جان كوكتو شاعر الحداثة السينمائية

Print Friendly, PDF & Email

ولد الروائي والمسرحي والمخرج السينمائي والشاعر والرسام الفرنسي “جان كوكتو” عام 1889 أي قبل إختراع “السينما”، وتوفي بعد ظهور حركة الموجة الجديدة الفرنسية عام 1963. وكان كوكتو يروي عن علاقته الأولى بالسينما وكيف أنه شاهد وهو طفل صغير، الأفلام الأولى التي صورها الأخوان لوميير.

في عام 1923 قال كوكتو: “أنا لا شأن لي بالسينما فقد وجهت طاقتي وجهة أخرى، وأود أن أكرس نفسي تماما لما اخترت أن افعله”. وبعد أن أخرج فيلمه الأول “دم شاعر” عام 1930 ظل يكرر كثيرا أنه لا يعتبر نفسه مخرجا سينمائيا بل مخرجا “مزيفا”، موضحا أن إخراج الأفلام ليس “صنعته” إلا أنه يستخدم الوسيط السينمائي، أي الفيلم، كأداة للتعبير عما يكمن في الشعر والأدب والمسرح والكتابات الإبداعية.

جان كوكتو: فنان الفيلم

وقد ظل لنحو عقدين من الزمان، أي لعشرين عاما كاملة، خاملا في نشاطه السينمائي وعلاقته بهذا الفن الذي كان قد أصبح له تأثير سحري كبيرعلى الجمهور يفوق تأثير المسرح الذي كان كوكتو يهب له الكثير من نفسه ووقته وجهده. لكنه عاد فنشط كثيرا واقترب أكثر من عالم السينما في الفترة بين 1942 و1952 أي خلال سنوات القلق والتقلبات السياسية. وقد أخرج خلال تلك السنوات العشر سبعة أفلام أهمها بالطبع “الحسناء والوحش” (1946)، “النسر ذو الرأسين” (1948) و”أورفيوس” (1950). ولم يخرج بعد ذلك سوى فيلمين أحدهما فيلم تجريبي، والثاني “شهادة شاعر” عام 1960 الذي كان آخر أفلامه.

يعتبر البعض كوكتو “عراب” الموجة الجديدة الفرنسية في تمرده على تقاليد سينما المسرح المصور التي كانت سائدة آنذاك، ففيلمه الأول “دم شاعر” يبدو حتى بمقاييس اليوم عملا طليعيا وبصريا مدهشا، فهو يستخدم أسلوبا يضفي غموضاعلى الصورة وعلى تفاصيل اللقطة مما يجعلنا نشعر أننا نشاهد حلما سيرياليا عجيبا تختلط فيه ذات الفنان الذي يقف وراء الكاميرا بعالمه الخاص، الشخصي جدا، عالم الأسرار الدفينة، المكبوتة.

خيال كوكتو

كان كوكتو، الذي لا يحب أبدا أن يوضع ضمن فئة السيرياليين الفرنسيين، ينقل الفيلم الروائي من مجال رواية قصة بسيطة، إلى عالم الصور التي تتدفق، ليس طبقا لمنطق خاص في السرد، بل للتداعيات التي تقفز في ذهن صانع الفيلم أي كوكتو نفسه، وتعبر عن رغباته المكبوتة وعنفه الكامن.

يقدم كوكتو إعترافا خطيرا حينما يقول عام 1935 “إن قوة نزيف الدم غريبة. المرء يشعر بأن تلك النيران الكامنة في داخله تحاول أن تجد نفسها في الدم. إنني أتقزز من رؤية الدم.. ورغم ذلك فقد أطلقت على فيلمي “دم شاعر”، وصورت الدم فيه مرات عدة، وجعلت تيمة أوديب التي كررت إستخدامها، ملطخة بالدم”.

ويعتقد هنري لانجلوا (مؤسس السينماتيك الفرنسية.. ذلك الرجل الأسطوري الذي كان مولعا بجمع الأفلام) أن كوكتو كان سينمائيا قبل أن يخرج المشهد الأول في فيلمه الأول.

يقول لانجلوا “لقد التقى كوكتو بالسينما في طفولته، وجاء ميلييس قبل مينيرفا وفتح أمامه المرآة”. وعندما يستخدم لانجلوا هنا تعبير “فتح المرآة” فإنه يشير إلى الهاجس الرئيسي الذي يسيطر على كوكتو في فيلم “دم شاعر”، فهو يصور المرآة كمرادف للبوابة التي يدلف منها الإنسان (أو الروح) بعد الموت إلى ذلك العالم الآخر. لكن بطله (الذي يمثل نفسه بالطبع) يذهب ليمر بتجارب غريبة ويلتقي بشخصيات قاسية بعضها يقتل والبعض الآخر ينتحر ثم يعود عبر المرآة إلى الحياة لكي يحطم التمثال الذي صنعه الفنان، وكان هوالذي أوحى له بالنفاذ عبر المرآة!

من فيلم “دم شاعر”

ويكتب كوكتو في ” الفيجارو” عام 1930 بعد ظهور فيلمه الأول “دم شاعر”: “إن “دم شاعر” يمكن اعتباره طبقا لمفهوم شابلن للعالم فيلما تسجيليا واقعيا عن أحداث غير حقيقية. إن الأسلوب أكثر أهمية من الموضوع، وأسلوب تعاقب الصور يسمح لكل شخص بأن يرى في الفيلم ما يناسبه ويقرأ رموزه كما يشاء، لأن فرويد كان على صواب عندما قال في تقديمه لـ”المقامر” إن الفنان ليس في حاجة إلى التفكير في أشياء محددة تصبح بالتالي أساسية في عمله”.

وفي عام 1948 يكتب جان كوكتو “في وقت مضى حظى فيلمي الأول “دم شاعر” بشرف أن يقوم سيجموند فرويد بتحليله نفسيا. وبعد أن أعدت قراءة المقالة التي كتبها فرويد عن الفيلم أرى أن هذا هو الشكل الوحيد للنقد. وحقا فأي كان ما يضعه المرء في فيلمه، سواء من ظلاله وأحزانه وشره ، أو يمعنى ما، الشعر الذي نضعه في فيلم ما، أمر لا يخصنا بل ينبغي أن يكتشفه أولئك الذين يمكنهم الحكم علينا”.

يرى بعض الباحثين في تاريخ كوكتو أنه كان مراوغا بالنسبة لعزوفه لنحو عشرين عاما عن التعامل مع الفن السينمائي، فبعضهم يرى انه ربما كان يخشى من تكرار التجربة بعد رد الفعل العنيف الذي قوبل به فيلم “دم شاعر” بعد أن سرت إشاعات بأن الفيلم “معادي للمسيحية”، وهددت الكنيسة الكاثوليكية بطرد منتجه خارج الكنيسة ، وتأخر عرض الفيلم عاما كاملا بسبب هذه الضجة المفتعلة التي ربما تكون إمتدادا لما قوبل به فيلم “العصر الذهبي” للويس بونويل من غضب لأسباب مشابهة.

الخيال الشعري

عودة كوكتو الحقيقية إلى السينما جاءت بفيلم “الحسناء والوحش” (1946) الذي اقتبسه من قصة للأطفال للكاتبة الفرنسية مدام لوبرينس دوبومو، وفيه يبلغ كوكتو مستوى رفيعا في التعبير حيث يمزج أجواء الأسطورة بالخيال الشعري بالخدع السينمائية بل وبطريقته الخاصة في الكتابة على الشاشة في مطلع الفيلم، مستوحيا طريقة كتابة الأطفال.

عندما تدخل الحسناء للمرة الأولى إلى قصر الوحش، ننتقل عبر المونتاج إلى لقطات لمجموعة من الشمعدانات تشتعل الواحدة وراء الأخرى من تلقاء نفسها لتضيء الطريق للأميرة الصغيرة.

من فيلم “الحسناء والوحش”

إنه يتخلى هنا كثيرا عن جماليات فيلمه الأول “دم شاعر” الذي يعتبر قريبا من عالم التجريب فلم يكن في الحقيقة يهتم فيه كثيرا بالبناء الدرامي ولكن دون أن يغفل أيضا مفرداته الخاصة: استخدام المرايا، الأبواب، الخيول، المجوهرات والحلي، وكلها أشياء قريبة من نفس كوكتو ومن عالمه الشعري. ونجح في المزج بين البناء القصصي الذي يعود إلى المؤلف، بطريقته الخاصة في ابتكار الخدع عن طريق الكاميرا والمونتاج، مع ما يبدعه خياله الخاص البصري الذي تعلم منه كثيرا أطفال الموجة الجديدة التي لم تولد بالطبع إلا في أواخر الخمسينيات مع ظهور فيلم جان لوك جودار “على آخر نفس”.

يعبر كوكتو عن سعادته بتلقيه رسالة من المخرج آلان رينيه، أحد الرواد الأوائل لحركة الموجة الجديدة، يقول له فيها “ياله من درس ذلك الذي علمتنا إياه.. درس التحرر الذي تعلمناه منك جميعا”. ويعلق بقوله: “إنني فخور بهذا التعليق.. لاشك إنه التحرر الذي يعتبره نقادنا نوعا من الطفولية. هل يعرف هؤلاء النقاد كيف يمكنهم السير برشاقة وخفة على سطح المياه العميقة؟ هل يعرفون ما الذي يتعين على القاضي أن يعرفه أولا قبل أن يصدر حكمه؟

يقول كوكتو إن صحفيا أجهده كثيرا بالأسئلة ثم وجه له السؤال التالي: إلى أين يأخذك بطل فيلمك “شهادة أورفيوس” في النهاية؟ ويضيف: كان يتعين علي أن أجيبه بالقول: لقد أخذني إلى حيث لا توجد أنت!

ويختتم كوكتو مقاله بالقول: إلا أن ذلك الرحيل لا يعني الموت. لأنني أترك هذا العالم لكي أنتقل الى عالم آخر، وأود لو أستطيع أن أردد وأنا أغادره ما صاح به أحد النظارة في مسرح “تياتر دا أفينيو” ذات يوم: “أنا لم أفهم شيئا.. أريد إستعادة نقودي”!

مصادر المقال:

  • كتاب “فن السينما”- بالإنجليزية (مجموعة مقالات لجان كوكتو) ترجمة روبين بوس .
  • جان كوكتو (ذكريات)  تأليف: باتريك موريس.
  • الذين عاصروني- تأليف: جان كوكتو
Visited 59 times, 1 visit(s) today