“حدث ذات مرة في هوليوود”: تشريح صناعة في طور التحول من خلال مسار ممثل

يعد فيلم “حدث ذات مرة في هوليوود” أحد أجمل الأعمال السينمائية التي بصمت العام 2019، وهو الفيلم التاسع في مسيرة مخرجه المبدع والمُقل أيضا كوينتين تارانتينو، وقد شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان هذا العام وخرج خاوي الوفاض على غير المنتظر، هو أيضا أحد الأفلام التي اختلف النقاد في طريقة تلقي مضامينها وفي تقييمها، مما يغري هواة السينما بمزيد من الدرس والتحليل.

يبدأ الفيلم بوصلة إشهارية بالأبيض والأسود تحتل مقاس العرض التلفزيوني المربع من شاشة السينما العريضة، يكتشف المتفرج بعدها أن الأمر يتعلق بسلسة تلفزيونية عن رعاة البقر اسماها “صائد الجوائز”، يتوقف صوت مذيع الدعاية لتنتقل الكاميرا إلى استوديو التصوير، حيث يستمر مقاس العرض التلفزيوني على الشاشة للتدليل على ضآلة التلفزيون أمام جماليات السينما، يترك مذيع شبكة التلفزيون بطل السلسلة ريك دالتون (ليوناردو دي كابريو) ليقدم نفسه، ويشرح للمشاهد عمل كليف بوث (براد بيت) الدوبلير أو بديله في أداء المشاهد الخطيرة .

في الحقيقة لم يكن كليف مجرد دوبلير للبطل، بل كان أيضا سائقه الخاص بعد أن سُحبت رخصة قيادته بسبب الإفراط في تناول الكحول، يقوم أيضا بدور الحارس الخاص، ويؤدي أعمالا منزلية مختلفة في بيت ريك، هو إذا رجل لكل المهام .

يرتحل الفيلم من أجواء عقد الخمسينات التي عبر عنها كوينتينتارانتينو بالأبيض والأسود إلى أوائل العام 1969،حيث تستعيد شاشة العرض حجمها بالألوان، يُواعد ريك دالتون وكيله مارفن شوارز( ال باشينو) في حانة جمعتهما على إحدى طاولتها جلسة مكاشفة وتقييم، أفضى له خلالها هذا الأخير بأنه سقط في النمطية، وتجمد في أدوار الشرير الذي يُقتل في الأخير مقترحا عليه تغيير النهج والوجهة معا.

أزمة الممثل

يجتاز الممثل في هوليوود وفي غيرها أزمة منتصف العمر، إذ بعد مرحلة الانتشار في شرخ الشباب، يقل طلب صناع الأفلام عليه مع التقدم في السن، والممثل الذي لا يحسن التحول يسقط في الاكتئاب ومعاقرة الخمر بعد أن يصبح عاجزا عن ضمان نفس نمط الحياة التي اعتاد عليه.

لقد أرادتارانتينو– السيناريست أن يعالج من خلال شخصية ريك دالتون تلك الأزمة الوجودية التي يعيشها الممثل عندما تبدأ الأضواء بالانحسار عنه، حالة سبق للسينما أن عالجتها في عديد أعمال أبرزها “شارع الغروب” لبيلي وايلدر 1950 و”الغناء تحث المطر” لجين كيلي وستانلي دونن 1952اللذان تطرقا لعطالة ممثلي السينما الصامتة بعد أن نطقت السينما.

على امتداد الفيلم، يصارعريك دالتون من أجل البقاء داخل صناعة في طور التحول؛ إما بالظهور في أدوار ثانوية في مسلسلات مصورة للتلفزيون؛ أو في أفلام من الصنف ب؛ أو حتى عبور الأطلسي إلى أوروبا للعمل في أفلام الويسترن سباغيتي التي يخرجها سيرجيو كوربوتشي في إيطاليا.

تجد مقاربة التحولات التي شهدتها هوليوود أواخر الستينات من خلال الممثل مشروعيتها في أن الممثل كان دائما هو قطب الرحى في هذه الصناعة وصانع الأحلام بالنسبة للمتفرج، وعامل تسويق مهم للمنتوج السينمائي، وكان يتأثر دائما بالتطورات التي تعرفها الصناعة، فقد بلغ الممثل أوجه في العصر الذهبي في هوليوود حين تحققت لكثير من الممثلين والممثلات المقومات التي جعلت منهم معبودي الجماهير. تأثرت وضعية الممثل مع انهيار نظام الاستوديوهات الكبرى الاحتكاري، وتعمقت الأزمة في عقد الستينات مع تغير أذواق المشاهدين وما استتبعه من تغير في المواضيع مع تراجع مضطرد للسينما أمام التلفزيون، وتصادف العام الذي تدور فيه أحداث الفيلم 1969مع تشكل حركة سينمائية عرفت في الأدبيات السينمائية ب”هوليوود الجديدة “، ورام المخرجون الذين قادوها الإمساك بزمام المبادرة في الاستوديوهات الكبرى، مع التصدي لمعالجة النابوهات التي كانت حتى ذلك التاريخ محظورة بموجب مدونة هايس حول أخلاقيات الإنتاج في السينما الأمريكية كالعنف والجنس والدين وغيرها.

لا شكفيأن كل هذه التغييرات هي التي أثرت على مسار ريك دالتون وبديله كليف بوث، فلم يعدا يجدا مكانا تحث شمس هوليوود القديمة التي بدا أنها تخضع لموثرات أخرى، فقد أنهت هذه الحقبة سينما الأكشن والغرب الأمريكي بشكلها القديم، فاتحة الباب لسينما جديدة فرسانها من أصحاب اللحي أمثال فرنسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي و جورج لوكاس وستيفن سبلبيرج.

نظرة هوليوود إلى الآخر

ما موقف هوليوود من الآخر؟ ويقصد بالآخر الدخيل غير الأمريكي في نظرة أهل البلد، هنا تضمن الفيلم ثلاث إشارات دالة أثارت جدلا، همت إحداها مخرجا بولنديا استطاع أن يخطف قلب فاتنة هوليوودية، والثانية ممثلا من أصول أسيوية لفت إليه الانتباه ليشكل ظاهرة جماهيرية ملفتة، والثالثة بلدا أوروبيا اختطف تراثا سينمائيا أمريكيا خالصا ليحظى نتاجه من الأمريكان بتسمية ساخرة مستوحاة من الطبق الوطني لهذا البلد.

ظهرت شخصية المخرج البولندي رومان بولانسكي (رلاف زاولوتشي) بشكل عابر بمساحة جد ضيقة، ومن المعلوم أن هذا القنفذ القصير القامة لم يكن ينظر إليه بود في هوليوود بعدما استطاع أن يكسب قلب الجميلة شارون تايت (مارغو روبي)، ففي ثرثرة عرضية يصفه النجم الكبير ستيف ماكوين بالبولندي القذر، كما أن الفيلم أظهر سيارته بأنها السيارة الوحيدة التي لم تكن تقف عند إشارات المرور، ينقل الفيلم نظرة الوسط السينمائي التي ليست بالضرورة نظرة تارانتينو الذي أجرى على لسان على ريك دالتون مديحا يصفه فيه بالمخرج العبقري.

أظهر تارانتينو بروس لي بطل الكونغ فو الأسطوري بشكل ساخر حين جعله محط استهزاء عقب نزاله مع كليفداخل استوديو التصوير، موظفا تساؤلا طريقا شغل بال أطفال هذه المرحلة وعشاق أفلام الحركة، ويتعلق الأمر بمن سيحسم نزالا متخيلا قد يجمع بين ملك رياضة الملاكمة محمد علي كلاي وملك الكونغ فو بروس لي ؟

يدافع تارانتينوعن البورتريه الذي رسمه لبروس لي كشخص متغطرس تحكي زوجته بأنه أفضى لها بأنه قادر على سحق محمد علي كلاي، لكن حتى إذا سايرنا المخرج جدلا، أتشفع مجرد عجرفة الرجل أن تحيله إلى نمر استوديو من ورق رغم تفوقه المشهود في رياضته؟ وهل يندرج الأمر كله في نطاق شغف المخرج بتغيير حقائق تاريخية قاطعة كما غير مصير شارون تايت ذاتها في الفيلم، ومن تم يجب على عشاق بروس لي تقبل الأمر بكل روح رياضية؟

لقد خطف بروس لي الأضواء بشكل جعله غير مرحب به في هوليوود، حتى إن إحدى فرضيات رحيله المفاجئ تذهب إلى أنه صُفي بالسم في نطاق صراع الاستوديوهات، هذا ليس مهما لكن النظرة إلى الآخر جعلت الصين بجلالة قدرها تنتصر لبطلها القومي، وتمنع فيلم تارانتينو من ولوج سوق ضخمة معلقة المنع على ضربة مقص يزيل من خلالها المخرج كل المشاهد المسيئة وهو ما يرفضه تارانتينو بشكل قاطع إلى غاية تاريخه.

حين يخرج ريك دالتون من لقائه بوكيله مارفن شوارز، ينخرط في صراخ هستيري حتى أن كليف طلب منه مغالبة بكائه لكي لا ينتبه حراس المكان من المكسيكيين، يستغرب المشاهد حين يكتشف أن رد الفعل ناتج عن مقترح لشوارتز أوصى من خلاله ريك دالتون أن يعطي نفسا جديدا لمساره بالظهور في أفلام الويسترن سباغيتي التسمية الساخرة للأمريكان من أفلام الغرب التي كانت تُصور في إيطاليا، يصبغ ريك على الويسترن الايطالي أبشع النعوث معبرا عن نظرة هوليوود التحقيرية إلى نتاج ينظر إليه على أنه استيلاء على تراث سينمائي أمريكي أصيل.

قد تكون كثير من أفلام الويسترن سباغيتي هزيلة ونفذت بميزانيات ضئيلة بالمقارنة مع سخاء ميزانيات الويسترن الأمريكي، إلا أن ما عرض له الفيلم ليس بالضرورة وجهة نظرتارانتينو، فهو من المتيمين بالكبير سيرجيو ليوني، حتى إن عنوان فيلمه مستوحى من لازمة أثيرة لدى هذا الأخير تكررت ثلاث مرات في عناوين أفلامه “حدث ذات مرة في الغرب” و” حدث ذات مرة: الثورة ” ثم “حدث ذات مرة في أمريكا”، واحترافية سيرجيو ليوني في هذه التيمة مشهودة بدليل أن أفلام الويسترن التي أخرجها بقيت خالدة في ذاكرة عشاق السينما أكثر من بعض ما أخرجه كبار المخرجين الأمريكيين في هذه العينة أمثال جون فورد وفريد زينمان وجورج ستيفنزوهوارد هوكس وغيرهم .

هوليوود إنسانية أيضا وبريئة

عقب خروج الفيلم للقاعات، وصفت الناقدتان تريلبي بيريسفورد وكاتي كيلكيني في مقال مشترك صدر في مجلة “هوليوود ريبورتر” الفيلم بأنه رسالة حب منتارانتيو إلى لوس أنجليس الستينات “، ومن جانبنا نضيف بأن الفيلم رسالة حب إلى هوليوود نفسها . فرغم الطابع المتوحش لمدينة الأحلام التي تأكل أبنائها، سلط الفيلم الضوء على الجانب الإنساني في العلاقات الاجتماعية داخل عاصمة السينما من خلال علاقة النجم ببديله.

من المعلوم أن بديل المجازفات الخطيرة يكاد يقارب الكومبارس، هو في الغالب رياضي مفتول العضلات يتمتع بلياقة بدنية عالية تخوله انجاز الحركات الخطيرة بديلا عن النجم حتى لا يصاب الأخير بأذى فتتعطل مصالح المنتجين، وهو عادة ما يكون على الهامش في علاقته بالنجوم، إلا أنه في فيلمنا ارتبط بعلاقة حميمية مع النجم جعلته البديل والسائق والحارس الشخصي والمكلف بمختلف المهام جليلها وحقيرها، حين يتصدى بمعية كلبته بطريقة بطولية لعصابة الهيبيز دودا عن مشغله وزوجته، يسر له ريك في بوح مؤثر أنت صديق صالح يا كليف.

لم تحتل شخصية شارون تايت حيزا كبيرا في أحداث الفيلم، رغم أن العمل كله بني على مأساتها الشهيرة، وبسبب ما تعرضت له قدمها تارانتينو رمزا لبراءة مغتصبة، أبرزها الفيلم في صورة المرأة المقبلة على الحياة، تعيش على سجيتها، مهووسة بالموسيقى؛ نراها ترقص في اندماج تام في ملهى البلاي يوي، حين تذهب إلى السينما لمشاهدة أحد أفلامها تقدم نفسها بسذاجة بينة لعاملة الصندوق، ثم تختفي وراء نظارتها الشمسية لتستمتع بردود فعل الجمهور كطفلة بريئة.

تركيبة تارانتينو الخاصة

لعل أهم ما لفت الأنظار إلى الفيلم منذ أن كان مجرد مشروع في طور الانجاز هو الكاستينغ، إذ بجانب حضور جمع كبير من نجوم هوليوود، حظي الفيلم بترف الحصول على خدمات ممثلين من كبار نجوم الصف الأول هما ليوناردو دي كابيرووبراد بيت، وشهد الفيلم نزالا بينهما في الأداء التشخيصي، كما تناوبا على حمل الفيلم في توزيع ذكي للمواقف الدرامية من مخرج العمل، أمسك ليوناردو دي كابيرو بمفاتيح الشخصية التي يؤديها مقدما نموذجا جديدا يضاف إلى مساره كممثل ، إلا أن الذي أبهر هو براد بيت الذي نال العلامة الكاملة بشكل يجعله أحد أكبر المرشحين لنيل جائزة أوسكار أحسن ممثل مساعد هذا العام .

بدل الاكسسوريست وخبير الملابس مجهودا خلاقا، مكن الفيلم من نقل روح وأجواء نهاية الستينات بأمانة شديدة، ظهر ذلك من طراز السيارات وأثاث الديكور الداخلي والملابس بتصاميمها وألوانها وغيرها من الاكسسورات كحقائب السفر زاهية الألوان .

ينضح الفيلم بنوستالجيا ملفتة غدتها بصريا أجواء الستينيات وسماعا الخلفية الصوتية لأجمل مقطوعات الروك أند رول، وموضوعا الحمولة السينفيلية التي بدت من أعلام السينما وأبطالها وأفلام المرحلة.

على أن طريقة استقبال المشاهدين اختلفت باختلاف أجيالهم، فالذين عايشوا الفترة استمتعوا بكل لحظة في الفيلم كقطعة أثرية فنية من الماضي رغم كل العيوب والهنات التي قد تسجل على الفيلم، لكن الأجيال الجديدة لم تقاسمهم نفس متعة التلقي، فرغم اجتهاد رواد الأنترنت في التذكير والتعريف بكل موقف و كل شخصية حقيقية ظهرت في الفيلم، وجد كثير من الأجيال الجديدة في العمل فيلما رتيبا مترهلا يفتقر إلى التشويق، وهنا لابد أن نسجل أن الفيلم يفتقر إلى حبكة، فهو لا يحكي قصة، ولا يعتمد تسلسلا دراميا خطيا، وإنما اعتمد مجموعة من المشاهد واللوحات التي تزاوج بين التاريخ وخيال المخرج الجامح والمجنون، تقريبا غابت عناصر الإثارة والتشويق اللهم في الربع الساعة الأخيرة من الفيلم .

أراد تارانتينو أن يوصل قصته بشتى الوسائل ومهما اتفق، فنجده يستعمل كتابة أسماء الشخصيات التاريخية ويشير إلى بعضها عن طريق الإشارة بالأسهم، وفي مرحلة متقدمة من العمل أدخل أسلوب الراوي بشكل لا يتناسق مع الطريقة التي اعتمدها في القسم الأكبر من الفيلم لسرد قصته.

بجانب البطلين الرئيسييين اللذين هما شخصيتين من وحي الخيال، كان حضور شارون تايت – وهي شخصية حقيقية – مصطنعا، فشخصيتها لم تتطور دراميا على امتداد الأحداث، وإنما أدمجت لتأثيث المشهد مثل أي كومبارس، والداعي لكل ذلك استغلال قصتها في الأخير لإعطائها تصورا جديدا.

على عادته أراد تارانتينو أن يستفز خيال المشاهد بتقديم نهاية غير متوقعة ومخالفة للحقيقة التاريخية الثابتة، وقد اختلفت تبريرات نهجه، فمن قائل إنه كان وفيا لأسلوبه السابق في تغيير التاريخ، ومن قائل إنه أراد تقديم نهاية سعيدة مع ما كان يمكن أن يكون للنهاية التاريخية من تأثير سلبي على نجاح فيلم بمسحة نوستالجية، وذهب آخرون إلى أن الداعي هو أن المخرج لم يحصل على حقوق استغلال قصة الممثلة ، لكن كلما يمكننا أن نؤكده هنا هو أن الفنان ليس من وظيفته محاكاة التاريخ، وإنما يسوغ له تقديم نظرته لما كان يجب أن يحدث،وفي الأخير يبقى الفيلم السينمائي مجرد خيال فني ولايمكن بأي حال أن يتحول إلى كراسة لكتابة التاريخ .

Visited 89 times, 1 visit(s) today