تساؤلات وخواطر عن صناعة السينما
لقطة من فيلم "ريش
شهاب بديوي
كدارس للإخراج السينمائي (وصناعة الأفلام عموما) هناك سؤال محوري/ أولي يقف أمامنا، ويظل عالقا في رؤوسنا دائما من البداية إلى النهاية خلال رحلتنا، هو “لماذا نريد أن نصنع فيلما؟”
يحتل السؤال عند المخرج/ المؤلف أهمية خاصة حيث أنهما أرباب العمل، وأساس العمل، والمسؤولين عن صناعته، ورغم أن هذا السؤال -أزعم أنه- لا يغيب عن رأس آي صانع أبدا، إلا أنه يعيد هيكلة نفسه من حين لأخر الأسباب مختلفة.
فأحيانا نطرحه على أنفسنا بسبب الإحباط الذي ينتج عن معوقات وعقبات في طريقنا لصناعة الفيلم، وخصوصا فيلمنا الأول. وأحيانا أخرى نطرحه مسترشدين به عندما تكثر أمامنا الاختيارات وتتشعب في مراحل تنفيذ الفيلم المختلفة. فتكون الإجابة عنه محورية تكشف لنا عما نريد أن نقوله وبذلك يسهل علينا الاختيار. وأحيانا أخرى يُطرح علينا من قبل الجمهور والنقاد بعد عرض فيلمنا على شاشات السينما.
نخص حديثنا الآن بالكلام عن الأفلام المستقلة (هناك عدد من المصطلحات التي تُستخدم للدلالة على نفس المفهوم أو تدور في فلكه مثل: السينما الحرة- السينما البديلة- السينما الفردية- السينما منخفضة الميزانية – independent cinema- Art-house film) ولو كنت على المستوى الشخصي أفضل مصطلح (السينما الذاتية) لأنها تدل على اعتماد الفيلم بشكل شبه كامل على رؤية المؤلف/ المخرج بعيدا عن متطلبات السوق السائدة).
من هنا نصبح أمام سؤال آخر هو: لماذا السينما المستقلة (الذاتية)؟
يمكن القول تعبيرًا عن السينما المستقلة إنها حركة تمرد واحتجاج على التيار السائد (السينما التجارية). وإذا سألنا صناع الأفلام المستقلة عن السبب وراء اتجاههم نحو السينما المستقلة بدلًا من التجارية قلما تجد أحدا أراد ذلك بقرار منه، ولا يوجد صانع أفلام يهتم بالتصنيفات والمسميات الذي ذكرناها سابقًا أثناء صناعته للفيلم، بل على العكس، كثيرًا ما يحتج صناع السينما على هذه المسميات، وما يهم صانع الفيلم حقيقة، هو تقديم فيلم جيد يعبر عن رؤيته. وهذا هو مربط الفرس كما يقال، وهو ما لا يتفق مع معايير السينما التجارية التابعة للسوق؛ فهناك محطات وقيود يمر عليها السيناريو قبل البدء في تنفيذه، وعندما يخرج السيناريو من هذه (المطحنة) فإنه يخرج مشوهًا بصورة لا تُرضي الصانع (صاحب المشروع)، ومن هنا اتجه يضطر إلى الاعتماد على الإنتاج المنخفض أو الشخصي في صناعة الفيلم هروبًا من (مطحنة) السوق.
الفيلم التجاري عندما يصل للمنتج سيبحث له أولًا عن نجم شباك يضمن به الإقبال الجماهيري، وهذا النجم له آراء وتعديلات على السيناريو فهو حريص على الحفاظ على صورته المكونة سلفًا في ذهن جماهيره. فهناك جمهور الممثل الكوميدي الذي سيعزف عن النجم إذا اتجه إلى الأفلام الدرامية الجادة مما يعني أنه سيخسر جزءاً من قاعدته الجماهيرية.
بالإضافة إلى ذلك هناك مساحة ضيقة (هامشية) من حرية الرأي هي المتاحة للصانع في ظل الأفلام الجماهيرية لأنه يراعي في صناعته للفيلم سلطة الجماهير، والدولة، والرقابة، ورجال الدين (الثقافة الدينية)!

أضف إلى ذلك عنصر الوقت، وهو عامل محوري في صناعة الفن فالصانع يحتاج إلى وقت كافٍ ليصل بأفكاره إلى حد من الكمال يكون راضيا عن الفيلم. أما في السينما التجارية فهناك أيام محدودة يجب أن ينتهي فيها الإعداد، والتحضير، والتصوير، والمونتاج. فلا يمكن أن نسمع أن فيلما تجاريا أستغرق مثلا سنوات في صناعته كما يحدث في الأفلام المستقلة (على سبيل المثال: فيلم ريش أو رفعت عيني للسماء أو غيرها من الأفلام) إلا بسبب ظروف قهرية أو حالات استثنائية. وهل من المتوقع أن يرتبط نجم شباك بعمل واحد لخمس أو ست سنوات!
في ضوء ما سبق نفهم أن ظهور تيار السينما المستقلة كان بمثابة حركة تمرد على السائد لصناعة سينما أكثر حرية.
ويجب أن ندرك أن الصراع بين السينما المستقلة، والسينما التجارية في باطن، هو صراع بين الفن (الجاد) وسينما السوق (الاستهلاكية).
أستغرق دافنشي قرابة الأربع سنوات في رسم لوحته الشهيرة (العشاء الأخير)، وثلاثة عشر عامًا هو الزمن الذي استغرقه مارسيل بروست في إبداع ملحمته (البحث عن الزمن المفقود).
تتصادم هذه المعايير – معايير الفن الجاد- مع معايير وآليات السوق الذي من قواعده إرضاء الأذواق، واتباع الشائع، والتبسيط المفرط (السطحية)، والسرعة مع غزارة الإنتاج.
وإذ نظرنا حتى إلى الهدف (الغايات) من صناعة السينما المستقلة سنجد أنها متباينة عنها في السينما التجارية. فالسينما التجارية (هدفها) الربح بينما يقع الربح ضمن (أهداف) السينما صحيح، ولكنه ليس (الهدف) من وراءها.
كما أن الأفلام التجارية تهدف – في الغالب- إلى التسلية أما السينما المستقلة (الجادة) فلديها هدف أسمى، وإن كانت التسلية من ضمن أهدافها، ولكنه ليس الهدف الأساسي، بل هي أقرب إلى أن تكون “طريقة لفهم العالم، طريقة لطرح أسئلة تخصني وتخص علاقتي بالسياق الذي أعيش فيه. لذا ما أنا مهموم به ليس المصطلحات أو المسميات إنها العملية الإبداعية التي تساعدني في فهم نفسي وفهم العالم أكثر. فالسينما بالنسبة لي طريقة للاكتشاف..” كما يقول المخرج تامر السعيد صاحب فيلم (آخر أيام المدينة) ردًا على سؤال “لماذا أريد أن أكون صانع أفلام؟”.
وهذه حقيقة يجب أن ندركها ونعترف بها؛ فالسينما المستقلة (الذاتية) ليست للتسلية، فلا يوجد صانع أفلام يضيع من عمره أربع أو خمس سنوات لصناعة فيلم هدفه تسلية الجماهير!
ولا أعتقد أن داوود عبد السيد أو محمد خان أو عاطف الطيب أو تامر السعيد أو عمر الزهيري أو مراد مصطفى، صنعوا أفلامهم لمجرد التسلية بل هناك شيء أعمق من ذلك.
وهذا الكلام ليس من شأنه التقليل من صناعة الترفيه (التسلية)، ولا يفهم منه كذلك بل هي عملية جد مهمة ولكن لها وسائلها الأخرى أولًا، ولا تصلح- في نظري- بمفردها كغاية من وراء صناعة ضخمة كصناعة الأفلام.

رجوعًا للمقدمة بشأن أهمية ومحورية سؤال ” لماذا أريد أن أصنع فيلم؟” بالنسبة للصانع (المخرج/ المؤلف) يحسن بنا أن نتحدث عن قصص مخرجين قدموا لنا أفلاما ذات مستوى فني رفيع، ولكنهم أصبحوا الآن ضحايا السينما التجارية، وهذا يحدث عندما يستسلم الصانع لمعايير السوق ورغبة الجماهير فيفقد نفسه ويُرضي الآخرين!
فلو نظرنا على بداية المخرج سعيد حامد، ورائعة (الحب في الثلاجة) سنستبشر بمسيرة مخرج من طراز خاص، وفريد له مستقبل عظيم في السينما، ولكن ما حدث كان على غير المتوقع نتيجة فشل الفيلم تجاريًا، وسخط الجماهير والنقاد (وقتها) أُحبط سعيد إحباطًا شديدًا. ولم يتماسك ليتحول بعد ذلك سعيد حامد إلى إخراج الأفلام التجارية مبتعدًا عن نوع السينما الذي كان يريد تقديمه في البداية لنخسر نحن عبقريًا فذ كسعيد حامد، ويخرج علينا بعدها بفيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية) الذي حطم الأرقام القياسية في شباك التذاكر، كأن سعيد حامد ينتقم لنفسه.
يحكي لنا الكاتب والصحفي بلال فضل عن مشاعر سعيد حامد وقتها فيقول: “أمام باب السينما فوجئت بسعيد حامد الذي كان يتلقى التهاني من الجميع، يتقدم نحوي ضاحكاً، وحين احتضنته مباركاً النجاح المستحق، قال لي بنبرة مليئة بالمرارة: “أهوه يا سيدي، آديني با عرف أعمل لهم اللي يبسط الجمهور ويخليه يسقف ويضحك، مش صعبة الحكاية يعني”، فبدا لي أنه لا يزال متأثراً بما حدث في تجربة (الحب في الثلاجة) قبل خمس سنوات، وحين أشرت إلى الواقعة في مقالي الأسبوعي في (الكواكب) حاول البعض الوقيعة و”التسويس” وتصوير ما قاله سعيد بوصفه تعبيراً عن عدم تقديره لفيلمه، مع أنه كان فرحاً بنجاحه، لكنه كان يتحدث عن الثمن الغالي الذي دفعه بعد فشل فيلمه الأول، دون الالتفات إلى قدراته الفنية الواضحة”.
ومن ذلك نشدد على أهمية ودور الإجابة على سؤالنا الذي طرحناه منذ البداية ” لماذا أريد أن أصنع فيلم؟” لابد أن تكون الإجابة واضحة للصانع، ويراقب نفسه جيدًا فإذا تغيرت الإجابة تغيرت الأهداف، وبالتعبية يتغير نتاجه الفني.
ولا يصح أن يخسر الفنان نفسه في مقابل إرضاء الجماهير وشهوة الشهرة والمال.
يبقى أن نطرح أسئلة جديدة قبل أن نغلق صفحات هذا المقال.. هل السينما المستقلة تتمتع بحرية تامة؟ أم أنها هربت من أجندة السوق وسقطت في أجندة المهرجانات وجهات التمويل؟ وهل عزوف الجماهير عن الأفلام المستقلة مسئولية الصانع ام الجمهور؟
وأسئلة أخرى سنحاول التعرض لها في مقالات قادمة إن شاء الله.
مصادر
- ” السينما المستقلة ” ليه؟ – أحمد الطيب – موقع مدى مصر
- البحث عن ماهر عواد – بلال فضل – رصيف ٢٢
