بيان من أجل سينما حديثة: “سارق الدراجة” ملهما!
تعيش السينما المغربية عصرها الذهبي على مستوى الإنتاج، وذلك بفضل سياسة الدعم التي تبنتها الدولة منذ ثلاثة عقود، وبفضل اجتهادات المخرجين المغاربة ورغبتهم في تقديم قصص اجتماعية وسياسية بواسطة الصورة.
غير أن القراءة الأولى للمنتوجات “السينمائية ” الأخيرة، تبين أن نسبة كبيرة من هذه الأفلام لا علاقة لها بالسينما بالمعنى النظري الفني والعلمي، بل هي عبارة عن منتوجات سمعية بصرية تستعمل في مجال التسلية الجماهيرية محدودة المجال. وحتى نكون موضوعيين،علينا أن نقر بأن هناك استثناءات قليلة تخرج عن هذه القاعدة، وتثبت أصالة وابداعية ثلة من المخرجين الذين أعطوا للساحة الثقافية أفلاما سينمائية خالدة، تصلح لكل زمان ومكان، جعلت من مواضيع محلية قضايا دولية، وذلك بفضل ابداعيتها وتمكنها من المعرفة السينمائية، ومن معرفتها بمجتمعها في سائر تحولاته الاجتماعية والتاريخية.
ولإحياء الذاكرة البصرية للمشتغلين في مجال السينما ولمحاولة اعطاء نموذج من الأفلام الخالدة التي تجاوزت عصرها وأثبتت حداثتها الفنية والفكرية والجمالية، نتقاسم مشاهدة فيلم “سارق الدراجة” للمخرج الإيطالي فيتوريو دو سيكا.
يحكي الفيلم قصة عامل معطل، يبحث عن عمل لإنقاد نفسه وأسرته من الفقر والحاجة، وعندما يحصل هذا العامل على عمل، يشترط عليه صاحب العمل أن يكون مالكا لدراجة هوائية، تضمن تنقله. وأثناء قيامه بعمله، وفي غفلة منه، تسرق دراجته، فيدخل في رحلة طويلة عبر أسواق وأحياء روما من أجل البحث عن هذه الدراجة، رفقة ابنه الصغير، وعندما ييأس من العثور على دراجته يحاول سرقة دراجة اعترضت سبيله، لكنه يسقط بين أيدي مجموعة من المواطنين الذين يقبضون عليه ويوجهون له الاهانات أمام ابنه.
هذه هي الحكاية التي كتبها السيناريست زفاتيني الشهيروالتي نختار منها
المشهد الأول، لقراءته قراءة جمالية، تبين لنا العلاقة التكاملية الكامنة بين السيناريو والميزانسين والاخراج والتي أعطت للفيلم قوته الابداعية.
يكتب سيزار زفاتيني في المشهد الأول من السيناريو مايلي:
مجموعة من العمال، في ساحة روما صباحا، يتوجهون الى مكتب التشغيل للبحث عن العمل. يخرج رئيس المكتب إليهم، وينادي ريتشي، يسلمه ورقة العمل، ويشترط عليه ان تكون له دراجة لممارسة هذا العمل.
عندما ينتقل هذا المشهد الى يدي المخرج دو سيكا، يفكر فيه أولا من خلال الميزانسين الذي يمكنه من ترتيب وتركيب المكان بطريقة سمحت له بخلق دينامية في الحركة الدرامية، ووضع المبادئ الأساسية لانتاج المعنى. وكان أهم عنصر اعتمده دو سيكا في التقسيم الدرامي، هو الفضاء، حيث اخترع مبدأ السلم، الذي مكنه من تدبير مهمة الإخراج بشكل سيمفوني يضبط الإيقاع الزمني، بطرقة كريشندو، ليضع المشكل والإشكالية منذ المشهد الأول، الأمر الذي يثبت عبقرية هذا المبدع وعبقرية فيلمه.
بعد وضع الميزانسين، من خلال السلم، يقسم دو سيكا المشهد الى اربعة وعشرين لقطة لتصوير السلم، يستعمل فيها جميع مستويات اللقطات، من اللقطة المتوسطة الى اللقطة القريبة، كما يستعمل زواية النظر الغاطسة والمضادة، ويصور كل هذه الدينامية، ذات الايقاع السريع بكاميرا ثابتة ومتحركة، ويستغرق هذا المشهد ثلاث دقائق.
إن استعمال مفهوم المرئي واللامرئي لقراءة هذه المتوالية السينمائية (لأن المشهد عندما يلمسه الاخراج يتحول الى متوالية) يوضح لنا ان اغلب المشاهدين البسطاء، (وربما المخرجين البسطاء كذلك وقد كثر عددهم مؤخرا) يقفون عند الحدوتة التي هي قصة السيناريو، ولا يظهر لهم اللامرئي الذي هو ما يبينه الميزانسين وما تكونه الكاميرا من خلال اللغة السينمائية الدقيقة التي تتجاوز التصوير التعييني الى التعبير الايحائي والجمالي.
وهكذا تساعد الخبرة الجمالية المشاهد، على أن يتجاوز الحكاية، الى معناها (وليس مغزاها). ولبناء معنى هذا المشهد علينا ان نبحث عن دلالة السلم في كل الحضارات والثقافات، وسنجد أن السلم مكان للعبور لا نقف فيه ولا نسكنه، لأنه مكان مائل، كما أنه مكان اشكالي، لأنه يؤدي الى الهبوط أو إلى الصعود، كما أنه شبيه بالصراط في الجحيم الدانتي، وقد استعملته الحضارة الإغريقية والرومانية كمسار للصعود الى المذابح القربانية، للتقرب الى آلهة جبل الأوليمب. وقد اعتمدته الميثولوجيا الإغريقية كفضاء للتتويج في الألعاب الأوليمبية. ولعل هذا يبين لنا الدلالات المتعددة التي يمكن ان نلبسها للعامل العاطل ريتشي عندما يناديه الموظف باسمه، فيصعد السلم الى القمة، لينظر من زاوية غاطسة الى جموع العمال الذين لا نرى في البداية الا أكتافهم.
ان الحصول على العمل، هو الذي يسمح لريتشي بأن يصبح له اسم، أي هوية تعيينية من دون العمال الآخرين، كما أن العمل هو الذي جعله يصبح مختارا من دون الآخرين، ليصعد الى فضاء التتويج، وتحتفل به الكاميرا وهو يصعد السلم، لتعانق وجهة نظره الغاطسة من أعلى الى أسفل (واحد، عامل، ضد الجمع أو الحشد، عاطل). إن العمل الذي حقق لريتشي هويته سيحقق له كذلك وسيلة للعيش تنقده من الضياع وتسمح له كذلك بإستعادة كرامته الانسانية التي فقدها منذ ان فقد عمله. وعندما تردد ريتشي في الاعتراف بأن له دراجة، حيث هبط من اعلى السلم الى الوسط على مستوى الميزانسين، كما تخلت الكاميرا عن وجهة نظره، وصورته من اعلى الى أسفل، للتعبير عن هشاشة وضعه ووضعيته. ويظهر الهدف الثالث الذي حققه العمل بالنسبة لريتشي، بشكل ضمني، هو التدبير الزمني، حيث يقول الحكماء “ان حلاوة العطلة تأتي من ايام العمل التي تحيط بها”. معنى هذا ان الانسان العاطل لا يتمتع بالزمن لأن الزمن يتطلب ان يخضع الى تنظيم وأهم عنصر يساعد على تنظيم الزمن واستثماره هو العمل، وبدون العمل يتحول الزمن الى عدو.
إن فلسفة الإخراج عند دو سيكا، تجعل من أفلامه، أعمالا خالدة تنبض بالمعنى وقابلة للتفسير في أي عصر، وما أحوجنا الى مشاهدتها واعادة مشاهدتها، من اجل الخروج من هذه الحبسة الابداعية (حتى لا نقول الأزمة) التي تعيشها السينما المغربية.
وما أحوج مثل هذه الأفلام الخالدة الى مرافقين ثقافيين، يعملون على ايصالها الى جمهور فاعل وذكي، يجعل منها مرجعية ذوقية وجمالية، تمتعه وتقيه من التراكم السمعي البصري، الذي يهيمن على كل القنوات التواصلية، ويحجب الرؤية عن الأعمال الفية المتميزة. كما ندعو المخرجين الشباب الى الاطلاع على هذا النوع من الأفلام، من أجل خلق سينما حديثة، تفهم العصر والمعاصر وتتجاوزه ولا تغرق فيه.
* ناقد سينمائي من المغرب
Visited 44 times, 1 visit(s) today