“الهدية”.. وسيلة ضمنية لنقل الحاضر

Print Friendly, PDF & Email

للسينما الفلسطينية تجارب عديدة عن أفلام  دارت أحداثها عن أزمة ومعاناة الفلسطينيون مع الجدار العازل وكان أخرهم “200 متر” لأمين نايفة الذي رشحته الأردن ليمثلها في جوائز الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي وقام ببطولته علي سليمان لكن يعتبر الفيلم القصير “The Present” أو “الهدية” للمخرجة فرح نابلسي من أجمل ما شاهدت عن تلك المعاناة من خلال تجربة لا تتجاوز النصف ساعة في الفيلم الذي وصل للقائمة القصيرة ضمن جوائز الأوسكار ال 93 لأفضل فيلم قصير والتي من المقرر أن تعلن في ال 26 من إبريل الحالي.

تعد فكرة التركيز على الجدار العازل في الأحداث دون غيره من الأسباب المهمة التي جعلت الفيلم أكثر جمالا وتشويقا من تجارب أخرى يكون الجدار خلالها مجرد اطار للأحداث أو يتم طرح قضايا وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى تسير بالتوازي مع أزمة الجدار الذي مزق الواقع الفلسطيني وتسبب في حالات من التشتت الأسري بالإضافة إلى التفاصيل الإنسانية شديدة التمييز التي وضعتها المخرجة في فيلمها، فالأزمات الفلسطينية التي تطرح على مستوى السينما قد تكون متشابهة لكن الجميل هو كيفية طرحها على الشاشة من خلال تفاصيل مبتكرة وحبكة طازجة غير تقليدية وهو ما يتوفر في فيلم “الهدية”.

يبدأ الفيلم بمشهد للأب يوسف الذي قدم دوره الممثل الفلسطيني صالح بكري وهو يقف في طابور طويل وسط أعداد كبيرة من الفلسطينيين الراغبين في عبور الجدار من أجل التوجه إلى العمل خلال ممر في منتهى الضيق في مشهد غير إنساني من الزحام بالإضافة إلى المعاناة التي يواجهونها عند الوصول إلى نقطة التفتيش لعرض التصاريح الخاصة بهم التي تقل في بشاعتها عن صورة الطابور الضيق الطويل جدا.

في يوم الإجازة الوحيد ليوسف من العمل يتزامن مع الاحتفال بعيد ميلاد زوجته نور “مريم كامل الباشا” التي تسأله عن حال ظهره بعد الإرهاق الكبير نتيجة العمل طوال أيام الاسبوع، يضطر يوسف إلى الذهاب لعبور الجدار مرة أخرى مع ابنته ياسمين “مريم كنج”حتى يتجه لشراء ثلاجة جديدة وهي هدية عيد ميلاد زوجته وأيضا شراء بعض “البقالة” ومستلزمات المنزل.

نجحت المخرجة فرح النابلسي في عرض المشاهد الخاصة بالمضايقات اللإنسانية التي تعرض لها يوسف وابنته أمام نقطة التفتيش وفي المقابل نرى المكان الواسع الذي يعبر من خلاله الإسرائيليين عن طريق نظرة ياسمين لأحدى الأسر الحريدية “اليهود المتدينين” وهم يعبرون في سيارتهم بمنتهى السلاسة والحرية والسرعة بينما تجد والدها موقوف في سجن مروري حتى يتم تفتيش أغراضه.

 بعد شراء الهدية ومستلزمات المنزل يتعنت الإسرائيليون مرة أخرى ويرفضوا عبور السيارة التي تحمل الثلاجة مما يضطر يوسف إلى جرها بواسطة عربة مشتريات صغيرة التي تعهد بإعادتها مرة أخرى للبائع في اليوم التالي وبدأ يوسف وابنته ياسمين رحلة العودة عبر الطريق سيرا على الأقدام ويتعرض لنفس المضايقات اللإنسانية على نقطة التفتيش مرة أخرى مع نفس الجنود لكنه هذه المرة يفقد أعصابه.

يوسف ذلك الشاب الأربعيني ظاهريا لكنه واقعيا عجوز في الثمانينيات بسبب الهموم والإرث الذي يحمله الذي تسبب في شعوره الدائم بألم، يوسف واجه الاحتلال في الماضي لكنه في الحاضر انحنى ظهره أكثر بسبب محاولاته للتأقلم مع الوضع الحالي والأمر الواقع الذي يفرضه عليه ظروف الاحتلال الغاشمة، يرفض اللغة العبرية بالرغم أنه بالتأكيد يجيدها لكنه يتعمد التحدث مع الجنود الإسرائيليين بالإنجليزية صحيح ان المخرجة لم تصرح بهذا خلال الأحداث لكنه ظهر جليا من خلال تعبيرات يوسف سواء أثناء التحدث أو أثناء سماعه محادثات الجنود فيما بينهم بالعبرية، يوسف الذي ذاق مرارة أسوأ شعور في الوجود وهو أن يكون الأب عاجز وقليل الحيلة أمام أعين ابنته.

 اختيار اسم الفيلم “The Present” يحمل المعنيين “الهدية” و”الحاضر” فلم تكن تلك الهدية سوى وسيلة ضمنية لنقل صورة حية للوضع الحالي أو الحاضر والمعاناة اليومية للأسر الفلسطينية سواء في التعامل مع الجدار أو الاحتلال بشكل عام، ذلك المحتل الذي يتعنت في مسألة عبور ثلاجة بعد أن فشل يوسف في أن يجعلها تعبر إلى داخل الممر الضيق مما جعله يطلب من الجندي ان يمر بها من المجرى الواسع الخاص بالإسرائيليين لكنه يرفض ويكون اكثر اصرارا وتعنتا على الرغم من أن الأحداث تدور في المساء والمعبر نفسه خالي من البشر، وحتى لم يبالي الجندي بطلب صديقه في ان يجعل يوسف يمر لكن الجندي المتعنت تعلل بالالتزام بالتعليمات والنظام والقانون.

وسط ثورة الأب وتوجيه الجنود الإسرائيليون لمدافعهم الرشاشة في وجهه وتهديدهم وتوعدهم له اذ يفاجئ الجميع بالطفلة التي لم تتجاوز العشرة أعوام تقوم بجر الثلاجة بواسطة عربة المشتريات وتعبر بها عن طريق المنطقة الخاصة بالإسرائيليين لتمر الهدية بسلام.

نهاية تحمل تفاؤل مهم وأمل كبير في أن الأجيال القادمة هم الحرس الأصلي للقضية وصمام الأمان والركيزة الأساسية للدولة الفلسطينية وهم شهود على المعاناة النفسية والجسدية وقلة حيلة آبائهم تجاه الآلة الإسرائيلية العسكرية، قد تكون ياسمين ببراءتها وتصرفها العفوي الجريء تجسيد لشخصية يوسف في الماضي من قبل انحناء ظهره واصطدامه بالأمر الواقع، فهل ستواصل ياسمين الصمود في المستقبل وتنجح في العبور بالقضية عبر الطريق الخاص بالإسرائيليين أنفسهم ؟.

Visited 52 times, 1 visit(s) today