ثلاثة أفلام من مهرجان كان 2025
أمير العمري
كان أو فيلم لفت نظري بقوة من أفلام مسابقة مهرجان كان الـ78، وعرض مباشرة بعد فيلم الافتتاح الذي مر مرور الكرام كمعظم أفلام الافتتاح، هو الفيلم الألماني “صوت السقوط” وهو الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرجة الألمانية ماشا شلينسكي.
هذا فيلم من أفلام الفن التي لا تسير في مسار تقليدي، بل يعتمد على قدرة المشاهد المدرب الصبور، على تجميع الشذرات واللقطات المتنافرة القصيرة التي تنتقل في مونتاج سريع نسبيا، من جيل إلى جيل، ومن فتاة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن آخر، بين أربع فتيات، ينتمين إلى نفس المكان الريفي في الريف الألماني، ونفس العائلة، ولكن مصائرهن تختلف لكنها تتفق أيضا.
ورغم تعدد الأزمنة وهو أسلوب معروف في الفن، وفي السينما بوجه خاص، إلا أن الفيلم لا يشبه غيره من أفلام الأزمنة المتعددة، بل يعتمد على الانتقال الحر السريع والتداخل في السرد، منتقلا من بداية القرن العشرين إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم إلى الثمانينات في ألمانيا الشرقية تحت الحكم الشيوعي، ثم إلى وقتنا الحالي. أي من العصر الإقطاعي في الريف بقيمه المتشددة، والهيمنة الذكورية البطريركية، إلى عصر ما بعد الدمار وبداية العمل من أجل إعادة البناء ثم تحت الهيمنة الشيوعية، وصولا الى عصرنا الحالي، تختلف الأزمنة وتتقاطع لكنها تتفق في تأثيرها الكبير، والقاسي، على الفتاة/ الأنثى/ المرأة. وتمر شخصيات الفتيات الأربع عبر كثير من المأسي العنيفة، ما بين الانتحار والاغتصاب والفقدان والعجز عن الحب.
الفيلم مصور طبقا للمنسوب الأكاديمي أي 1.33 إلى 1، أي أننا نشاهد ما يجري عبر ساعتين ونصف من خلال صندوق ضيق، يحبس الشخصيات داخل سجن خانق، وكأننا نتلصص على الماضي ومساراته وصولا إلى الحاضر، ولكن ليس من خلال سرد صاعد بل سرد أفقي متعرج، يصعد ويهبط، لا يغادر المكان كثيرا سوى لتصوير البيئة الخارجية المحيطة في المنطقة الريفية البديعة التي يقع فيها البيت الكبير، وكأنه بيت الأشباح، وفي الفيلم كثير من أشباح الماضي التي تجثم على الحاضر، أو أشباح النفس التي تطارد البطلات الصغيرات.

“صوت السقوط” عمل تجريبي جريء وطموح، بصورته الضبابية التي تجعل هناك مساحة ذهنية بين الشاشة والمشاهدين، لكن بسبب التكرار، والولع بالتغريب أكثر مما ينبغي، لا يصل الفيلم إلى الشعر المنشود.
الفيلم الثاني المثير للاهتمام من بين أفلام المسابقة، هو الفيلم الاسباني “الصراط” Sirat للمخرج أوليفر لاكس. إنه يروي قصة ولا يروي شيئا، أي أنه يبدأ في الحقيقة من سعي رجل تجاوز منتصف العمر هو “لويس” الذي يرحل مع ابنه الصغير “استبان” إلى الصحراء المغربية للبحث عن ابنته المراهقة التي اختفت منذ خمسة أشهر. وخلال بحثه الشاق في الصحراء ينضم إلى مجموعة من خمسة أشخاص من “الهيبيز” الجدد- إذا جاز التعبير، ينطلقون في حافلتين قديمتين مليئتين بالطعام والماء وأشياء أخرى ضرورية، يريدون التوجه في الصحراء للوصول إلى حفل موسيقي راقص كبير يقام في مكان مجهول، بعد أن يشاركوا في حفل كبير في الصحراء ثم تبدأ المطاردة مع الشرطة المغربية التي تحذر الجميع من التقدم في عمق الصحراء خشية وقوع كارثة.
إلا أن الواضح من البداية، في هذا الفيلم المستقبلي الذي لا يتحدد زمنه بالضبط، أن الكارثة قد وقعت بالفعل، وأن هؤلاء الأشخاص أو أشباه وبقايا البشر، يعيشون في عالم ما بعد الكارثة يحاولون النجاة من الاندثار عن طريق الإغراق في الموسيقى الصاخبة والرقص المجنون. ولكن هل ينجحون؟

“صراط” فيلم من أفلام الطريق، وخلال الرحلة العبثية المجنونة في قلب الصحراء الشاسعة بمناظرها التي تحسد ضآلة الإنسان وسط الطبيعة، تقع مفاجآت كثيرة بحيث يتوارى موضوع البحث عن الابنة الضائعة ليحل محله مواجهة القدر العاتي وهنا تبرز موضوعة الموت وفكرة النجاة المستحيلة وأيضا، الرهان على القدر.
إلا أن أكثر ما يميز الفيلم إلى جانب موضوعه الوجودي التأملي، هو أسلوبه البصري المثير: اللقطات الواسعة للطبيعة، والإنسان التي يصبح ألعوبة في أيدي الطبيعة ثم ما يختبيء في جوف الصحراء من ألغاز لا يمكن أن يتكهن بها الإنسان. ومع الاهتمام الكبير بالتكوين ومواصفات الصورة وتصوير الحركة الدائمة للحافلات قبل المشهد ما قبل النهائي الذي ينقل الفيلم إلى مستوى آخر، يبرز كثيرا شريط الصوت، بما يضمه من أغانٍ وموسيقى صاخبة تصبح كما لو كانت تدفع الشخصيات نحو مصائرها.
هذا بالطبع فيلم للرؤية فقط وليس للحكي أو للتلخيص.
الفيلم الثالث هو فيلم “شاعر” Un Poeta للمخرج الكولومبي سيمون ميسا سوتو، الذي عرض في تظاهرة “نظرة ما”. وهو أيضا الفيلم الثاني لمخرجه. وينتمي الفيلم بقوة إلى تيار السينما التي تعتمد على قصة أو حبكة ذات صيغة واقعية من السطح، إلا أن الفيلم يتعامل مع مادته كما لو كانت حكاية رمزية تشيع فيها أيضا روح العبث والمبالغة في تصوير تدفق المشاعر.

تبدو كل لقطة من لقطات الفيلم كما لو كانت منتزعة من قلب الواقع، لكن الفيلم يجنح خارج الواقع، ويحلق في سينما التفلسف والتأمل في المصير الفردي لرجل يفشل في أن يصبح شاعرا رغم أنه كان قد حقق في الماضي بعض النجاح كشاعر، لكنه فشل بعد ذلك، أن ينمي موهبته، وكما فشل في أن يكون زوجا صالحا وأبا لابنته التي هجرها، وهام على وجهه وظل يبحث عن ذاته، وعن نفسه الضائعة، وأصبح يعيش مع أمه العجوز ولا تكف شقيقته عن اتهامه بالفشل وبأنه أصبح عاطلا عن العمل.
هذا “الشاعر”- أي أوسكار، الذي يعتقد أنه شاعر موهوب، رغم أنف الجميع، رغم ان موهبته لم يعد لها وجود، يسعى لكي يخرج من يأسه ومن شعوره العميق بالإحباط، فيحاول البحث عن عمل لكن جموحه ورفضه ” التماثل” مع ما هو سائد من فساد وغش وتمثيل ظاهري وتحايل، يجعله دائما منبوذا مطرودا.
إن بطلنا الذي يعاني من عدم التحقق يتوقف باستمرار أمام مجموعة الأشعار التي كتبها في الماضي البعيد وأظهرت موهبته وكفلت له الفوز بجائزة أدبية رفيعة، إلا أنه في ولعه الشديد بمثله الأعلى، الشاعر الكولومبي خوسيه سيلفا الذي أنهى حياته بطلقة مسدس وهو في الثلاثين من عمره، يشعر بالرغبة في هجر الحياة بالمعنى التقليدي فلديه نزعة لتدمير الذات، فقد أدمن على الشراب واللهو والتشاجر مع أصدقائه.
ترفض ابنته أن تعترف به وتنهره وتتهمه بالتهرب من مواجهة نفسه، ثم تدفعه إلى البحث عن عمل. لكنه لن يبقى طويلا في العمل كمدرس رغم اجتهاده. فإدمانه للخمر يجعله أضحوكة عند طلابه لكنه سيظل يحاول التغلب على الإدمان.

وعندما يقع على موهبة حقيقية متألقة تصبح عنده بمثابة البديل لكل ما فشل هو في تحقيقه في مجال الشعر. إنها فتاة في عمر ابنته، تدعى “يورلادي” وهي موهوبة في كتابة الشعر والرسم أيضا، فهي ترسم قصائدها، لكنها لا تجد فائدة من الشعر كونها تعاني من الفقر المدقع مع عائلتها المتعددة الأطفال التي تعيش على هامش مدية “ميديلين”.
“أوبيمار ريوس” الذي يقوم بدور الشاعر “أوسكار” هو ممثل غير محترف لكنه بتكوينه الشكلي وقدرته على التماهي مع الشخصية كما لو كانت تعكس مشاعره الذاتية الداخلية، يمنح الفيلم كل قوته وجاذبيته. ولا شك أن الفضل يعود الى المخرج في قدرته على السيطرة الكاملة على الأداء، وعلى التجول داخل ذهنية إنسان يشعر أن العالم كان قاسيا عليه، لكنه سيصبح عندما يبدأ في مواجهة حقيقة نفسه وحقيقة قدراته، أكثر قدرة على تجاوز محنته؟
في الفيلم الكثير من التفاصيل التي تربك الحبكة في الثلث الأخير، وتجعل الفيلم يميل أكثر نحو الميلودراما، مع المزج بين أساليب متعددة، لكنه يظل عملا قويا استحق جائزة لجنة التحكيم في مسابقة “نظرة ما”.
