“جوجو أرنب”.. فنُّ الدعاية اليهوديَّة
ستتردَّدُ بعض الشيء حين مشاهدتك فيلم “جوجو أرنب” Jojo Rabbit ثمَّ سيتلاشى عنك التردُّد شيئًا فشيئًا؛ لتقرر مُطمئنًّا أنَّه ليس فيلمًا سينمائيًّا بقدر ما هو شريط دعائيّ يتخذ كل فنون الدعاية ليلوِّن بها صورة قاتمة ويظهرها تمامًا كما تظهر المنتجات في التلفاز؛ ملونةً طازجةً وفاتنةً.
أمَّا المُنتَج المُعلن عنه فهو اليهود، أو الصورة اليهوديَّة. هذا ليس حُكمًا ظالمًا، أو مُتخذًا موقفًا لا يصحُّ النقد به. فالفيلم اتبع قواعد الإعلان وفنون الدعاية منهاجًا صريحًا له. فاختار سياقًا يستطيع أن يبرز فيه مُنتجه، ثم عرض الأفكار المُضادة الشائعة عنه، ثم بدأ بنقضها، ثم رسم لنا صورة المُنتَج كما تظهر صورة الأطعمة في الإعلانات تمامًا. ليس هذا فقط؛ بل استخدم كلَّ الفنيات الإعلانيَّة أيضًا. فتعالوا لنتعلَّم معًا فنون الدعاية اليهوديَّة.
فيلم “جوجو أرنب” من إنتاج استوديو “فوكس” الفرعيّ. خرج لنا في شهر سبتمبر 2019. من تأليف وإخراج تايكا واتيتي، استنادًا على رواية أمريكيَّة صدرت عام 2008 تحت عنوان “Caging Skies“، ومن بطولة الطفل “رومان جريفن دافيس”، والفتاة اليهوديَّة توماسين ماكينزي، وسكارليت جوهانسون، وسام روكويل، وريبيل ولسون، والمخرج نفسه في دور “خيال أدولف هتلر”. الفيلم منخفض التكلفة حيث تكلَّف 14 مليون دولار، وجمع ما يقارب 55 مليونًا. وهو من تصنيف كوميدي- درامي. ترشَّح للأوسكار، وفاز بأفضل سيناريو مقتبس.
الفيلم يدور في حقبة الحرب العالميَّة الثانية، في ألمانيا وقت حُكم الزعيم النازيّ الشهير أودلف هتلر. هنا نجد “جوهانس تسلر” أو “جوجو” وهو طفل ألمانيّ في العاشرة. مُتعصِّب على ما رُبِّي عليه؛ وهو عشق النازيَّة وزعيمها، وأيضًا الكُره البالغ للعنصر اليهوديّ. من كثرة ولعه بالنازيَّة أنشأ خيالُهُ شخصَ “هتلر” نفسه ليصاحبه دومًا؛ في عمليَّة “تجسيد” للضمير النازيّ.
يذهب “جوجو” إلى معسكرات التدريب الألمانيَّة مع زملائه. وهناك يتعلَّم بعض الأمور عن الحرب، وفنون القتال، كما يتعلَّم أشياء كثيرة عن اليهود حسل الدعاية النازية، أي أنهم قوم يشبهون الحيوانات لا الإنسان، لهم مخالب، وحراشف، وذيول، وغيرها من الأوصاف القبيحة. لكنَّ “جوجو” طفل بريء يخاف، وفي إحدى المرَّات يتسبب له الخوف بإلصاق صفة الجبن به؛ ليصير “جوجو أرنب”.
“جوجو” الذي يعشق كل هذه المبادئ، ولا يرى غيرها في حياته يكتشف في يوم من الأيام وجود فتاة يهوديَّة مُختبئة في بيته، يحاول الصدام معها في أول الأمر لكنه لا ينجح. فلا يجد حلاً إلا أنْ يعقد معها صفقة أن تعيش في بيته على أنْ تخبره عن جنسها “اليهودي”، وتصف له حياة اليهود وكل ما يتعلق بهم ليدوِّنها في كتاب يُعدّه عنهم. وتتوالى الأحداث لتكشف مزيدًا عن علاقة “جوجو” بأمِّه، وعلاقة “جوجو” بالفتاة اليهوديَّة. فماذا سيحدث؟
والآن كيف كان الفيلم إعلانًا ترويجيًّا لليهود؟ الإجابة يمكن تلخيصها في رصد قواعد الترويج والإعلان التالية من الفيلم:
“اخترْ سياق دعايتك بعناية”. وقد اختار الفيلم سياقًا هو الأفضل ليكون محلاً للفيلم. فطالما صدَّع اليهود رءوس العالم أجمع بمأساتهم مع النازيَّة، وكيف أنَّهم أُحرقوا في محرقة اليهود العُظمى هناك، وكيف فُعل بهم ما لمْ يفعل في التاريخ. وقد نجحوا في ابتزازهم الفجّ حتى أن ألمانيا تدفع لهم تعويضات حتى اليوم. وبالقطع هذا أفضل سياقات اليهود التسويقيَّة وصُنع فيلم فيها قد يكون أفضل الأجواء لخلق التعاطف معهم.
“اعرض مدى سوء معاملة الناس لك لخلق التعاطف” لسبب بسيط أنَّ النفس الإنسانيَّة تكون أشدَّ قبولاً للجانب الضعيف، أو المُستضعف. ولمْ يقصِّرْ الفيلم في هذا الجانب؛ فعرض مدى بشاعة الألمان ومدى ما سوء ما اعتقدوه عن اليهود، وكيف أنَّهم قتلوا وذبحوا كل اليهود حتى لمْ يبقَ منهم إلا أفراد هاربون، وكيف يفتِّشون عن اليهود في البيوت كأنَّهم فئران تفتش عنهم وزارة الصحَّة كي لا ينقلوا الأمراض. وكثير جدًّا من هذا ستجده في الفيلم.
“أظهرْ العدو أو مُنافسك بصورة غير لائقة”. والفيلم اعتمد في كل ما قدَّمه من كوميديا على إظهار، بل قلْ إلحاق العته والاختلال العقليّ والنفسيّ بالألمان -وبكل مَن لا يعتقد أن اليهود هم الأفضل شأنًا-
“اقلبْ كلَّ عيوبك مميِّزاتٍ بأسلوب شاعريّ”. وهذا ما تلجأ إليه الدعايات في إعلاناتها وحملاتها، وهذا ما لجأ إليه اليهود في الفيلم. فمثلاً علمْنا -على حين غِرَّة، وعلى لسان الفتاة- أنَّهم حقًّا كائنات غريبة عن البشر -كما يقول غيرهم عنهم- لأنَّهم شعب الله المُختار، وأنَّهم لا يتحدثون بألسنتهم؛ وذلك لأنَّهم يتخاطبون بعقولهم من غير احتياج لكلام الشفاه، وأنَّهم قليلو الكلام لأنَّ لغتهم هي الغِناء والزقزقة، والأشدّ نكالاً ووطأةً أنَّهم يحبُّون الذهب والألماس والنقود حقًّا ويتهافتون عليها -وهذه حقيقة تاريخيَّة ثابتة حيث احتكر اليهود التجارة والعُملات واشتغلوا بالرِّبا طوال الزمان- لكنَّ الفيلم رفع عنَّا غطاء الوهم الذي اعتقدناه؛ ليُعلمنا أنَّهم ما فعلوا ذلك إلا لحُبِّهم للجمال والتألُّق الذي في الذهب والألماس!! ولا يعلم إلا المخرج -لأنَّه المؤلف- ماذا كان سيكشف الفيلم أيضًا من حقائق علميَّة غابت عنا لو استمرَّ الحديث.
“أعلن انتصارك” وصُوِّر هذا في مشهد حاول فيه “جوجو” التعالي على الفتاة. فأمسكتْ بخناقه وقالت له صراحةً: ليس هناك يهود ضعفاء، وأنَّهم نسل مَن صارعوا الملائكة، وقتلوا العمالقة، وأنَّهم المُختارون من الربّ. ثم ألقتْ به على السرير. واختار المخرج التصوير من الزاوية السُفلى ليُظهر “جوجو” (النازيَّة ومُخالفي اليهود) مُلقًى على السرير، وهي عملاق وراءه ومن خلفها يأتي ضوء النافذة يشعُّ نورًا وهيبةً تذكيرًا بمشاهد الكتاب المُقدِّس اليهوديّ. وأنوِّه إلى أن كل ما ذُكر في الفيلم من تلميحات هي حوادث تاريخيَّة شهيرة في الكتاب المُقدس اليهوديّ.
اعتمد المخرج طوال الفيلم على عنصر رئيس متعلِّق بألوان الفيلم. ما يُسمَّى بـ”التشبُّع اللونيّ”. فقد استخدم الفيلم تشبيع الألوان (أيْ زيادة حدِّتها على الحيِّز الطبيعيّ). وهذا يستخدم عامةً لأهداف كثيرة. لكنَّه في فيلمنا غرضه إشاعة جو المرح العامّ الذي يشعر المشاهد أنَّه سعيد بهذه الألوان المغايرة للدرجات التي يراها في الحقيقة (وتفعل هذه الحيلة كثير من شركات إنتاج الهواتف والبرمجيَّات). وبهذا يكون المُتلقِّي -أو قلْ المُستهلك- مستعدًا لما سنقول، قابلاً له. ومن أدواته أيضًا استخدامه للأغاني؛ ففي الفيلم ثلاث أغانٍ وفي أوَّله أغنية مرحة للغاية، ولطيفة تصاحب مشاهد مُبهجة من براءة الطفولة والكوميديا.
أمَّا عن الحصان الرابح في الحملة الدعائيَّة هي قاعدة ذهبيَّة في التسويق تقول: “لا تُشعرْ المستهلك أنَّك تسوِّق لمنتج، بلْ قدِّمه له كحقيقة ومن حيث لا يدري”. وطبَّق الفيلم هذا بإغراق المشاهد بالكوميديا من كل حدب وصوب. كوميديا بكل أنواعها وأشكالها، كان مُوفَّقًا في كثير منها.
لكنَّ الكوميديا الأشدّ ذكاءً التي اعتمد عليها هو تقديم شخصيَّات كرتونيَّة (وتعني خروج الشخصيَّة عن الإطار الطبيعيّ المعتاد بإعطائها أبعاد فكريَّة، أو صفات أخلاقيَّة وسلوكيَّة غريبة) وغالب هذا الأسلوب يُستخدم في الأعمال الكوميديَّة بخلق شخصيَّة ما وإدخال صفات زائدة عن الحدّ مما يخرجها من حيِّز “الشخصيَّة الطبيعيَّة” إلى حيِّز “الشخصيَّة الكرتونيَّة”. لكنَّ الفيلم انتقل من الشخصيَّة الكرتونيَّة إلى الأجواء الكرتونيَّة، أو خلق جو عامّ كرتونيّ لصنع مزيد من الكوميديا، لضمان الإساءة التامَّة لـ”النازيَّة”. وسترى هذه الأجواء في كل ما يتعلَّق بالجهاز الإداريّ للنازيَّة.
وبالعموم تستطيع أنّ تشبِّه الفيلم بمباراة في “التفوق على البشر”؛ حيث كلا النازيَّة واليهود اعتقدا هذا الوهم. لكنَّ الفيلم قرَّر أن ينتصر لتفوق اليهودي على نظيره النازيّ. والغريب أنَّ المقارنة التي تحوَّلتْ من التلميح إلى التصريح في حوار بين الفتاة والولد الصغير كانت مقارنةً على أساس مُختلف؛ حيث كانت هي تذكر أعلام اليهود -وهي ديانة-، وهو يذكر أعلام “ألمانيا” -وهي دولة-. ويرتفع عنك العجب حينما تعلم أنَّ اليهود -مهما تجنَّسوا بجنسيَّات مختلفة- يظنون أنَّهم من جنس وعرق مُوحَّدين. وذلك لأنَّ “التوراة” -كتاب اليهود المُقدَّس يسمُّونه “تناخ” يتكوَّن من التوراة وأسفار غيرها- وعدتْهم بالأرض قائلةً: “لنَسلِكَ أُعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفُرات” (سفر التكوين 15). لهذا فاليهود كتلة ونسل في المقام الأوَّل وديانة في المقام الثاني.
وبالقطع ارتكب الفيلم أخطاءً بعضها بسيط مثل “مكياج” جُرُوح وجه “جوجو” الذي يتغير بين مشهد ومشهد، وكذلك عدم المطابقة أو ما يُسمّى بـ”أخطاء الرَّاكُور” -أيْ الثابت بين المشاهد وفي المشهد الواحد- كل هذا أمور عاديَّة. لكنَّ الخطأ الأبرز أنَّه لمْ يستطعْ أن يُخفي كون الفيلم حملة إعلانيَّة مُمنهجة. فالفيلم لمْ يُعطِ نقطة امتياز واحدة للجانب الألمانيّ، وطوال الفيلم هناك جانب يُسدِّد اللكمات للآخر بلا أيَّة ردَّة فعل، بل أظهر دومًا الألمان؛ وكأنَّهم مجموعة مجانين. والغريب أنَّه لمْ يرَ أيَّ مُبرر لحركة تقول إنها أسمى البشر على أساس الصفات البشريَّة، والانتماء للديانة المسيحيَّة؛ بالرغم من أنَّه قدَّم الطرف الآخر وتفوقه وكأنَّه مُسلَّمة الكلّ مُتفق عليها، لكنَّ العداء لليهود والحقد عليهم هو ما يدعو الآخرين لإخفائها!! لهذا فالفيلم فشل في إخفاء إعلانه، وأظنُّه لن يزيد صورة اليهود به إلا سوءًا.