ما يجعل شكسبير عبقرياً، احتواء أعماله على طبقات ومكامن عديدة، وقدرته الفذة على أن يكون مفعماً بالإستبصار وعميقاً ومثيراً للمشاعر ومرفّهاً في الوقت نفسه. لأن الكثيرين يعتبرونه الآن من اختصاص الأكاديميين، فإن من المهم المطالبة باسترداده كفنان شعبي وجماهيري، ولا أحسب أن هذه الحاجة تحط من قدره وتقلل من شأنه.
رومان بولانسكي:
لا ريب أن الذين شاهدوا فيلم لورنس أوليفييه “هاملت” أكثر عدداً من أولئك الذين شاهدوا النص نفسه في عرض مسرحي. وعما إذا كان اعداد فيلم عن عمل لشكسبير يقتضي تنازلات، فذلك يعتمد على موقف المخرج الذي يستطيع أن يعارض التوجيهات التي تطالبه بجعل الفيلم يخاطب المستوى العام الأدنى. حين صوّرت “ماكبث” لم أتنازل بأي شكل من الأشكال، وكل التغييرات التي أجريناها كانت مبنية على البحث والاستقصاء. في ما يتعلق بالتوضيح، يمكنك أن توضح أموراً معينة بطريقة لا تجعلك تستبدل المفردات القديمة لأنها تصبح أوضح عبر السياق البصري أو من خلال الأداء.
فرانكو زيفيريللي:
ثمة موقف متصوّر سلفاً، لكن هناك أيضاً مكافأة مجزية عندما تقدّم قصة كلاسيكية واضحة المعالم، ولا تحاول أن تكون عصرياً، لأن الجمهور سوف يستجيب ويتفاعل. يجب أن تفعل كل ما هو ممكن من أجل أسر الجمهور، لكن إقناع الناس بأنهم يزورون ثانيةً عملاً كلاسيكياً عظيماً ضمن شروط لائقة، هو الجهد الذي ينبغي أن نبذله. مع أفلامي حاولت أن أعيد شكسبير إلى الجمهور العام الذي إليه هو كتب في المقام الأول. جولييت وروميو في فيرونا يعبّران عن نفسيهما على نحو أكثر نبالة، وأكثر غنى وامتلاءً، مما يفعله الجيل الشاب اليوم. لكن ما هو أكثر أهميةً أن جوهر الإنسان، ما يكونه الإنسان وما يحتاجه، لم يتغيّر منذ العصر الحجري.. نحن نبكي بسبب الآلام ذاتها، ونضحك على الدعابات ذاتها.
سؤال: هل تشعر بأن الموجة الراهنة، من الأفلام الشكسبيرية، مشجعة بالنسبة لك؟ هل مثل هذا التوجه يسهّل لك تحقيق فيلم شكسبيري آخر؟ هل هناك مسرحية معينة لشكسبير ترغب في تحقيقها كفيلم؟
بيتر بروك:
نعم.. لا.. لا..
بيتر هول:
لا، لا أظن ذلك. أعمال شكسبير لا تحقق إيرادات عالية تثير اهتمام أقطاب الإنتاج السينمائي. ثمة دائماً القليل من التفجر أو الاندلاع المفاجئ، والقليل من البزوغ المضلل. لكنني لا أظن حقيقةً أن الوضع قد تغيّر. المشكلة الكبرى التي نعاني منها في بريطانيا، وربما في أمريكا أيضاً، أن سلسلة الأعمال الشكسبيرية التي أنتجتها محطة BBCقد عطلت تماماً التحويل اللائق والمميز لأعمال شكسبير إلى السينما أو الفيديو لسنوات طويلة. ليس هناك أي عمل في هذه السلسلة جدير بالمشاهدة. إنها تضم كل الأشياء التي أعتقد أنها تكمن في خلفية أسئلتك: تأريخية بغيضة، أداء سيء، ونوع خاطئ من الإحترام للنص.
شخصياً أرغب في تحقيق “تاجر البندقية” سينمائياً مع دوستين هوفمان، بعد أن قدمناها، أنا وهو، على خشبة المسرح. أعرف أن مثل هذه المحاولة تعني أن أعد نسخة غير شرعية، مقطعة الأوصال، وأنا لا أرغب في فعل ذلك.
ريتشارد لونكرين:
السينما تشهد بين الحين والآخر بروزاً مفاجئاً لأعمال شكسبير، ولدينا الآن موجة كبيرة من هذه الأعمال. صناعة الأفلام، في جانبها المادي، وبوصفها عملية تهدف إلى در الأرباح، لم تحقق بعد ذلك التزاوج المريح بين الفن والتجارة، لكن إذا نجح تجارياً فيلم شكسبيري، كما حدث مع “روميو وجولييت”، فإن ذلك سوف يشجع الأستوديوهات على إنتاج أفلام شكسبيرية أخرى. “ريتشارد الثالث” لم يكن فيلماً ناجحاً تجارياً، لكنه غطى تكاليف إنتاجه، وقد حقق نجاحاً فنياً في كل أرجاء العالم تقريباً، وآمل أن يشجع المخرجين الشبان على التوجه إلى شكسبير. إنه الفيلم الذي جعلني أكتشف شكسبير. ولدي الآن رغبة شديدة في تحقيق “تاجر البندقية”.
باز لوهرمان:
في شبابي شاهدت أعمالاً سيئة مأخوذة عن شكسبير، الذي وجدته آنذاك مستغلقاً، صعب الإختراق، ولا سبيل إلى فهمه. يوماً ما شاهدت مسرحية “الليلة الثانية عشر” التي أخرجها نيل آرمفيلد. فجأة انزاح الستار، وأدركت حينئذ أنني قصّرت عن فهم أو إدراك ما كان شكسبير يريد أن يقوله.
للإجابة على سؤالك، أعتقد أن من المشجع رؤية العديد من المخرجين وهم يضطلعون بمسؤولية الكشف عن ثراء هذه المسرحيات إلى جمهور أخفق، مثلي، في فهم شكسبير.
فيما يتعلق بفيلمي “روميو وجولييت”، أتوقع أن يتم تجاوزه يوماً ما، بوصفه عملاً قديماً وتقليدياً، ويستبدل بنسخة سينمائية جديدة. ما هو مهم حقاً، ما قاله بنجامين بريتين ذات مرّة عن القصة التي، إذا كانت حقيقية وصادقة، سيكون لها نتاجات مختلفة عديدة، وفي أماكن مختلفة عديدة، وسيعاد إنتاج القصة المرة تلو الأخرى. في رأيي، السرد العظيم يتحدى الزمن والجغرافيا وقوانين الخطأ والصواب. الدليل على جدارتها هو استمرار بقائها.
تريفور نان:
تبهجني كثيراً موجة الأفلام الشكسبيرية الراهنة. إلا أني قلق بعض الشيء من أن يدفع النجاح التجاري لفيلم ما بالمنتجين إلى الاعتقاد بأن ما ينبغي أن تفعله بنص شكسبير هو تمزيق أوصاله، والتركيز على السرد، لأنني أظن أن من المحزن اتباع الأفلام الشكسبيرية تلك الوصفة. إني أتوق إلى مشاهدة فيلم شكسبيري طويل، ملتزم بالنص، ومع ذلك يحقق نجاحاً.
نعم، أحب أن أنجز فيلماً شكسبيرياً آخر.
أوليفر باركر:
بالطبع، فالاهتمام الحالي بأعمال شكسبير لابد أن يكون صالحاً ومفيداً. ليس هناك احتياطي لانهائي من المسرحيات، فالعديد من الأعمال العظيمة أنجزت سينمائياً. نص “العين بالعين” هو الإستثناء الملفت.
رومان بولانسكي:
لقد عانيت كثيراً بسبب فيلم “ماكبث”. صعب جداً أن تؤلف فيلماً ما ولا تحصل على تمويل له. وبما أن “ماكبث” لم يحقق نجاحاً تجارياً، لذلك لم أكرر التجربة. حقاً لا أعرف إن كانت هناك موجة. أظن أن ثمة نقصاً في الموضوعات، وهم يحاولون التنقيب عنها هنا وهناك.
أحب أن أحقق فيلماً شكسبيرياً آخر، وسوف أنفّذه بالطريقة التي نفّذت بها “ماكبث”، وبسرد القصة وفق الطريقة التي أراد المؤلف أن يسردها، لكن بوسائل إنتاجية لم تكن متاحة في ذلك الوقت. اليوم لديك كل هذه المؤثرات البصرية التي يمكن أن تيسّر تنفيذ مشاهد معينة، والتي في السابق كانت تقتضي الكثير من المال والجهد، أما الآن فتستطيع أن تفعلها بمساعدة الكومبيوتر.
فرانكو زيفيريللي:
بطريقة ما، أظن أنني قد ساهمت بمقدار كاف في مسألة إحياء شكسبير سينمائياً، وجعله محط اهتمام الجمهور العريض. على الرغم من ذلك، لدي ثلاث أو أربع أفكار لن أعلن عنها خشية أن يسلبها الآخرون. حالياً أحاول أن أروي قصصاً أخرى.