“الكونت دي مونت كريستو”: تجديد خطاب الانتقام بقوة السينما

مضت ثماني عشرة سنة على بدء تعاونهما المشترك بين الانتاج والكتابة والاخراج قبل ان تصل اسماء ألكساندر دو لا باتيليير وماتيو دولابورت الى جمهور واسع بات يعلم ان ادب ألكساندر دوما –ومن خلالهما كاقتباس فرنسي– قد دخل الالفية الثالثة فعليًا مستعينًا بكل وسائل الانتاج الرقمية اللازمة لتحقيق الشعبية الجماهيرية مثلما انجزها اول مرة حين صدر ككتاب. ناسجين لحكايته الروائية ثوبًا جديدًا يمزج الحداثة وما بعدها بالكلاسيكية، ليلبسه الكونت مونت كريستو دون ضجة ولا مبالغات رغم ادراج افكار الحراك الاجتماعي المعاصر رتوش لتأطير طبيعة بعض العلاقات ونمط السلوك!

خلطة الفيلم الدرامية تسعى لأن تتكيف مع النسق الحياتي ولغة العيش للعقد الثالث من القرن الحادي والعشرون حيث البشر الرقميون يميلون الى أفعال الديجيتال ودهشاته بدلًا من تصفح اوراق كتاب مسطورة بالكلمات مع كل الضغوطات المولدة لانخفاض قابليات التفكير كما يقول استاذ علم النفس ريتشارد هاوس. ينساق الفيلم فيها نحو مقتربات النجاح التجاري حيث السرعة في الايقاع والابهار البصري المرتكز على الابتكار والبهرجة في الشكل مع التقليل من العمق السردي وبناء الشخصيات كلما سنحت الفرصة –خصوصًا عند الانتقالات الزمنية- بما ينسجم مع فكرة الترفيه المطلوبة.

التعاون الاخراجي الثالث بين ألكساندر وماتيو بعد ادراكهم ان عوالم دوما الروائية هي المفتاح لبوابة النجاح الكبير، سبقه فيلم كانا فيه قد طرقا الباب من خلال دارتانيان وأصدقائه عندما كتبا الاقتباس السينمائي لرواية الفرسان الثلاثة قبل عام، ثم ليتحولا نحو تشكيل اقنعة الانتقام التي ارتداها ادمون دانتَسْ. يضمن خليط الانواع الادبية في النص الروائي النجاح للفيلم بمجرد توفر حُسن تعامل انتقالات السرد من الدراما الى الرومانسية ثم التراجيديا، مع خط حركة واسع للحدث يرتحل زمنيًا ومكانيًا بين البر والبحر ليقدم صورة مشوقة للمغامرة والفعل البطولي المصحوب بمناورات ودسائس ومكائد تخلق الاساس الملحمي لصراع الافعال والسجايا.

ان مسعى رواية الكونت مونت كريستو في استلهام موضوعة العدالة ومجازاة الظلم بالقوة الشخصية يهدف الى اثارة اسئلة اخلاقية متعددة ما يجعلها استكشاف مُتَبَصَّر لتعقيدات النفس البشرية في خضم امواج الحياة المتلاطمة. ويرى المخرج ألكساندر ان (الروائي دوما) يوجه في عمله “نقد شديد القسوة لرحلة مونت كريستو –للانتقام- وهو ما يسمح للمشاهد بالقيام بهذه الرحلة التأملية معه. ففي هذا العالم الذي كان عنيفًا في ذلك الوقت ولا يقل عن ذلك كثيرًا اليوم وجدنا أن فكرة الانتقام لم تتقادم على الإطلاق.” فيما يعتقد زميله المخرج ماتيو ان هناك “ عنصر آخر مثير للاهتمام وهو كون مونت كريستو رجل بلا دين ولا وطن ولا أخلاق. انه ليس روبن هود. لقد وجد كنزًا وبدلاً من مشاركته احتفظ به لنفسه لإشباع رغبته في الانتقام.”

يستدعي المخرجان الفرنسيان سمات القوة الدائمة لكتاب دوما الخالد لتأسيس خلطة فيلم سينمائي جاذب يعطي لنوع الأكشن قيمته المثيرة على الشاشة، فيمنحاه الايقاع والزمن المشهدي المطلوب مستلهمين اجواء البيئة الحضرية للواقع التاريخي في معالجة موضوعات العدالة والفساد والتضحية واخلاقيات الانتقام وبين ثناياها موائمة اجندات اجتماعية معاصرة مع افكار النص الروائي. لكن الطموح الاكثر من اللازم في حفظ نسق الجاذبية السردية يدفع لمعاناة عناصر الحبكة شيئا ما نحو التسطيح بسبب تسريع تطوير الشخصيات وتنمية دوافعها الظاهر منها والباطن بما يؤثر على نضوجها واكتمال صورتها. ومن الانصاف الاشارة الى ان ذلك سيمر دون ملاحظة واسعة نتيجة النسق البصري الديناميكي الجيد والناجح في خلق ايقاع الحركة بفعل تنوع اللقطات وزواياها مع مساحة واضحة لمونتاج سريع يوظف بشكل مقبول الصور المنتجة من كاميرا الدرون –رغم اني لا احبها ولا استسيغ لقطاتها- بما يجعلها منسق الانتقالات وبوابات الحركة والنافذة على التالي من فوران المشاعر وانعطافات القصة.

احد اسرار رواية الكونت مونت كريستو في قابليتها الدائمة للتطوير الدرامي ومرونتها السردية، فأساسها الادبي الواسع والمتين يمنحها القدرة على استيعاب الاضافات الدرامية والتفرعات الحكائية دون ان يترهل النص او ينحني هيكله بفعلها. على هذا النحو يكتب المخرجان اقتباسهما، فالتغييرات الدقيقة الفرعية اعطت جو من الاثارة يسمح للنص السينمائي المتجدد ان يتجه بالاطار النوعي المرغوب. فالسيناريو يحافظ على الاصل بيد انه يتحرك في التفاصيل، فيعيد ابتكار مسارها دون ثلم الاساس الروائي بما يبرز الطبيعة الملحمية التي تتعزز بالنهج البصري في استغلال الفضاءات ضمن الكادر وزخرفتها جماليًا-تضمنه الجودة الكبيرة لاختيارات المواقع وتصميم الازياء واختيارات الديكور- بما يخلق مزاج شعوري فخم ينهل من البيئة المكانية –الطبيعة الخلابة- والنسق الحضاري-معمار القصور وتأثيثها- لتوفير الزمن التاريخي. كما يعمل المخرجان على ارساء قواعد الاحساس والطبيعة العاطفية للشخصيات وعلاقاتها من خلال التركيز على تفعيل الحواس البشرية باستخدام ذكي لشريطي الصورة والصوت كرصد وقع الاقدام او لمس الاشياء والموجودات لخلق صورة التواصل الذي سينقطع مع تقدم الاحداث. الامر الذي يدفعنا نحو اكتشاف زخم الثنائيات المتضادة التي تمتلئ بها الحكاية كالحب والكراهية والخير والشر واللؤم والنبل والانانية والتضحية. جميع ذلك سيظهر لنا مع تغير نمط اضاءة التكوينات من اشراقة الطبيعة المنعكسة على مصداقية العواطف في بدايات الفيلم والملهمة لتطلعات المغامرة الحياتية السعيدة لشخصية البطل نحو مشاهد اكثر قتامة وظلمة تنسجم مع انقلاب المصير الواقع على دانتَس حتى ينتهي عند مظهر باروكي للصورة السينمائية للفيلم.

تبدو ميكانزمات الاضافة الدرامية للاقنعة كاستخدام سينمائي فاعلة في خلق الجذب المطلوب وتطوير القصة وتعزيز التوتر والاثارة بالذات في مواقف المواجهة بين دانتَس وخصومه، غير ان جودتها العالية وتقنيتها المتقدمة تثير التساؤلات عن مصداقية توفرها في عصر الاحداث مع التأكيد على ان الفكرة مبررة سينمائيًا ولا غرابة فيها.

ادرك المخرجان بحسهما الانتاجي ومع توفر ميزانية كبيرة لصناعة فيلم شباك يقترب من المعايير الهوليوودية انهما بحاجة الى ممثل يمنح حضوره وكاريزماه الثقل اللازم للشخصية الرئيسية وهو ما ينجح فيه بيير نينَي الذي استطاع تصوير الاضطراب العاطفي وتجسيد ميلودراما اللحظات الحزينة وتقديم صور متنوعة لتبدلات حال الشخصية بين البراءة والهشاشة والانكسار راصدًا التعقيدات النفسية لرحلة دانتَس من الامل الى اليأس ثم الانتقام فالتضحية حين ارتدى عباءة الكونت مونت كريستو. كما ان اداءات بقية طاقم الممثلين لم تكن اقل جودة وزادت من تناغم الشخصيات على الشاشة. غير ان الموسيقى لم تكن بذات المستوى وبدت احيانا محدودة التأثير وتقليدية الافكار النغمية لتوصيف المظهر الشعوري او التعبير عن الاثارة والتوتر.

على كوكب السينما وطاقته الخَلاّقة يمكن للرؤية الفرنسية الجديدة ان تحمل رواية ألكساندر دوما الكلاسيكية بصريًا حيث تسمح لإدمون دانتَس بالعبور من بحر الاصالة الى ساحل الحداثة رفقة قناع الكونت مونت كريستو دون ان تفقدها شعبية السلعة ولا اسرار الغموض الاخلاقي التي تُتيح للمشاهدين باستكشاف الفروقات الدقيقة للصفات البشرية من الخيانة الى الخيار الصعب بين هوس الانتقام او آلام التضحية.      

Visited 37 times, 1 visit(s) today