حاوية في عرض البحر.. أنا مأزومة وآخر مثالي

Print Friendly, PDF & Email

في ديستوبيا كارثية تحمل ملامح الحياة المعاصرة يقدم المخرج الإسباني ألبرت بينتو فيلم “لا مكان” Nowhere المعروض على منصة نتفليكس تحت عنوان “حاوية في عرض البحر”. وكلا الترجمتين صحيح، فالأولى حرفية وتعبّر عن فقدان البوصلة والضياع الذي يصيب شخصيات الفيلم، وهو أيضا عنوان لأغنية شهيرة مصاحبة للفيلم، وإن كانت هذه الترجمة من شأنها أن تؤدي إلى الخلط بين الفيلم الإسباني إنتاج 2023، موضوع مقالنا، وبين الفيلم الكوميدي الأمريكي، الذي يحمل الاسم نفسه، وأخرجه وكتب القصة له جريج أراكي عام 1997. والترجمة الأخرى تعبّر عن مضمون الفيلم والعقدة الدرامية التي تدور حولها الأحداث، وهي وجود الشخصية الرئيسية محبوسة في حاوية شحن في عرض البحر.

تبدأ الأحداث بلقطات سريعة ومتلاحقة تصور أزمة في نقص الماء والغذاء تجتاح أوربا، ما يجعل الحكومة الإسبانية تقبض على النساء الحوامل والأطفال، الأمر الذي يدفع هؤلاء إلى الهجرة غير الشرعية من خلال حاويات للشحن تسافر فوق السفن إلى إيرلندا البلد الأكثر أمانا.

وكما هي عادة الدراما الإسبانية ينجح بينتو في تحقيق الإثارة منذ اللحظات الأولى للفيلم، ويظل محتفظا بها حتى اللحظات الأخيرة. وقد نجح السيناريو، الذي قام بصياغته خمسة من الكتاب، في أن ينسج مواقف درامية محكمة حول الحدث الرئيسي بحيث يبدأ الفيلم بمحاولات للفرار من الموت من قبل اللاجئين الهاربين إلى خارج البلاد، وينتهي بمشهد للبطلة في حالة إغماء بعد تعرضها للغرق ومحاولة إنقاذها على يد البعض عن طريق التنفس الصناعي، وبين مشهد البداية ومشهد النهاية تقع أحداث مثيرة تحبس الأنفاس، لامرأة حامل تلد داخل الحاوية، وتحاول النجاة بنفسها ومولودتها من هجوم الحيتان من الخارج ومن ارتفاع منسوب المياه داخل الحاوية الذي يهددهما بالغرق.

اعتمد السيناريو على قصة رومانسية بين الزوجين ميا (آن كاستيلو) ونيكو (تمار نوفاس)، اللذين فقدا طفلتهما الأولى في أحداث سابقة على بداية الفيلم، وقررا الهجرة غير الشرعية عبر البحر في حاويات معدة لذلك، يوفرها البعض لقاء مبالغ كبيرة من المال.

لكن حبكة الفيلم المثيرة تحتم أن يفترق الزوجان قسريا بحيث يختبئ كل منهما في حاوية مختلفة، وتمضي كاميرا بينتو مع حاوية ميا لنتابع الحوادث المروعة التي ستلقاها في رحلتها الطويلة نحو النجاة، بينما يختفي نيكو من المشهد تماما، ولا نجد له حضورا إلا من خلال صوته المسجل على الموبايل والمكالمتين اللتين تحدث من خلالهما إلى ميا، واحدة وعدها فيها بأنه قادم كي ينقذها، والأخرى اعتذر فيها عن عدم قدرته على إنقاذها، لأنه حاول الهرب فأصيب برصاصة من السلطات.

وتبدأ رحلة ميا المأساوية من خلال واقعتين كارثيتين، الأولى عندما تقوم السلطات بتفتيش الحاوية وقتل كل اللاجئين بوحشية أمام عينيها، بينما تنجو هي بأعجوبة، والثانية عندما تسقط الحاوية من فوق السفينة في عرض البحر في ليلة ظلماء عاصفة. وعندما تنظر من أحد الثقوب الموجودة بالحاوية وترى الأجواء المظلمة ومشهد البحر المخيف، الذي يمتد إلى ما لا نهاية، يدرك المشاهد أنها صارت داخل تابوت تنتظر الموت أو أنها داخل رحم تنتظر الولادة من جديد.

لا تيأس ميا، وتختار طريق النجاة، فتبحث في الحاوية عن أي إمدادات تركها اللاجئون الذين فارقوا الحياة وتركوها وحيدة تواجه مصيرا مظلما، وبالرغم من أنها لم تجد الإمدادات الكافية، إلا أنها تنجح في استخدام كل الأشياء الموجودة في الحاوية وتبدأ في بناء عالم صغير، مثل روبنسون كروزو، يمكنها من مواصلة الحياة، لكن التحدي كان أكبر وإمكانيات العيش أقل، نظرا لضيق المساحة وندرة الموارد، بالإضافة إلى حركة الحاوية الفوضوية، التي تشبه عود ثقاب تتلاعب به الأمواج.

وضحت مهارة ميا الكشافية، التي تذكرنا بماكجيفر، حيث نجحت في استغلال كل الأشياء المتواضعة، الموجودة داخل الحاوية، وتحويلها إلى أدوات مساعدة للبقاء على قيد الحياة أطول مدة ممكنة.

قمة الإثارة تتحقق في المشهد الذي تشعر فيه ميا بآلام الولادة في الوقت الذي يرتفع فيه منسوب المياه في الحاوية إلى مستويات مرتفعة تهدد بالغرق، وفيه نري أداء قويا لكاستيلو وهي تجسد لحظة فارقة في حياة امرأة حامل، تصارع الموت بمنح العالم المتداعي هبة أخرى من الحياة. كما نجد مؤثرات بصرية خاصة تدفعنا للتعاطف مع موقف إنساني فريد من نوعه. امرأة تلد داخل حاوية تجرفها المياه في عرض البحر!

بالرغم من الإثارة الكبيرة التي نجح كتاب السيناريو الخمسة في صنعها، لكن الوقوف بالفيلم عند حدود النوع التشويقي المثير من شأنه أن يضيّع على المشاهد الفرصة لاستخلاص معان أكبر، والوصول إلى دلالات أعمق.

نحن في حاجة إلى مغامرة لا تقل إثارة عن مغامرة ميا نحو النجاة، فكما استطاعت أن تصوغ عالمها الجديد من خلال مفردات قليلة ومتواضعة، يمكن للناقد أن يقبل التحدي نفسه، ويعمل على صياغة بناء فكريا متماسكا من خلال الشتات الذي فرّق شخصيات الفيلم، والفوضى الذي أحدثها سقوط الحاوية في البحر بحيث تمضي الأحداث كيفما اتفق.

وعلى ذلك، لن نجد أنسب من فكرة الآخر كأساس لربط مفردات الفيلم المتفرقة، من أجل إضفاء المعنى على الأحداث التي لا ينبغي أن تمنعنا سخونتها من التوقف عندها.

تعتمد أفلام النجاة، التي تدور حول شخص واحد، على علاقة البطل بمفردات العالم المحيط به، ويستمد قوته من الطبيعة ومخلوقاتها، أي من الآخر، كما في نموذج روبنسون كروزو، أو من الآخر العالق في الأزمة ذاتها كما في أفلام المطارات والكوارث الطبيعية.

لكن “ميا” تواجه الأزمة بمفردها، وفي وحدة قاتلة، لذلك كانت واقعة الولادة لا تمثل أزمة كما بدا من الوهلة الأولى، وإنما كانت ميلادا لآخر يشارك ميا وحدتها، ويعينها على تجاوز محنتها. نعم، لم تكن “نوا” الطفلة الوليدة مجرد عبء أضيف لمجموعة أعباء ميا، بل كانت بمثابة الأمل في الحياة من جديد، فبكاء “نوا” المتواصل، والذي بدأ مزعجا لميا في البداية، كان إعلانا عن وجود آخر في حاوية الموت، أي أن ميا لم تعد وحيدة، لأن ثمة أنفاس باتت تتردد بجوارها، وعلى ذلك بدأت ميا في لعب دور الأم لو كما كانت تحيا في ظروف طبيعية.

ومن المشاهد البديعة برزت قدرتها على إعداد مكان للنوم، ومكان للأكل من خلال صناديق تعلو سطح المياه الآخذ في الارتفاع، كما استطاعت أن تحدث فتحة في سقف الحاوية بوحي من علبة السلمون، وأن تخرج إلى السطح، وأن تصنع شبكة لصيد الأسماك، وأن تشعل النيران باستخدام زجاجات الكحل لتضيء المكان وتشيع فيه قدرا من الدفء، بل إنها استطاعت أن تصنع قاربا للنجاة بقطعة من الخشب ومجموعة من العلب البلاستيكية الفارغة.

إن الحياة الطبيعية لميا وطفلتها جعلت الأيام تمضي سريعا بالرغم من صعوبة التحديات واستمرار منسوب المياه في الارتفاع. لكن ميا لم تيأس وظل الآخر حاضرا معها، حتى في وقت نوم نوا. فالآخر عند ميا تحول إلى معني ومثال تستدعيه على مستوى الوعي حتى لو لم يكن حاضرا على الحقيقة، تحقق هذا في زوجها نيكو الذي كانت تحدثه على الهاتف المحمول، كما تحقق من خلال الحلم عندما التقت ابنتها المفقودة في المنام، وعلى مستوى الذكريات عندما كانت تعلق صور زوجها وابنتها أمامها فوق أحد الحبال. ليس هذا فحسب، بل كانت تعيد تأمل صورها الشخصية مع الآخرين وكأنها هي نفسها انقسمت إلى أنا وآخر، بحيث تستطيع أن تسلي وحدتها.

لم تكن الطبيعة دائما قاسية على ميا وطفلتها، فبالرغم من أن هجوم الحيتان كاد يودي بحياتهما، إلا إن النوارس التي تجمعت في الأفق فوق قارب نجاتهما كانت سببا في عثور بعض الصيادين عليهما. ولتظل رسالة الفيلم، ضمن رسائل أخرى عديدة، أن الآخر ليس مجرد حضور جسدي ولكن معني يستدعيه الإنسان كلما شعر بالوحدة، أو حاصرته أسباب الفناء.

Visited 2 times, 1 visit(s) today