“ترومبو”.. دراما بديعة في الدفاع عن الحرية

أنتجت هوليوود في تاريخها القريب عددا من الأفلام البارزة التي سعت من خلالها إلى “تطهير” سمعتها وما شابها خلال فترة قاسية من التاريخ الأمريكي الحديث، عندما تحول عدد كبير من كبار نجومها إلى الوشاية بزملائهم خلال ما عرف بـ “الحقبة المكارثية”.

كانت تلك حقبة “الحرب الباردة” بين المعسكرين الأمريكي والسوفيتي التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية، وقد انعكس الصراع الأيديولوجي على الداخل الأمريكي ثم امتد ليشمل كل من يُشك في علاقته بالأفكار اليسارية الراديكالية، سواء أعضاء الحزب الشيوعي الأمريكي، أو المنظمات والنقابات والأفراد الذين ينتقدون النهج الاقتصادي والسياي لـ “المؤسسة” الأمريكية.

كانت هناك خشية حقيقية من تغلغل النفوذ السوفيتي داخل الولايات المتحدة، وسرعان ما تشكلت داخل الكونجرس لجنة “النشاط غير الأمريكي”، وامتد نشاط هذه اللجنة الى هوليوود، حيث اعتبر وجود عدد من كتاب السيناريو والمخرجين اليساريين، أمرا غير مرغوب فيه بسبب تأثير الأفلام على الرأي العام. وفي نهاية الأربعينات خضع عدد كبير من السينمائيين للاستجواب أمام هذه اللجنة برئاسة السيناتور جوزيف ماكارثي، من بينهم وأشهرهم، كاتب السيناريو دالتون ترومبو.

ترومبو هو الشخصية الرئيسية التي تدور حولها الأحداث في فيلم “ترومبو” Trumboللمخرج جاي روش عن سيناريو جون ماكنمارا. ويعتمد السيناريو على التفاصيل التي وردت عن تلك الشخصية المثيرة للجدل، في كتاب “دالتون ترومبو” للكاتب بروس كوك.

وقد يبدو أن صنع فيلم يدور حول شخصية رجل مهنته الأساسية الكتابة، عمل يصعب كثيرا تحويله إلى دراما سينمائية يمكن أن تشد الجمهور، خاصة جمهور الشباب المولع بأفلام الفضاء والمغامرات والكائنات المثيرة. لكن ربما كان نجاح تجربة سابقة في هذا المجال، بل وعلى مستوى أكثر صرامة كما  في فيلم “طاب مساؤك.. وحظا سعيدا” (2005) Good Night and Good Luck الذي أخرجه جورج كلوني، وكان مصورا بالأبيض والأسود ويعتمد على “أحاديث الراديو”، هو الذي شجع منتجي فيلم “ترومبو” على الإقدام على هذه المغامرة الفنية والإنتاجية.

الرجل والتاريخ

وليس من الممكن اعتبار فيلم “ترومبو” سردا موثقا لتاريخ الحقبة المكارثية، حقبة التفتيش في الافكار، واضطهاد المثقفين والكتاب وأصحاب الرأي التي امتدت لتشمل آلاف الأشخاص في عموم الولايات المتحدة، الذين ضغطت اللجنة على الجهات التي يعملون بها، لكي تعفيهم من  أعمالهم وبالتالي دفعهم للعيش تحت خط الفقر بعد أن فقدوا بيوتهم وتمزقت عائلاتهم وأصيب كثيرون منهم بالأمراض القاتلة.

إن هذه الأجواء موجودة في الفيلم، نلمحها من خلال ما نشاهده من انعكاسات ذلك الحظر على عدد من أبرز وأشهر كتاب السيناريو في هوليوود، منهم من يلقى مصيره بسبب العجز عن تغطية نفقات العلاج،  ومنهم بالطبع بطلنا ترومبو، الكاتب الموهوب الذي يتمتع بالقدرة على إنقاذ الكثير من المشاريع السينمائية الكبرى من السقوط، فقد كانت تلجأ إليه كبرى شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود  لكي يقوم بإعادة كتابة السيناريوهات بحرفيته العالية ومهارته ككاتب يتمتع بالخيال. وقد ظل ترومبو يمارس كتابة الأفلام منذ أوائل الأربعينات محققا نجاحا كبيرا، إلى اضطر للظهور أمام لجنة النشاط المعادي أو غير الأمريكي في الكونجرس والخضوع للاستجواب، لكنه رفض الإجابة على الأسئلة التي وجهت له، فقد رأى أنها تتعارض مع حقه الدستوري الأصيل كمواطن في اعتناق الفكر الذي يراه طالما أنه لا يهدد سلامة المجتمع بأي حال.

الفيلم لا يسعى إلى تقديم تاريخ للفترة، بل يركز أكثر على الدراما الهائلة التي تنشأ عندما يجد رجل مرموق في مجاله، نفسه مع أسرته، ممنوعا من العمل وبالتالي يواجه مع أفراد أسرته: زوجته وابنه وابنتيه، حرب تجويع بمعنى الكلمة، ناهيك عن تشويه السمعة الذي لحق به بعد أن انصرف عنه الجميع فقد أصبح في أنظار الرأي العام (خائنا)!

يختار سيناريو جون مكنمارا بدلا من تناول قضية “العشرة الكبار” أو ما عرف بـ “قائمة هوليوود السوداء” التي سبق تناولها في عدد من الأفلام، تناول الموضوع – ليس من الزاوية السياسية- بل من زاوية إنسانية، تتعلق بحرية الفكر بشكل عام وليس فقط بالنشاط اليساري الراديكالي، من أجل تقريب الفيلم الى جمهور الطبقة الوسطى الأمريكية ومن الشباب الذي لا يعرف الكثير عن تفاصيل تلك الفترة.

يصور الفيلم كيف يتحايل “ترومبو” ويجند جميع أفراد أسرته الصغيرة، من أجل مقاومة تلك العزلة الإجبارية التي فرضت عليه ككاتب، واختراق “القائمة السوداء” ومواصلة العمل والكتابة سرا، تحت إسم مستعار، لحساب شركات هوليوود التي رحبت بقبول ما يكتبه، أولا لأنها لم تكن تدفع المقابل المادي الذي كانت تدفعه له في السابق عن سيناريوهاته بل أقل كثيرا، وثانيا لكي تضمن مستوى عاليا من السيناريوهات من تروبمو وغيره من كتاب السيناريو الكثيرين الذين شملهم المنع.

موقف المثقف الرافض

ترومبو هنا يرمز للمثقف صاحب الموقف والرأي، الذي يفضل السجن على الخضوع لما تطلبه منه “اللجنة”، أيالوشاية بزملائه وستنكار أفكاره والتخلي عن مبادئه، على عكس ما فعله كثير من زملائه ومنهم الممثل الشهير إدوارد ج روبنسون، الذي وشى به وبغيره مختلقا الكثير مما كانت اللجنة ترغب في سماعه، لكي ينقذ نفسه، ثم لم يحد غضاضة فيما بعد، أي بعد أن غادر ترومبو السجن الذي قضى فيه عاما بتهمة ازدراء الكونجرس، من أن يطلب من ترومبو أن يقوم سرا، باصلاح السيناريوهات التي تُعرض عليه لانقاذه من هوة الفشل التي سقط فيها بعد أن كان نجما مرموقا. وقد واصل ترومبو الكتابة، إما تحت أسماء مستعارة أو أسماء حقيقية لغيره من الكتاب الذين كانوا يتقاسمون معه العائد المادي، فأنتج 17 سيناريو خلال الفترة من 1950 إلى 1960، من بينها سيناريو فيلم “الرجل الشجاع” The Brave One(1957) الذي حصل على أوسكار أحسن سيناريو دون أن يتمكن ترومبو من استلام الجائزة التي ذهبت لصاحب الإسم الذي وضع على السيناريو وكان لكاتب مغمور في هوليوود لكنه كان يتمتع بالشرف والنزاهة مما جعله يتقاعس عن الظهور لاستلام الجائزة بل حاول تسليمها لترومبو الذي رفض كما نرى في الفيلم، قائلا إنه يجب أن يقبلها هو لأن اسمه عليها. هذا الموقف سيدفع ابنته التي نرى في الفيلم أنها كانت متأثرة كثيرا بشخصيته، الى أن تطالبه فيما بعد بضرورة استعادة الجائزة لنفسه!

يظهر في الفيلم ممثلون يقومون بأدوار بعض شخصيات هوليوود الشهيرة مثل جون واين الذي تزعم مع الكاتبة الصحفية هيدا هوبر (تقوم بدورها في الفيلم هيلين ميرين) ما عرف بـ “تحالف صناع الأفلام” لمقاومة النشاط الشيوعي في هوليوود تحت شعارات وطنية، كما يقوم الممثل دين أوجورمان بدور النجم الشهير كيرك دوجلاس. ويظهر أيضا من يقوم بدور المخرج الأمريكي من أصل نمساوي، أوتو بريمنجر، الذي كان أول من صرح علانية عام 1960 بأنه أسند كتابة سيناريو فيلمه “الخروج” إلى دالتون ترومبو باسمه الحقيقي، وتبعه على الفور كيرك دوجلاس في تحد سافر للقائمة السوداء، عندما أصر على إسناد كتابة سيناريو فيلم “سبارتاكوس” الى ترومبو دون التخفي تحت أي اسم مستعار.

لقطات الأرشيف التسجيلية

في الفيلم تقوم الصحفية هيدا هوبر بمحاصرة ترومبو، وتشن حملة ضد كيرك دوجلاس بالتعاون مع جون واين (الذي يطلقون عليه الدوق) لدفعه الى الاستغناء عن ترومبو والتهديد بمقاطعة الفيلم. ويستخدم المخرج الكثير من اللقطات التسجيلية للأحداث الحقيقية في الفيلم من بينها استجوابات لجنة ماكارثي أمام الكونجرس، والمظاهرات التي نظمت أمام دار العرض التي شهدت العرض الأول لفيلم “سبارتاكوس”، وهي لقطات من الأرشيف (بالأبيض والأسود) كان المخرج يركز عليها ثم  ينتقل من داخلها الى اللقطات المصورة للفيلم باستخدام الممثلين، كما ينتقل من الأبيض والأسود الى اللقطات الملونة. ويستمر هذا الأسلوب حتى النهاية، لا يقطعه إلا عند نزول العناوين الختامية للفيلم، عندما نرى شخصية ترومبو الحقيقية أثناء تكريمه من قبل “نقابة كتاب السيناريو الأمريكيين”، ثم نشاهده في مقابلة تليفزيونية أمام الكاميرا معلقا عن انتصاره على قائمة هوليوود السوداء، كما يقوم باهداء جائزة الأوسكار التي عادت إليه، الى ابنته التي يعتبرها الأكثر استحقاقا منه بالجائزة، بعد ان قامت بدور أساسي في مساعدته على الصمود والمقاومة.

وكما يهتم الفيلم بالعلاقة الخاصة بين ترومبو وابنته، يهتم أيضا بابراز علاقته بزوجته “كليو” (تقوم بالدور ببراعة الممثلة جيان لين) التي صبرت وصابرت وصمدت معه، وتولت رعايته وتحملت فظاظته التي بلغت أحيانا، حد المغالاة واتزيد، عندما كان لا يتوقف عن التدخين والكتابة، وكان أحيانا- كما نرى في الفيلم- يجلس داخل البانيو وسط الماء، لكي يستطيع الاسترخاء والاستمرار في الكتابة حتى يمكنه أن يلحق بالموعد المحدد لتسليم السناريوهات، رافضا حتى المشاركة في الاحتفال بعيد ميلاد ابنته.

في أحد المشاهد البديعة في الفيلم نشاهد ترومبو يلتقي بجون واين الذي يرفض مصافحته باعتباره (خائنا)، ويلقي على مسامعه محاضرة مقتضبة عن  ضرورة الإخلاص للوطن وكيف أن امريكا انتصرت لتوها في الحرب بفضل القيم الديمقراطية، فيسأله ترومبو ببساطة: وأين كنت أنت أثناء الحرب؟ لقد كنت وسط الديكورات، تضع الماكياج وتطلق الرصاص على الهنود الحمر”!

يختلق السيناريو شخصية كاتب يدعى أرلين هيند، كان مريضا بسرطان الرئة، سُجن مع ترومبو بسبب معتقداته السياسية، وكان ترومبو متعاطفا معه كثيرا، لكن أرلين كان يتهمه بأنه “يتحدث كراديكالي لكنه يحيا حياة رجل ثري”، فيقول له ترومبو: “ليس المهم ما تقوله، بل ما تتخذه من مواقف وتكون مستعدا لدفع الثمن”!

من الممثلين الخمسة المرشحين للحصول على جائزة الأوسكار، الممثل بريان كرانستون الذي يبرع كثيرا في أداء دور ترومبو، فيقدم الشخصية في أطوارها المختلفة، كأب وكاتب ورجل مهتم بمستقبل بلاده ومقاوم شرس ضد الفاشية، يرفض قمع الآراء المخالفة تحت شعار حماية الوطن، منتقلا من الوداعة والرقة، إلى التوحش والعدوانية بعد أن يجد معزولا، يريد أن يثبت وجوده ككاتب مازال يملك القدرة على الإبداع، وفي الوقت نفسه، يضمن دخلا لأسرته، ولكنه يدرك أيضا في الوقت المناسب مدى الضرر الذي أصاب أسرته بعد أن أصبح يتعامل مع أبنائه كفريق من التابعين، يتلقون منه التعليمات، ثم يقومون بتوصيل مخطوطات سيناريوهاته سرا الى شركات الإنتاج في هوليوود.

إن أداء كرانستون يرشحه بلاشك للحصول على الجائزة التي أرى أنها يستحقها، غير أن المنافسة ليست سهلة هذا العام. فغيره أيضا يستحقها. وما علينا سوى أن ننتظر ونرى!

Visited 52 times, 1 visit(s) today